مناخات سنتياجو واسطنبول وموسكو في.. القاهرة

فتح لنا بواب العمارة أبواب المصعد فدخلت السيدة رشيقة القوام وبعدها الرجل ممتلئ الجسم قليلا وبعدهما حلّ دوري فدخلت. مرت ثوانٍ اكتشفنا خلالها أن هدفنا مشترك بيننا وهو الطابق الذي يسكن في إحدى شققه مضيفنا والممثل المخضرم للدبلوماسية العربية وحاليا الأستاذ في الجامعة الأمريكية الدكتور إبراهيم عوض.

فور إعلان اكتشافنا أن الهدف مشترك أعلنت عن هويتي فانفتح المدخل لنقاش في ظل بهجة دخلنا بهما إلى صالون اللقاء. هناك انضم الحاضرون إلى النقاش وبينهم من الدبلوماسيين علاء الحديدي وأشرف حمدي ومن غير الدبلوماسيين مصطفى كامل السيد وعمرو الشوبكي. على الفور انطلقت سهرة ليست كالسهرات.

تغلب عندي الحنين فسألت شريكتي فى الصعود السيدة أمل مراد عن أحوال سنتياجو دي تشيلي، المدينة التي احتلت في قلبي إلى جانب مدن أخرى قليلة مكانا مميزا. من المهم عند الحديث عن هذه المدينة الخلاّبة تأكيد أنها سنتياجو عاصمة تشيلي وليست أي سنتياجو علما بأن عدد ما تسمّى من المدن في العالم بهذا الاسم يُحسب بالعشرات إن لم يكن بالمئات. انتهزت الفرصة لأُجدّد بين حضور متفهم حبي وحنيني لها.

***

عشت على امتداد أكثر من نصف قرن استفسر عن حال الحي الذي كنا أهل السفارات نسكنه. كل من زار تشيلي أو عمل فيها تلقى مني هذا الاستفسار وآخرهم السفيرة أمل الجالسة إلى جانبي. كثيرون فاجأهم الاعتراف بأنني قضيت في هذه المدينة أجمل وأحلى مائة يوم في عمري. لم تتفاجأ سيدتنا العائدة لتوها من هناك. أغلب الحاضرين تملكهم الفضول المحبب دائما لدى الأشخاص من ذوي الخلفيات الدبلوماسية عندما أثير موضوع رفض الشعب التشيلاني استفتاء تعددت فيه البنود التي توصف عادة بالتقدمية واليسارية المبالغ فيها. دار نقاش طويل وممتع بين أفراد لم يعرض عليهم فى أي يوم استفتاء قابل للرفض. الحقيقة التي باتت واضحة هي أن شعوب أمريكا اللاتينية تعود مرة أخرى لتلقننا درسا جديدا. كانت سباقة قبل قرنين عندما طرحت مشروع وحدة سياسية بين المستعمرات التي استقلت عن إسبانيا. حوربت الفكرة من الخارج وأجهضت. ثم بادرت مرة أخرى عندما طرحت في منتصف القرن العشرين خطة تنمية اقتصادية واجتماعية لشعوب العالم الثالث استفاد منها جيل كامل من الاقتصاديين في هذا الجزء من العالم.

تكلم المدعوون أما أنا فانشغلت بحنيني. تكلمت السفيرة التي قضت هناك أربع سنوات وعادت سعيدة بما فعلت. تكلمت عن الحياة في سنتياجو فرحت أقارن والحنين يغمرني ويفيض. سألتها عن بيوت وشوارع وأحياء. لم أسال عن جبل كان يطل علينا ونحن سهارى تحت كرمة العنب حتى الفجر نتسلى بأمور عالم في الشرق بدا لنا من تشيلي بعيدا وغريبا. نتخيله في سهراتنا موطنا للمشكلات والظلم والقمع ولكن أيضا للرسل والعقائد السماوية. وقتها كدت أقتنع بأن وجودي في تشيلي يحمل لي رسالة تحديث وتهذيب وصنع توازن جديد بين العقل والعواطف، توازن يستعيد للعواطف أسبقيتها وغلبتها ويرشد طموحات العقل ويدفعه في اتجاه العدل والاعتدال.

