شهر أيار/مايو، هو التاريخ الفاصلُ بين الانتصارات وزمنِ الهزائمِ الذي ولّى؛ وفيه ابتداءُ التاريخِ الجديد، الذي يكتبُه العربُ المنتصرون، والذي تتوالى تجلّياته منذ انتصار العام 2000 في لبنان حتى “طوفان الأقصى” في فلسطين، فتُثبت أن أربابَه من العرب المناضلين والمجاهدين ما عادوا يستجدون حقوقَهم اتّباعاً لتقاليد النظامِ الرسميّ، بل يأخذونها غصباً، على سنّة المقاومة في لبنان، وَفق ما يفخر به الشاعرُ الراحل عمر الفرا:
“يُصمّم أخذها غصباً.. ويأخذُها/ كذا فعلَ رجالُ الله يومَ الفتح في لبنان..”.
كذلك فعل يحيى السنوار، الذي يقود حركةَ المقاومة الإسلامية في قطاع غزة. لم يستجدِ حقوق الشعب الفلسطيني من الغاصب، واستنكف عن أن يفعل ما عكف عليه أهل سلطة أوسلو والتوسل، فكان “الطوفان” عنوان تجربة رائدة في تاريخ العمل العربي المقاوم، ستبقى حروفه مزروعة في الوجدان العربي.
ومن قبلُ، انتهى وعيدُ الأمينِ العام لحزب الله في لبنان، السيد حسن نصرالله، إلى تحرير العام 2000، بعد أن أغلظ على الصهاينة وعملائهم في الشريط الحدودي المحتلّ، وأنذرهم بأنه سيدخل عليهم بيوتَهم ومطارحَ نومهم، وسيقتصّ منهم، ولن يكون لهم قرارٌ في لبنان.
أعاد السيد نصرالله الكَرّة في العام 2006، وأوقفَ مع فتيةٍ، جحافلَ الصهاينةِ في بنت جبيل ووادي الحجير.. وكانت آية النصر ملحمةَ الدبابات في “فرون” و”الغندورية”، حيث طوّبَ المقاومون السلاحَ المتيسّر بأيديهم، والمنتشرَ لدى كثيرين، آيةً من آيات الإعجاز.
وما بين غزةَ وجنوب لبنان تشابهٌ كبيرٌ، قوامُه خنوع الحكّام وكبرياءُ الشعوب.
يُصرّح محمود عبّاس بأن حماس وفّرت الذرائع لإسرائيل لتدمير قطاع غزة؛ ولولا أنه رئيس “السلطة الوطنية الفلسطينية”، ويعلم أن “إسرائيل” هي التي تغتصب فلسطين من النهر إلى البحر، حيث يقع إقليمُ سلطته المتوهَّمَة، لظنّ كثيرون أنّه لا يمتّ إلى فلسطين بصلة، وَفق ما يقول به مواطنوه. وقبلَه، ومعَه، صرّح رؤساءُ حكومات وسياسيّون في لبنان في أكثر من مناسبة بأنّ لبنان ليس في حالة حرب مع “إسرائيل”، وهدفُهم حصر الصراع الوجوديّ بفريقٍ أو جماعةٍ أو طائفةٍ.. ولينأوا بلبنان عن الالتزام بموجبات الصراع، وظنُّهم أن الاحتلالَ حينما يدمّر مرفقاً لبنانياً يُكبّد فريقاً دون فريق!
وفي المثَالين أنّ الذي حقّق الانتصارات فريقٌ غير نظاميّ، سواءٌ في لبنان أم في فلسطين… لكنّه أحسن التنظيم والتسلّح بكلّ مقوّمات القوّة، ثمّ خاض صراعَه الوجوديّ ضدّ عدوٍّ غاصبٍ، لكنّ فريق التبعيّة الغربيّة المتحسّبَ لِمَضَاءِ سيف المقاومة يشحذُ راهناً بمواجهة التنظيمات وشبابها -كذا هي التسمية التراثية لجماعات المقاومة- نموذجَ الدولةِ الحديثة -على تفاوتٍ في بلاغة الاستحضارِ- ويطرحُ إشكاليّةَ التعدّد في مرجعيّات إدارة العنف في داخل الدولة الحديثة ونموذجها المهيمن.
