توماس برّاك.. حين يُصبح الكلام خريطة سياسية موازية

لم تعد التصريحات المتكرّرة التي يطلقها المبعوث الرئاسي الأميركي إلى المنطقة توماس برّاك، سواء صُنّفت في خانة المواقف الشخصية أو اعتُبرت زلات لسان عابرة، مجرّد آراء فردية تُقال على هامش لقاء أو تُسجَّل كعبارة طائشة بلا خلفيات. ما يقوله الرجل لم يعد بريئًا ولا عابرًا، بل بات أقرب إلى نهج سياسي منظّم يعبّر عن رؤية شاملة تُدفع إلى الواجهة تدريجيًا، كلما سنحت الفرصة، وبالجرعات التي يراها أصحابها مناسبة للحظة الإقليمية والدولية.

لم تعد رواية “الخطأ الفردي” أو “الموقف المنفلت” قابلة للحياة أمام تراكم التصريحات وطبيعة الأفكار التي تُطرح. فعندما يذهب برّاك، وهو صاحب شبكة علاقات واسعة تمتد من الخليج إلى واشنطن ومن ثم إلى العواصم الأوروبية، إلى إطلاق مواقف تمسّ هندسة المنطقة نفسها، من قبيل اعتباره أنّ اتفاق سايكس بيكو كان خطأً تاريخيًا، فإنّ المسألة تتجاوز رأيًا في السياسة أو قراءة في التاريخ. هنا نحن أمام خطاب يحاول إعادة فتح خرائط المنطقة بكل حساسيّاتها القومية والدينية والسياسية، وهو ما لا يمكن تجاهله أو تفسيره على أنه مجرّد تحليل فكري لرجل أعمال نافذ.

وتزداد خطورة هذا التوجّه عندما نُقارب ما قاله برّاك في مؤتمر الدوحة مؤخرًا، حيث ذهب أبعد من التشكيك في اتفاقات الماضي، ليُلمح صراحة إلى أنّ “المرحلة القادمة ستشهد إعادة تشكيل طبيعية للحدود بما يتناسب مع مصالح الشعوب”. كلامه هناك بدا كأنه جزء من خطاب متكامل يجري تسريبه تدريجيًا إلى الفضاء السياسي العربي، تمهيدًا لاعتياد فكرة أنّ الحدود القديمة ليست نهائية، وأنّ الزمن القادم يحمل تحولات لا تقل جذريّة عما جرى قبل مئة عام.

أولًا؛ لماذا لا يمكن اعتبار كلام برّاك مجرّد رأي؟

التوقيت دائمًا مدروس، والبيئة السياسيّة المحيطة تكون معقّدة بما يكفي لتجعل من كل كلمة موجهة. وغالبًا ما تأتي تصريحات هذا الديبلوماسي في لحظات احتدام أو تحوّل، سواء على مستوى الصراع الأميركي – الإيراني، أو صراعات النفوذ في الشرق الأوسط، أو التحوّلات الجيوسياسية التي فرضتها الحرب في أوكرانيا وصعود الصين.

إضافة إلى ذلك، فإنّ توماس برّاك ليس مراقبًا أكاديميًا يكتب من مقعد الحياد، بل هو شخصية لعبت على مدى عقود أدوارًا تتقاطع مع العصب الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط، وصولًا إلى قربه من دوائر صنع القرار في واشنطن. لذلك، فكل عبارة تصدر عنه لا تُقرأ بذاتها، بل في إطار شبكة مصالح وتقاطعات، وفي ظل أجندات دولية أوسع بكثير من حدود تصريح عابر.

ثانيًا؛ ما معنى أن “سايكس بيكو خطأ تاريخي”؟

القول بأنّ سايكس بيكو كان خطأً تاريخيًا ليس مجرد حكم على اتفاق مضى عليه أكثر من قرن، بل هو تلميح إلى إعادة التفكير بالحدود والهويات والنظم السياسية التي قامت عليها دول المنطقة الحديثة. بهذا المعنى، تصبح العبارة بمثابة خريطة بديلة تُلوّح بها بعض القوى الدولية التي ترى أنّ الشرق الأوسط، بصيغته الحالية، بات عاجزًا عن إنتاج الاستقرار.

هذه الفكرة ليست جديدة؛ فقد طُرحت منذ الغزو الأميركي للعراق، وعادت بقوة مع ما سُمي “الربيع العربي”، ومع مشاريع الفيدراليات والتقسيمات الناعمة في أكثر من دولة. لكن أن تأتي الفكرة الآن من برّاك، فذلك يعكس عودة النقاش في غرف القرار حول فاعلية الحدود الحالية، ومحاولة جسّ نبض لمعرفة مدى استعداد مجتمعات المنطقة لقبول صيغ جديدة.