من فرط حنيني كدت أسأل السفيرة أمل إن كانت قمة الجبل المطل على سانتياجو وعلى بيتنا لا تزال تتسع لاثنين: شابة شيلانية تتقن الإسبانية وتلقنها لشاب من مصر يريد أن يتعلمها.

***

هل نبدأ بالغزو العسكري الروسي أم نبدأ بالتصعيد الدبلوماسي حول استمرار الحلف الأطلسي في تمدده في شرق أوروبا حتى لامس جنوده وآلياته الحربية حدودا مشتركة مع الاتحاد الروسي، أم نبدأ بالتهديد الروسي لأوكرانيا في حال فكرت قيادته، المتهمة بالفاشية والفساد، الانضمام للناتو، أم نبدأ بضم روسيا شبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات وتولي حكومة في كييف تكره روسيا

لم يكن متصورا أن نبقى طويلا في سهرتنا أسرى الحنين المتصاعد إلى حياة أهدأ في تشيلي ونتناسى السباق الكبير بين الدول العظمى وبخاصة بين روسيا وأمريكا على تأكيد النفوذ في أوكرانيا خاصة وبيننا علاء الحديدي السفير الذي قضى سنوات في موسكو. كان علاء في عرضه واضحا وصارما، وكلاهما وأقصد الوضوح والصرامة من السمات البارزة في شخصيته التى خبرها من أثق في فراسته في الرجال. تناثر النقاش كما توقعت. لا أحد منا ينكر الوجود الروسي والأمريكي في مسيرة سياستنا الخارجية منذ ثورة مصر العسكرية. تتأكد وأنت تسمع منطق المتحدثين أن عدم الانحياز لصيق بطبائعنا كأفراد قبل أن نمارسه تكليفا ونقتنع به ضرورة لازمة. كلنا هذا الرجل وإن اختلفت أذواقنا ومصادر شهاداتنا الأكاديمية ومواقع عملنا كدبلوماسيين وأكاديميين وصحفيين.

***

لم نختلف على مظاهر الضعف العسكري الروسي وأسبابه. باستثناء علاء لم يختلط أي منا بالروس في بلدهم. اختلطنا بهم في الزمالك وببعضهم في قواعد التدريب العسكري أو بقادتهم في مواقع القرار العسكري. أزعم أنني لا أستطيع الحكم بنفسي عليهم كما على غيرهم من السلافيين فأنا لم أعش في وسطهم كما فعل أصدقاء عديدون. إنما نقلت عن أصدقاء عسكريين وزملاء دبلوماسيين ودارسين الحكم عليهم. هم في رأيي جزء من الغرب متمرد عليه منذ يوم تعرفنا عليهم كعضو كامل العضوية في صراعات القوى الأوروبية وسباقات التوسع والقوة والهيمنة في القرون الماضية.

إقرأ على موقع 180  من بيروس إلى بوتين.. إنتصارات بطعم الهزائم!

***

ننقسم في الرأي فى الحرب على أوكرانيا؛ لأننا نبدأ من مواعيد وأحداث مختلفة. هل نبدأ بالغزو العسكري الروسي في فبراير/شباط الماضي، أم نبدأ بالتصعيد الدبلوماسي حول استمرار الحلف الأطلسي في تمدده في شرق أوروبا حتى لامس جنوده وآلياته الحربية حدودا مشتركة مع الاتحاد الروسي، أم نبدأ بالتهديد الروسي لأوكرانيا في حال فكرت قيادته، المتهمة بالفاشية والفساد، الانضمام للناتو، أم نبدأ بضم روسيا شبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات وتولي حكومة في كييف تكره روسيا، أم نبدأ بتسرب معلومات عن قرار في مؤسسة أمريكية هامة بوقف بعض السياسات المعتمدة على استراتيجيات العولمة ومنها الانفتاح على التجارة الدولية الحرة وما يستتبعها من اعتدال ومهادنة وتعاون مع الدول المنافسة على القمة وهما بالتحديد روسيا والصين.

