إيران وانتقال السلطة.. من بني صدر إلى ما بعد ابراهيم رئيسي

منذ ما قبل الإعلان الرسمي عن وفاة الرئيس الإيراني السيد ابراهيم رئيسي بتحطم طائرته التي كانت تُقل عدداً من المسؤولين الإيرانيين وأبرزهم وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، راحت "تحليلات" مختلفة ومتعددة تستخلص بأن المرحلة المقبلة في إيران هي مرحلة صراع على الخلافة والرئاسة، وهذه التحليلات تعيد الذاكرة إلى متشابهات لها أخطأت في استنتاجاتها فيما نجحت إيران بعبور مراحل دقيقة بسلاسة مشهودة.
بني صدر

حين سعى أبو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية في إيران بعد إسقاط نظام الشاه عام 1979، إلى الصدام مع المرجعيات الدينية والسياسية والثورية بما فيها قيادتا الجيش والحرس الثوري، جرى عزله في 22 حزيران/يونيو 1981، ليُقرّر من بعدها الفرار إلى باريس والعيش فيها حتى وفاته عام 2021.
آنذاك، وفي لحظة الصدام، كانت دولة ما بعد الشاه، لينة العود، وهذا اللين أغرى بعض من في الخارج والداخل؛ فالعراق كان أعلن قبل أشهر الحرب على إيران من الخارج، وجماعات سياسية ـ دموية من مثل “المجاهدين” و”الفدائيين” و”توده” وغيرهم، كانت أعلنت الحرب على النظام السياسي الجديد من الداخل عبر الإغتيالات والتفجيرات، ومع ذلك دُعي الإيرانيون إلى انتخابات رئاسية فاز بها محمد علي رجائي.
كان ثمة انتقال طبيعي للسلطة، هكذا بدت الأمور، إلا أن حادثة غير متوقعة دخلت في غمار الحرب على الجمهورية الناشئة، إذ بعد أقل من شهر على تنصيب رجائي في 2 آب/أغسطس 1981 رئيساً للجمهورية اغتيل في الثلاثين من آب/أغسطس، وفي تشرين الأول/أكتوبر من السنة نفسها، انتُخب السيد علي الخامنئي رئيساً للجمهورية واستمر في مهامه حتى 1989، عندما أصبح خليفة الإمام الخميني.
حول تزاوج حروب الداخل والخارج وضلوع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في أعمال التفجير والإغتيال في الداخل الإيراني، يقول سالم الجميلي، الرجل القوي في جهاز الإستخبارات العراقية خلال عهد صدام حسين في حوار أجراه معه الزميل غسان شربل ونشرته صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية (8 ـ 5 ـ 2023):
“قدّم جهاز المخابرات كل سبل الدعم الإعلامي والفني والمادي والعسكري للديموقراطي الكردستاني ومجاهدي خلق، وكان الهدف الأول مجلس الشورى الإيراني وبإشراف مباشر من برزان التكريتي (الأخ غير الشقيق لصدام حسين) وُضعت خطة لتفخيخ مقر الإجتماع ونفذت في 28 يونيو/حزيران 1981 فقُتل آية الله حسين بهشتي رئيس السلطة القضائية و72 شخصية قيادية، بينهم وزراء ونواب، المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي استُهدف هو الآخر أثناء إلقائه خطبة، استمرت الضربات وفي 30 آب/أغسطس (1981) أدّى تفجير إلى مقتل رئيس الجمهورية محمد علي رجائي بعد أقل من شهر من توليه منصبه، وقُتل معه محمد جواد باهنر رئيس الوزراء إثر انفجار قنبلة زُرعت في مكتب الأخير أثناء اجتماع مع مجلس الدفاع الأعلى”.
ما يُراد تثبيته من خلال هذا العرض، أن إيران مرّت في مراحل دقيقة في تاريخها السياسي بعد إسقاط نظام الشاه، أبرزها كانت عام 1981، إذ تم عزل رئيس للجمهورية، ثم اغتيال رئيس منتخب، ثم انتخُب رئيس ثالث في السنة نفسها، وإذا ما أضيف إلى هذه المفاصل الثلاثة، تفجير مجلس الشورى، وكذلك محاولة اغتيال الإمام الخميني، كما يقول سالم الجميلي، إذ “تولى فريق من الجهاز إعداد عبوة صغيرة نُقلت وزُرعت في وسادة الخميني، انفجرت العبوة في توقيت خاطئ كان فيه الخميني خارج المنزل”، فإن آليات انتقال السلطة سارت تلقائيا وفق مساراتها الدستورية من دون خلل أو تجاوز، وهذا ما يمكن ملاحظته أيضا بعد وفاة الإمام الخميني عام 1989، فهو المرجعية الدينية الكبرى وقائد الثورة وعماد النظام، وهذه المرحلة الدقيقة، جرى عبورها بسلاسة أيضا، إذ دُعي الناخبون إلى انتخابات رئاسية أوصلت نتائجها هاشمي رفسنجاني إلى رئاسة الجمهورية، فيما انتُخب السيد الخامنئي مرشدا وولي أمر، وبما يعني ذلك الولاية والقيادة الدينية والسياسية.
