مع تصاعد النقاش حول النفط والغاز في شرق المتوسط، ولا سيما بعد مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعلقة بإنشاء “منطقة اقتصادية” في الجنوب اللبناني، ثم ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص، ولاحقًا المفاوضات السياسية بين لبنان وإسرائيل، عاد الحديث عن الجنوب كمنطقة أو “ممرّ” محتمل لخطوط الطاقة، أي كساحة ربط اقتصادية إقليمية ودولية. من هنا، يتمّ الربط اليوم بين رفض إسرائيل الانسحاب من منطقة جنوب الليطاني والعمل على توسيع سيطرتها في المنطقة وتكريسها، وبين رغبتها في فرض سيطرتها على خط الغاز المرتقب. غير أنه، وعلى أهمية ذلك بالنسبة لإسرائيل، إلا أن ثمّة عاملًا آخر مباشرًا ورئيسيًا وتاريخيًا لهدف إسرائيل في إقامة منطقة عازلة أو السيطرة على الجنوب: المياه.
ولا يُشكّل جنوب لبنان بالنسبة إلى إسرائيل فقط منطقة أو ممرًا محتملًا لمشاريع الطاقة المستقبلية، بل هو أيضًا، وبشكل أساسي، خزان مائي استراتيجي وموقع يمكن من خلاله التحكم بمنابع وأنظمة مائية تغذّي فلسطين التاريخية، من جبل الشيخ حتى مجرى نهر الأردن.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، اعتُبرت المياه عاملًا أساسيًا لأي مشروع استيطاني يهودي في فلسطين، لأسباب عدة أهمّها محدودية الموارد المائية المتجددة داخل فلسطين المحتلة. ولأن الأمن المائي يشكّل صلب العقيدة الإسرائيلية (عدم السيطرة على المياه يعني فقدان الاستقلالية والنفوذ)، ارتبط التخطيط الصهيوني منذ مراحله الأولى بالبحث عن مياه خارج حدود فلسطين الانتدابية.
في هذا السياق، تشير الوثائق التاريخية إلى أن نهر الليطاني في جنوب لبنان كان خيارًا أوليًا في الدراسات الصهيونية المبكرة لرسم حدود الدولة الصهيونية، حيث ربط المؤسسون الصهاينة منطقة الليطاني بشكل مباشر بأمن “دولة إسرائيل” التي كانت قيد التشكّل آنذاك وبمستقبل الدولة اليهودية. ويتضح ذلك في مراسلات مؤسس المشروع الصهيوني تيودور هرتزل الذي تحدث فيها عن ضرورة أن تشمل الدولة اليهودية مصادر المياه كافية، وكان نهر الليطاني من ضمنها، بالإضافة إلى دراسات المنظمات الصهيونية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي التي شملت منطقة جنوب لبنان.
وبالفعل، عند إعادة رسم خارطة المنطقة بفعل اتفاقية سايكس–بيكو (1916)، سعت الحركة الصهيونية، من خلال الانتداب البريطاني، إلى دفع حدود فلسطين المحتلة شمالًا لتشمل منابع مياه إضافية وذلك لضمّ الليطاني. إلا أن الرفض الفرنسي آنذاك، بسبب مصالح فرنسا في المنطقة، ساهم في حماية تلك الأرض من السيطرة اليهودية، وبالتالي كرّس لبنانيتها.
وبعد نكبة العام 1948 ونشوء ما يعرف بـ”دولة إسرائيل”، كرّست السلطة الجديدة الأمن المائي كجزء أساسي من الأمن القومي الإسرائيلي، فخاضت إسرائيل معظم حروبها وصراعاتها بسبب المياه، مثل احتلالها لبحيرة طبريا، ونهر الأردن، واليرموك، وغيرها. فالمشروع الصهيوني لم يكن مشروع أرض فقط بالمعنى المباشر، بل هو مشروع مياه وزراعة، وهو ما يفسّر لماذا اتجهت أنظار روّاد الصهيونية مبكرًا إلى مناطق شمال فلسطين وجبل الشيخ وسفوحه حيث تتجمّع الثلوج، وتتغذى ينابيع الحاصباني واللدان وبانياس، وتنشأ منابع نهر الأردن الأعلى.
لذلك، بعد احتلال جبل الشيخ، اعتُبر الجنوب اللبناني ساحة خلفية استراتيجية. ومع تعاقب الخطط والمذكّرات والمشاريع، بدأ اسم الليطاني يظهر بشكل متكرر في التصوّرات الإسرائيلية لمستقبل المياه في المنطقة.
بالنسبة إلى إسرائيل، تشكّل الموارد الطبيعية، وفي مقدمتها المياه، حاجة وجودية وأداة أساسية للسيطرة السياسية والاقتصادية الإقليمية. فمن يتحكّم بالماء يؤمّن الاستقلالية أولًا، وثانيًا يستطيع استخدام هذه القوة كأداة ضغط على الدول المحيطة به. من هنا، يمكن القول إن سعي إسرائيل إلى إقامة منطقة عازلة في جنوب الليطاني يعدّ جزءًا من خريطة حدود أمنية تشبه، إلى حد بعيد، خريطة الموارد المائية التي حلم بها روّاد الحركة الصهيونية منذ بدايات القرن العشرين.
