شرق أوسطيًا، انطوت استراتيجية الأمن القومي الجديدة على تغييرات جوهرية في بعض المقاربات السياسية الأمريكية التقليدية إزاء المنطقة. ففي الفصل الذي حمل عنوان: «الشرق الأوسط: نقل الأعباء وبناء السلام»، أقرت بأن عصر الهيمنة اليومية للشرق الأوسط على جدول أعمال السياسة الخارجية الأمريكية، والذي امتد لما يربو على نصف قرن، قد ولى إلى غير رجعة. وفي معرض انتقادها استمرار تلك الهيمنة، أشارت إلى تقادم أسبابها الأساسية، على شاكلة: محورية المنطقة كمورد عالمي للطاقة، وساحة مركزية للمنافسة بين القوى العظمى، والصراعات المستمرة التي تهدد بالامتداد خارج الإقليم حتى تطال الولايات المتحدة نفسها. ومن ثم، تضع الاستراتيجية منطقة الإندو-باسيفيك في قلب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، مع تعاظم مكانة الجزء الغربي من الكوكب على حساب منطقة الشرق الأوسط، ليس بسبب فقدان الأخير أهميته، ولكن جرّاء تغيّرات جيوسياسية مصيرية اعترته، حملته على التحول التدريجي من مصدر لأزمات متلاحقة وبيئة ملحة للتدخل، إلى ساحة شراكة وصداقة واستثمار.
بعدما ظلت عقودًا تشكل القوة الأكثر زعزعة للاستقرار الإقليمي، غدت إيران اليوم أضعف من أي وقت مضى. حيث أفضت الهجمات الإسرائيلية، التي زلزلتها في حزيران/يونيو الماضي، إلى تقويض إمكاناتها العسكرية والنيل من قدرتها على دعم وكلائها. فيما أدت عملية «المطرقة الليلية»، التي نفذتها واشنطن، بالتزامن، إلى إضعاف برنامجها النووي. وبرغم وصفها الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي بأنه لا يزال ملفًا معقدًا، ارتأت الاستراتيجية أن خطة ترامب واتفاق وقف إطلاق النار أسهما في إحراز تقدم نحو سلام أكثر استدامة، مع إضعاف وإبعاد داعمي حماس. كما تمخض نجاح مساعٍ ترامب لتوحيد الجهود في شرم الشيخ بغية ترسيخ السلام وتوسيع التطبيع عن إعادة إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية. وفيما يخص سوريا، اعترفت الوثيقة بأنها تظل «مشكلة محتملة»، لكنها قد تستقر وتستعيد مكانتها الطبيعية كفاعل إيجابي وأساس في الإقليم، بدعم أمريكي، عربي، إسرائيلي وتركي.
الرخاء والطاقة
وتزامنًا مع إعلان مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية عن أفول حقبة سياسة التدخل لتغيير الأنظمة، دعت استراتيجية ترامب إلى التخلي نهائيًا عما سمّته «التجربة الأمريكية الفاشلة في الضغط على دول الشرق الأوسط، وبخاصة الخليجية منها»، مع التوقف عن محاولات إجبارها على التخلي عن تقاليدها وأنماط الحكم فيها وهياكلها السياسية التاريخية، والعدول عن سياسة فرض الإصلاح من الخارج، معتبرة أن «مفتاح العلاقة الناجحة مع دول المنطقة يكمن في قبول دولها، قادتها وشعوبها كما هي، مع التركيز على المصالح المشتركة». فإبان ولاية ترامب الثانية، تم استبدال الأهداف الأمريكية السابقة المتمثلة في دعم حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية في ربوعها، بالتركيز على الرخاء الاقتصادي والاستقرار الإقليمي.
بخصوص الطاقة، سلّطت الاستراتيجية الضوء على تبعات تغير خريطة إنتاجها واستهلاكها عالميًا، لا سيما تعاظم حضور الطاقة المتجددة، وتصدر الولايات المتحدة قائمة المنتجين. حيث اعتبرت إدارة ترامب أن إلغاء القيود التقليدية على سياسات إنتاج الوقود الأحفوري، ومن ثم زيادة الإنتاج الأمريكي منه بما يفاقم إمدادات الطاقة محليًا وليس من دول الخليج، كان كافيًا لتراجع التركيز الأمريكي المفرط على منطقة الشرق الأوسط. لتغدو الأخيرة مصدرًا ووجهة للاستثمار الدولي، عبر التوسع في مجالات الطاقة النووية، الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الدفاع.