تسربت في الوقت نفسه تقييمات تؤكد أن أمريكا تراجعت في مجمل قوتها التنافسية وأنها تنحدر. المرحلة الفاصلة هنا كانت في أواخر عهد باراك أوباما حين تأكد الاقتناع بانحدار أمريكا والحاجة إلى استعادة أمريكا العظمى والقوية وفي الوقت نفسه وقف صعود روسيا والصين بكل الوسائل ومن بينها الحصار وتسريع التمدد بالناتو والتخريب الداخلي إن أمكن. من أين نبدأ؟ سؤال بحق صعب، ولكنه في حقيقة الأمر سؤال عن النهاية وليس فقط عن البداية.

***

استمر النقاش ممتعا وثريا. أبدع علاء واشترك الجميع. لم نتوقف عن الحديث في موضوع الحرب الروسية إلا للاستجابة لنداء من مضيفنا الدكتور إبراهيم محذرا من أن عشاءنا سوف نجده باردا إن لم ندلف فورا إلى غرفة الطعام. هناك عاد الحنين يمتلك نواصي تفكيري. سألت السفير أيمن إن كنا تقابلنا فى إسطنبول. أجاب بأنني لا شك أخلط بينه وبين والده. يا الله لم أكن أدري بأني إلى هذه الدرجة هرمت. وجدت نفسي بالفعل أحن إلى يوم قضيته في مبنى قنصلية مصر في إسطنبول قبل خمسة وأربعين عاما تقريبا. كنت هناك في هذه المدينة التاريخية في مهمة شبه دبلوماسية بتكليف من الجامعة العربية. لن أقول إنني وقعت في حبها كما يقع المستشرقون وإنما أقول تدخلت وتداخلت عناصر كثيرة أضافت جميعها إلى سحر موقع القنصلية المصرية الواقعة على مدخل البوسفور. أذكر تحديدا سحر الفكرة التي داهمتني حين وقع نظري على مراكب بخارية تتسع لعدد لا بأس به من الأشخاص راسية أمام سلم يتدرج انحناء أمام المدخل الخلفي للقنصلية. فهمت يومها أن المركب يستخدم للانتقالات الهامة لتفادي ازدحام الشوارع بالسيارات. أظن أن من اشترى المركب وأعتقد أنه أمير من أمراء عهد الملكية وبالمناسبة القصر نفسه من ممتلكاتها الموروثة، كان موفقا وصاحب ذوق ويحق لوزارة الخارجية أن تمجده. أحلم بالمنظر وأحن وأنا أكتب هذه السطور لليوم الذي قضيته في هذه القنصلية ضيفا.

***

قبل أن نصل إلى نهاية هذه السهرة السعيدة في صحبة ثلة متميزة ثقافة وتاريخا وممارسة، تحدثنا عن مآل موجة اليسار فى حكومات أمريكا الجنوبية. الحديث في هذا الموضوع يجر معه حديثا ليس فرعيا بحال من الأحوال وهو رد فعل أمريكا وقوى اليمين، وبعضها توحش في الآونة الأخيرة. كان يمكن أن يتشعب الحديث فيأتي على بوليفيا الدولة الخاضعة لحكم ممثلين عن أطراف من الشعوب الأصلية. كان يمكن أن تصبح نموذجا تحتذيه تشيلي لو أن شعبها مرر الاستفتاء الذي كان يسمح بمنح الشعب الأصلي جميع حقوق المواطنة والمشاركة. أقارن اليوم بالأمس، لم نكن نسمع كثيرا ونحن في سنتياجو عن شعب من الشعوب الأصلية يسكن أقاليم في تشيلي. وقتها نزلت إلى الجنوب واطلعت كدبلوماسي سائح على حياة المابوتشي وشعوب أخرى، حياة شعوب بدون حقوق ولا امتيازات ولا يسمح لها بالزيارة أو الاقتراب من العاصمة وضواحيها. اليوم ورغم رفض الناخبين الاستفتاء أو بسببه لا أحد هناك يضمن مستقبل الاستقرار في هذا البلد الجميل.

***

أشكرك يا إبراهيم وأشكر ضيوفك. بفضلكم عشت ليلة ليست كغيرها من الليالي. ليلة اجتمعت فيها قلوب دافئة مع عقول مستنيرة مع حنين إلى أيام معدودة هي الأغلى وإلى مدينة هي الأحلى.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  إنّها مرحلة الانحطاط.. إنّه زمن المذلولين!