واستمرّت المحاولات الإسرائيلية للسيطرة على منطقة الليطاني في ستينيات القرن الماضي، ولاحقًا في “عملية الليطاني” في العام 1978، ثم في العام 1982 عندما أقامت إسرائيل منطقة أمنية أو عازلة في الجنوب. غير أنها، ولكي تحدّ من خسائرها آنذاك، عمدت إلى استغلال ما عرف بـ”جيش لبنان الجنوبي”، وهو عبارة عن ميليشيا عسكرية مؤلفة من مجموعة من العملاء اللبنانيين (راجع مقال حياة الحريري، “عملية الصنوبرة الكبيرة التي تحلم بها إسرائيل“، موقع قناة “الجزيرة” الإلكتروني، 30 تشرين الأول/أكتوبر 2024).
وتشير بعض الوثائق إلى محاولات إسرائيل المتكررة، حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 وصدور القرار 1701 في نسخته الأولى عام 2006، للسيطرة على مياه الليطاني، من خلال محاولات سحب المياه الجوفية اللبنانية، وفي الوقت نفسه منع لبنان من الاستفادة من مياهه عبر الضغط السياسي والاقتصادي والتضييق على المزارعين اللبنانيين في مسألة حفر الآبار أو الإشراف على منابع وروافد مياه الحاصباني والوزاني، وهو ما يشبه إلى حد كبير ما تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية والجولان.
من هنا، كانت خشية إسرائيل الدائمة قبل الحرب الأخيرة أن يتمّ تحويل نهر الليطاني إلى عمود فقري لسياسة زراعية تنموية وطنية تجعل كلفة مواجهته أو “مشاركته” عالية. وللمفارقة، استفادت إسرائيل قبل الحرب من الفساد السياسي اللبناني الذي منع إعادة تأهيل نهر الليطاني واستثماره بشكل يؤمّن احتياجات لبنان ويشكّل ورقة قوة استراتيجية في يد الدولة اللبنانية.
وبعد نتيجة الحرب الأخيرة واحتلال إسرائيل للتلال السبع بذريعة فشل الدولة اللبنانية في حصر السلاح وضرورة حماية المستوطنات، تستكمل إسرائيل مشروعها في توسيع نطاق احتلالها عبر تفجير المنازل في المناطق التي لا تحتلها، وتجريف الأشجار لاستكمال مخطط تهجير السكان والقضاء على كل مقوّمات الحياة في المنطقة لمنع عودتهم أو تأخيرها بالحد الأدنى. وتعود إسرائيل إلى مشروعها الأساسي في لبنان، وهو فرض منطقة عازلة واحتلال أرض الجنوب لأطول مدة ممكنة للسيطرة على الموارد الطبيعية فيه، وتحديدًا مياه الليطاني.
ومن خلال ما تقدّم، يمكن فهم سياق حديث نتنياهو حول “الاتفاقيات الاقتصادية” المشتركة مع لبنان، والتي لا تتعلق فقط بالمنطقة البحرية المشتركة بين لبنان وقبرص وإسرائيل للنفط والغاز، بل أيضًا ليس من المستبعد أن تطرح إسرائيل فكرة “نظام مائي مشترك” أو “حصص مائية مشتركة”، من خلال أوراق عدة، مثل الادعاء بوجود ارتباط جوفي بين الليطاني وروافد نهر الأردن، أو استغلال اتفاقيات حدود قديمة بين فلسطين ولبنان زمن الانتداب حول “الحقوق المائية المكتسبة”، ولا سيما ما يخص تقاسم مياه روافد الأردن، واستخدام “الفائض” الذي لا يستغله لبنان من مياهه لمصلحة فلسطين.
في الختام، يعتبر الجنوب اللبناني بشكل عام، ومنطقة جنوب الليطاني بشكل خاص، كنزًا لإسرائيل متعدد المستويات. فهو كنز مائيّ، إذ إن السيطرة على المنطقة بين الليطاني والحدود الفلسطينية تعني الاقتراب من روافد تغذي نهر الأردن، والإشراف على طبقات مائية جوفية مرتبطة بجبل الشيخ وسهل الخيام ومحيطه، وورقة ضغط على أي استثمار لبناني في المستقبل. وهو كنز أمنيّ لأن المنطقة تشكّل امتدادًا جغرافيًا استراتيجيًا للجليل وجبل الشيخ. وهو كنز اقتصاديّ لموقعه كممرّ لخطوط الغاز والنفط، وكمحطّة أساسية لأي ترتيبات مستقبلية في شرق المتوسط.
من هنا، لا يمكن القول إن المواجهة العسكرية ووجود السلاح هما ما يحميان فقط هذه المنطقة، لا سيما بعد فشل لبنان في استغلال هذه الثروة أو هذا الكنز في زمن التحرير (2000-2024).
أمام لبنان اليوم فرصة تاريخية وأخيرة لتثبيت حقه في أرضه وموارده إذا توفرّت إرادة سياسية وطنية واضحة، لأن طريق المفاوضات شائك وخطير، ونحن في خضم معركة وجودية تستخدم فيها الأسلحة السياسية والقانونية والاستراتيجية والأمنية والاقتصادية؛ فهل سينجح لبنان في معركته هذه؟ وهل يستطيع أن يستعيد جنوبًا مأهولًا، مزروعًا، مستفيدًا بالكامل من مياهه، أم جنوبًا منزوعًا من أهله ومياهه معًا؟ للبحث تتمة.