مكانة متقدمة
وبرغم ما ذكر آنفًا، ستظل منطقة الشرق الأوسط محتفظة بمكانة متقدمة ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. فعلاوة على أهميتها الجيوستراتيجية الحيوية، احتياطاتها الضخمة من الطاقة، ودورها المحوري في تقرير مصير القضايا الأمنية والاقتصادية العالمية، تتقاطع المنطقة مع العديد من المصالح الجوهرية للولايات المتحدة، لا سيما مكافحة الإرهاب، تعزيز الاستقرار الإقليمي، واستبقاء الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي. فما برح الشرق الأوسط يشكل نقطة التقاء الحضارات، وساحة تنافس بين القوى العظمى، حيث يمتلك نحو 48% من احتياطيات النفط العالمية و40% من احتياطيات الغاز الطبيعي، كما يعد مركزًا لوجستيًا مهمًا، مع مرور نحو 20% من التجارة النفطية عبر مضيق هرمز. وتفتأ الولايات المتحدة تحرص على لجم تمدد نفوذ القوى الصاعدة المتنافسة فيه، كمثل روسيا، الصين، تركيا وإيران. ولن يتسنى لها رفع مظلتها الأمنية كليةً عن إسرائيل، إذ سيستعصى على الأخيرة، بمفردها، إدراك الأمن المطلق، تأبيد التغيير بموازين القوى لمصلحتها، وبسط هيمنتها على الإقليم، أو فرض سلامها فيه بالقوة الغاشمة.
أوروبا ثم الشرق الأوسط
إبان الحرب الباردة، شكلت أوروبا جبهة أمامية ضد المد الشيوعي، تلاها المسرح الآسيوي، ثم منطقة الشرق الأوسط، التي كانت تُسمّى «الحزام المُتصدّع»، كونها منطقة ممزقة سياسيًا، غير مستقرة، وساحة صراع بين القوى العظمى. وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، احتل الشرق الأوسط صدارة الاهتمامات الجيوسياسية الأمريكية، بجرّاء الحرب ضد الإرهاب. وفي عام 2010، أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، هيلاري كلينتون، عن استراتيجية «التحول شرقًا»، أو ما يُعرف بـ«إعادة التوازن»، التي ركّزت على توجيه الاهتمام والموارد الأمريكية نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لاحتواء الصعود الصيني، مع الإبقاء على شراكات تقليدية في الشرق الأوسط لمكافحة الإرهاب وحماية أمن الطاقة، مع لجم الانشغال المستمر بحروب الشرق الأوسط، وتحجيم التموضع العسكري الضخم في مناطق النزاعات القديمة، توطئة لإعادة توجيهه نحو شرق آسيا. علاوة على ذلك، أكدت واشنطن التزامها بحماية الحلفاء الآسيويين، وتعميق الشراكات الاستراتيجية معهم، وتشجيع الدول الآسيوية على رفض الخضوع للهيمنة الصينية. وعلى إثر اندلاع الحرب الروسية ـــــ الأوكرانية عام 2022، عاودت أوروبا تصدّر أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، فيما حل الشرق الأوسط تالياً عقب واقعة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
موارد يتعين اقتناصها
جدّدت استراتيجية ترامب الجديدة للأمن القومي التأكيد على المصالح الأمريكية المستدامة في المنطقة، والمتمثلة في: منع سيطرة الخصوم على موارد الطاقة، ضمان حرية الملاحة الدولية في مضيق هرمز والبحر الأحمر، ألا تكون المنطقة منبعا أو حاضنة للإرهاب ضد المصالح أو الأراضي الأمريكية، وحماية أمن إسرائيل، مع التشديد على تحقيق هذه الأهداف دون العودة إلى ما سمّته «حروب بناء الأمة العقيمة، التي تستمر عقودًا». وأشارت الاستراتيجية إلى وجود مصلحة أمريكية في توسيع اتفاقات السلام الإبراهيمي لتشمل المزيد من الدول العربية والإسلامية، وعكست رغبة ترامب في بقاء بلاده قوة مهيمنة على الشرق الأوسط، بغير تورط عسكري ضخم أو مباشر (…).
وكان ملفتًا للانتباه عدم استدعاء استراتيجية ترامب الجديدة للأمن القومي أي ردود أو تعليقات رسمية واضحة من دول المنطقة، لا سيما العربية والإسلامية منها، برغم تأكيدها انحسار الانشغال الأمريكي بها. وقبل أسابيع، أصدر مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، مؤلفه المعنون: «الشرق الأوسط الأمريكي.. دمار منطقة». أورد فيه أن سياسات الولايات المتحدة حيال المنطقة، على مدى عقود، تَشي أنها “لا تُولي حياة العرب أو المسلمين أهمية تُضاهى حياة الأمريكيين أو الإسرائيليين، حيث تنظر إليهم باعتبارهم مشكلات يجب حلها، جماهير ينبغى التلاعب بها، موارد يتعين اقتناصها، وقضايا تجب دراستها، لا كأناس يُعاملون كبشر متساوين تمامًا لهم حقوق وأحلام وآمال ومخاوف”. كما خلص إلى أن الموقف الأمريكي حيال العدوان الإسرائيلي على غزة لا يشكل حالة استثنائية في السياسة الأمريكية بقدر ما يعكس جوهر تلك السياسة وحقيقتها، فلقد ظلت طيلة عقود أهم بواعث التوتر والتأزم الدائمين في منطقة الشرق الأوسط.
(*) بالتزامن مع “الشروق” المصرية.