والمثير في مقولات هؤلاء “المعتدلين” الدوغمائيين تشبّثُهم باحتكار العنف تجاه المواطن والآخر، لا في مواجهة أعداء الوطن والأمة… واقتصار العنف على المُطالب بحقوقه، أو المقاومِ لعدوه الوجوديّ، أو الجارِ القاصر والضعيف.
ثم إنهم في غمرة مغالاتهم الدولتيّة لا يطرحون حلاً لعجز الدولة عن القيام بأدوارها، ولا يقدّمون بديلاً لمهمات المقاومة، التي تقوم بأعباء المواجهة العسكرية مع الأعداء، وسط قعود الجيوش العربية النظامية. وما يزيد طينتهم بلّة أنهم لا يبذلون جهوداً في سبيل استعادة قوام الدولة، بل يستجدون من الفريق الظافر أوراق قوته الداخلية والخارجية لصالح أفكارهم المتهافتة، فيما منطق الأمور وصيرورتها يوديان باتجاه صياغة جديدة للدولة وسلطاتها بعد انتصار المقاومة.
وإذ يجهد الرافضون للثنائيّة العسكريّة، والجاحدون لفضل المقاومة، لتثبيط العمل المقاوم وتفريغه من زخمه الشعبيّ، يشهد الواقعُ والتاريخ لصالح ثنائية (الدولة والمقاومة) في الظروف المشابهة، بالنظر إلى سعة المجتمع وتنوّعه، حيث لا يمكن لأجهزة ناشطة أو عاجزة أو متهالكة (كما هي حال دُولنا) أن تحيط بفعاليات المجتمع وحركته، سواء أكان المجتمع شرقياً أم غربياً.
بالرغم من ذلك، لن يضير المقاومة في لبنان افتئات المتخاذلين، لأن لها تاريخاً ممتداً من المواجهة مع القوى الاستعمارية. وقد شهد لبنان تحديداً، في عصره الحديث، حركة مقاومة منذ اغتصاب فلسطين في العام 1948، تطوّرت على وقع الاستجابة للاجتياحات الصهيونية المتكرّرة، وصولاً إلى إنطلاق المقاومة في العام 1982 ودحرها العدو الصهيوني في 25 أيار/مايو عام 2000.
ويُسجّل لتشكيلات المقاومة عدم إعارتها الدوغمائيين الدولتيين اهتمامها، وتمتّعها – في المقابل – بحركيّةٍ وثبات على الأهداف، بالرغم من الحملات الإعلامية الشرسة التي تُشنّ ضدها. ولم تثنها المعارك كلها، عن خوض غمار المواجهة، من دون أن تبالي بعداوة شخصياتٍ وأحزابٍ وتشكيلاتٍ سياسيةٍ وأنظمةٍ في العالم العربي والإسلامي، فانتصرت لجبهتها وتحالفاتها وسياستها المقاوِمة، ولم تنخدع بالألاعيب الإعلامية والسياسية للغرب وتابعيه المحليّين، خصوصاً أولئك الذين يخترقون النسيج المدنيّ، ويعيشون بالمال الغربي، ويتنفّسون على وقع إيحاءاته، ووَفق أجندات الاستعمار المقنّع والسافر.