ثالثًا؛ التصريحات كأداة اختبار سياسي

الكلام الذي يقوله برّاك ليس هدفه إحداث ضجة إعلامية بقدر ما هو لقياس ردود الفعل. هذا الأسلوب تعتمده دول وإدارات عديدة: ترمي عبارة “صادمة” في المسار العام، ثم تراقب كيف تستقبلها النخب والمجتمعات والأنظمة. وبناءً على ذلك تُحدّد وتيرة الضغط أو مسار التغيير في المرحلة التالية.

رابعًا؛ لماذا الآن؟

لأنّ المنطقة تقف على عتبات تحوّلات ضخمة:

  • انهيار البنى السياسية القديمة.
  • تراجع الانخراط الأميركي المباشر في إدارة أزمات الشرق الأوسط وترك فراغ تتسابق قوى إقليمية ودولية على ملئه.
  • صعود أدوار إقليمية جديدة.
  • تغيّر الأولويات الإسرائيلية بفعل الصراع.
  • تحوّل الطاقة والممرّات الاقتصادية عالميًا.

وفي مثل هذه اللحظات، تُعاد قراءة الخرائط، تمامًا كما حصل بعد الحربين العالميتين.

خامسًا؛ لبنان والديموغرافيا المقلقة

وإذا كان هذا الخطاب يثير القلق في الإقليم عمومًا، فإنّ لبنان يشكّل الحلقة الأكثر هشاشة نظرًا لتركيبته الطائفية الحساسة. وهنا بالتحديد، يجب على المجتمع اللبناني، والمسيحي منه بشكل خاص، أن ينتبه إلى أنّ مثل هذه التصريحات لا تأتي معزولة عن ورقة اللاجئين السوريين التي تحوّلت إلى عنصر ضغط هائل على البنية اللبنانية.

فالوجود السوري، الذي تجاوز المليون ونصف المليون، أصبح عاملًا ديموغرافيًا تغييريًا يمتد من الشمال إلى البقاع وصولًا إلى الجنوب، في ظل غياب رؤية وطنية لمعالجة هذا الملف.

سادسًا؛ خطورة العامل الفلسطيني

ولا يمكن فهم المخاطر الديموغرافية في لبنان من دون التوقف عند الوجود الفلسطيني التاريخي والمتجدد. فهذا الوجود، الذي رافق لبنان منذ نكبة 1948، كان دائمًا جزءًا من التوازنات الدقيقة، لكنه اليوم يتحول إلى عامل أكثر حساسية مع طرح مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة باتجاه سيناء.

إنّ مجرد تداول هذا السيناريو يطرح سؤالًا وجوديًا على لبنان:
إذا كانت غزة مهددة بالتهجير القسري، فما الذي يمنع أن يجد لبنان نفسه أمام موجات لجوء جديدة تُفرض عليه؟

إقرأ على موقع 180  رائدة طه وتين فلسطين.. حُزننا ملءُ حناجرنا

فالوجود الفلسطيني الذي يفوق 400 ألف مقيم ومسجّل، يتحول اليوم إلى عنصر هشّ ليس بسبب الفلسطينيين أنفسهم، بل بسبب غياب الدولة اللبنانية وضغط المشاريع الدولية التي تسعى لتفتيت الكتلة الفلسطينية عبر توزيعها على دول الجوار.

وهذا يضع لبنان أمام تهديد مزدوج:

  1. احتمال تدفق موجات لجوء جديدة.
  2. زيادة الضغط على بنية داخلية تجاوزت قدرتها الاستيعابية منذ عقود.

في الخلاصة؛ لم تعد تصريحات توماس برّاك مجرد “فلتات لسان”. إنها رسائل سياسية محسوبة، تصدر عمّن بات مقتنعًا بأنّ زمن الحدود القديمة يقترب من نهايته، وأنّ الشرق الأوسط مقبل على مرحلة إعادة تشكيل واسعة. تجاهل هذه الرسائل لم يعد ممكنًا، لأنّ الكلمات قد تتحوّل إلى خرائط، والخرائط حين تتبدّل لا تأتي بلا أثمان… فقرن من الدم شاهد على ذلك.

ويبقى السؤال الأكثر حساسية:
إذا صحّت توقعات توم برّاك وأُعيد لبنان إلى الخريطة السورية، كيف ستضمن الأقليات اللبنانية، المسيحية منها أم المسلمة، وجودها في مشهد إقليمي لا يرحم فراغات القوة ولا يعترف بحدودها؟

Print Friendly, PDF & Email
أكرم بزي

كاتب وباحث لبناني

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  المراجعات السياسية اللبنانية مطلوبة.. وحزب الله أولاً