ومن دون ريب فوفاة الإمام الخميني، كانت أكثر المنعطفات دقة بعد عام 1979، وفي ذاك المنعطف، ذهب كثيرون من “أهل القلم والتحليل” إلى الغلو في إسقاط خلاصات واستشرافات على المرحلة التي ستلي رحيل المؤسس، وإلى حدود قيل فيها إن إيران ستنفجر من الداخل، ومن أمثلة ما قيل آنذاك:
في الخامس من حزيران/يونيو 1989، خرجت صحيفة “الأهرام” المصرية بهذا العنوان “مات الخميني قبل حسم الصراع على السلطة في إيران” وكتبت “الأهرام”: “وسط أجواء مشحونة بالحزن لرحيل الإمام الخميني أشار المراقبون السياسيون إلى أن حالة من الغموض تكتنف المصير السياسي لمستقبل إيران، حيث رحل الخميني قبل أن يتمكن من حسم الصراع على السلطة الذي كان قد تفجر في حياته بين التيارات الدينية والسياسية”. وفي تحقيق في صفحاتها الداخلية، كتبت “الخلافة قنبلة زمنية تُهدّد ايران وصراعٌ ضارٍ بين رفسنجاني وإبن الخميني”.
وفي السادس من حزيران/يونيو 1989، صدرت صحيفة “الأهرام” المصرية بهذا العنوان “الصراع على السلطة لم يُحسم باختيار علي خامنئي”.
وفي السابع من حزيران/يونيو 1989، غالى الكاتب الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل قي قراءته لمرحلة ما بعد رحيل الإمام الخميني، وكتب في “الأهرام” مقالة مطولة تُحسب عليه، ومع أنه كان وضع كتابه “مدافع آية الله/قصة إيران والثورة” في عام 1982، مما جعله في طليعة المهتمين بإيران ما بعد الشاه، فقد وقع في “لعنة التكهن والتنبؤ” بعد وفاة الإمام الخميني وكتب “مستشرفاً” وقائلاً:
“إن ظواهر الأحوال في إيران توحي بأن الفترة القادمة سوف تشهد صراعاً على السلطة بعد وفاة الخميني، والأرجح أن النظام الذي قام بتوجيهه لن يعيش بعده إلى زمن طويل، فإلهام الإيمان ليس سلطة يرثها الأقرب (…) مثل هذا النوع من السلطات، خصوصاً إذا كان مصدره شبه معجزة من خارج العصر، ليس قابلاً للإنتقال من رئيس إلى رئيس (…) ولسوف يجف يوماً بحر الدموع ويتوقف النحيب ولطم الخدود وضرب الرؤوس، وتُسحب مع الزمن تجربة أسطورية قامت بإستدعاء الماضي من وراء القرون، بل لعل هذه العملية بدأت فعلاً (…) فإيران مقبلة على فترة صراع، والأرجح أن الجيش الإيراني هو الذي سيتولى حسم هذا الصراع، وإن كان لا بد من التسليم أن جيش إيران المستقبل لن يكون جيش الشاه وإنما أقرب إلى أن يكون بقية من تراث الجمهورية الإسلامية، شكل من أشكال ما كان على غرار نابوليون بونابرت بعد الثورة الفرنسية”.
وأما صحيفة “الأخبار” القاهرية فكان عنوانها في 5 ـ 6 ـ 1989 على هذا الشكل “بدأ الصراع في إيران بعد وفاة خميني و8 مرشحين للخلافة أبرزهم إبن خميني ورفسنجاني”. وكتب قطب الصحافة المصرية مصطفى أمين في العدد نفسه وفي زاويته المعروفة “فكرة” فقال إن المعركة الحقيقية “سوف تكون داخل إيران وليس خارجها، وسوف يحاول إبن الخميني أن يقفز إلى السلطة ولكن سوف يعترض الكثيرون”.

إقرأ على موقع 180  حكومة نتنياهو السادسة 2023.. مفخخة بالتناقضات والتحديات!

وفي 6 ـ 6 ـ 1989 كتبت “الأخبار” قائلة “اختيار خامنئي حل وسط مؤقت والصراع الحقيقي تأجل ولم يبدأ بعد”.
ومن مصر إلى الكويت، إذ خرجت صحيفة “الرأي العام” بتاريخ 5 ـ 6 ـ 1989 بالعنوان التالي “الجيش والحرس بايعوا رفسنجاني والخبراء انتخبوا خامنئي”.
وهذا العنوان على ما يبدو أريد تضمينه إشارات تبعث على الإيحاء بوجود صراعات على السلطة وانقسامات بين القوى الفاعلة، ولذلك قالت “الرأي العام” في 6 ـ 6 ـ 1989 “نجل الإمام ورفسنجاني يتنافسان على الخلافة الدائمة”، ونقلت عن “جماعة المعارضة الرئيسية في إيران ـ تكهنها ـ بفوز نجل الإمام الخميني في الصراع على السلطة وبأنه سيخلف والده في منصب الزعيم الأعلى للبلاد”.
ونشرت صحيفة “القبس” الكويتية (5 ـ 6 ـ 1989) تصورا حول الصراعات المتخيلة بين القوى الدينية والسياسية في إيران، فكتب سعد البزاز مدير وكالة الأنباء العراقية ومدير مؤسسة الإذاعة والتلفزيون العراقيين:
“بالنسبة للقوى الموجودة في إيران، فإن أيا منها لا يستطيع حسم الصراع لصالحه، بسبب تماثل القدرات المتاحة، فأحمد الخميني رتّب عملية إبعاد منتظري، ورفسنجاني قاد الدعوة لدمج السلطات كي يؤول إليه منصبا رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وعزز محتشمي وزير الداخلية دوره بتوسيع رقعة نفوذه، وكذلك فعل مهدوي كني المسؤول عن اللجان الثورية في طهران، أما قائد الحرس الثوري محسن رضائي فأعاد توزيع فرق الحرس للسيطرة على المناطق الحيوية حول طهران وفي دواخلها”.
ونشرت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية (5 ـ 6 ـ 1989) مقالة للمعارض الإيراني أمير طاهري، في الصفحة الأولى، وهذا أمر لم يكن مألوفاً لدى الصحيفة، وقال طاهري “انتهت بعد ظهر أمس الجولة الأولى من الصراع على السلطة في إيران بعد الخميني بحل وسط يؤجل الصدام إلى وقت لاحق، فبعد سبع ساعات من المداولات انتهى مجلس الخبراء إلى اختيار علي خامنئي خلفا للخميني، بهذا الشكل يأتي قرار مجلس الخبراء تأجيلا للنزاع، فيما يعيد كل جناح تنظيم قواته استعداد للنزال النهائي”.
لم يحدث صراع على السلطة بعد وفاة الإمام الخميني، وغارت تلك التحليلات في أوراقها، ولتطل تحليلات مماثلة عقب انتخابات 2009 وما شابها من اعتراض الإصلاحيين على فوز محمود أحمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية، وهذه ثلاثة نماذج من تحليلات تلك الفترة التي تقاطعت “اسشرافاتها” حول المصير “الحالك” الذي ينتظر إيران:
ـ كتب عبد الرحمن الراشد في 17 ـ 6 ـ 2009 في صحيفة “الشرق الأوسط” متوقعا معركة مصيرية بين أركان الدولة الإيرانية وأعمدتها، وقال: “يخطىء من يعتقد أن انتصار أحمدي نجاد في الإنتخابات الأخيرة هو التصادم الأخير وربما النهائي في معركة على السلطة والنفوذ استمرت منذ عقو بين خامنئي ورفسنجاني، بل إن المعركة ظهر للتو على السطح (…) وهنا لا بد من وقفة أمام تاريخ الصراع لنعرف أن المعركة بين رفسنجاني وخامنئي ليست على مشارف النهاية بل هي في طور البداية”.
ـ كتب عبد الوهاب الأفندي في “القدس العربي” اللندنية (19 ـ 6 ـ 2009) عن “الثورة الثالثة” في ايران منذ عام 1979، فقال “بعد هذه اللحظة لن تعود إيران الثورة كما كانت، فإما أن تتغير وإما أن ترتد نحو نظام دكتاتوري يعادي غالبية الشعب الإيراني”، وقال صبحي حديدي في عدد “القدس العربي” نفسه إن إيران “حبلى بالمتغيرات وآمال التغيير، والبحث عن بدائل لهوية راهنة منشطرة منعزلة ومنكسرة أيضا”.
مضت أحداث عام 2009 بإحتواء مدروس وأكمل أحمدي نجاد ولايته الثانية وفاز بعده الشيخ حسن روحاني بولايتين متتاليتين، إلى أن استقرت الرئاسة عند السيد ابراهيم رئيسي في عام 2021، وبالنظر إلى سوابق انتقال آليات السلطة في إيران، وبالمقارنة مع المنعطفات الدقيقة والخطرة التي قطعتها في العقود الأربعة الماضية وبين ما هي الآن، فإن أي تحليل يرى صراعات أو نزاعات حول الخلافة أو الرئاسة، ينطوي على رغبة أو إيهام للذات، فيما الحقيقة في مكان آخر، مختلف تماماً.
بعد تحديد الثامن والعشرين من حزيران/يونيو المقبل موعدأ لإنتخاب رئيس للجمهورية يخلف الراحل السيد إبراهيم رئيسي، سمعتُ من أحد الزملاء الإيرانيين مثلاً شعبياً إيرانياً مأثوراً يقول:
ـ بالفارسية: “از تو حركت.. از خدا بركت”.
ـ بالعربية: “منك الحركة.. ومن الله البركة”.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  هل نشهد "ربيعاً إيرانياً" أم ضياع "أندلس" جديدة؟