فهل المطالبة المستمرّة، التي يرفع لواءها اليمين اللبناني وجمعيّات المجتمع المدني ذات الرعاية والتمويل الأوروبي، بتسليم المقاومة سلاحها وتفكيك بنيتها مقولةُ حقٍّ وعدل؟
تبدو الحجج والذرائع التي يسوقها كلّ أولئك من أعضاء معسكر الغرب ووكلائه في المنطقة فاسدة وساقطة. فالنظام الرسميّ العربيّ واللبنانيّ جزء منه فاسدٌ مفسدٌ، وقد أحكم الطوق الدستوريّ والقانونيّ على عنق المجتمع، بالرغم من افتقاده للمشروعيّة وعجزه عن القيام بأعباء الأدوار المنوطة به دستورياً وسياسياً، فيما يستأثر مجتمع المقاومة بكلّ الجاذبية التي يفتقدها الأول المترهل. هنا، تتجلّى شرعية المقاومة الشعبية والأخلاقية في مواجهة شرعية السلطة الدستورية الشكلية؛ فالأولى تعبير عن توافقات المجتمع وموازين قوته فيما الأخرى شكليّة تفتقد المضامين الواقعية؛ هذا إذا لم نذهب إلى مناقشة واقع النظام اللبنانيّ ديموقراطياً، وصحّة تمثيله وعدالته.
إذن، المقاومات في كلّ بلد عربي، بفضل ما تقدّمه أولاً من صلابة في مواجهة أعداء الأمة، ومن قدرة على تفسير العالم وصراعاته الوجوديّة، وما تحققه على أرض الواقع من انتصارات، تعبّر بصدق عن حقيقة النفسية العربية، وطموحات العرب، ومنطق الحياة والمجتمع.
لكن الدعاية السياسية الغربية عبر الأصوات المحليّة لا تني عن تجديد مقولاتها “السحريّة” لتجديد مفاعيلها السياسيّة، إذ ابتدأت بشعار “لا تجرؤون”، وهدفها تثبيط الناس عن نصرة المقاومين بذريعة أنّهم أوهن وأجبن من مواجهة العدو الصهيوني ببطشه وتقنياته وعديده ومدده… كأنه القهّار في سماواته العلى!
لكن المقاومين ما كانوا ليلتفتوا.
ثم سخروا من إسناد لبنان جبهة غزّة، حين استهدفت المقاومة منصّات وأجهزة تجسّسية مثبتة على عواميد شاهقة على الحدود اللبنانية-الفلسطينية، وأطلقوا هاشتاغات تسخر من التهديف على العواميد الفارغة بزعمهم!
أكمل المقاومون مهمتهم، وأعموا بصر العدو.
ثمّ عمل المثبّطون على ضرب فكرة توازن الرعب، وفكرة الرّدع، وأغلظوا القول بأن لا قدرة للمقاومة على منع الأذى عن المواطنين، حيث القصف والدمار والقتل يستعر في ربوع لبنان بعد فلسطين، قبل أن ينتقلوا إلى الترويج للقرارات الدولية، من خلال الزعم أن لبنان مستنكفٌ عن تطبيق القرارات الدولية، فيما العكس هو الصحيح، إذ الدولة اللبنانية من أكثر دول العالم التزاماً بالشرعية الدولية –على علّاتها-، والكيان الصهيوني أكثر الممتنعين عن تطبيق أيّ قرار دولي، بالرغم من القرارات الجمّة التي تدينه!
قالت لهم المقاومة: بلّوا القرارات واشربوا ماءها ففيه شفاءٌ لكم.
وهكذا، توالت أخبارٌ وأخبارٌ وألاعيبُ إعلامية… لم تُجدِ مع مضاء رؤية المقاومة وجدّها في سيرها نحو أهدافها، ولو سالت دماءُ أبنائها عشرات عشرات بل مئات، فكرامة أهلها من الله الشهادة.
***
لم تأت المقاومة في لبنان وفلسطين من فراغ، ولم تعلُ فوق الرمال، فالمقاومة في التاريخ العربي والإسلامي سمة مجتمعيّة. وقد ظهرت حركات كثيرة في التاريخ العربيّ الممتد في مواجهة انحراف السلطة، وأعداء الأمة.. وسميّت بـ”تنظيمات الأحداث”، والفتوات، والآخيّة، والعيارين والشطار والحرافيش…على اختلاف المناطق والشعوب.
يذكر ابن كثير في “البداية والنهاية” حركةً اشتّد عودها في الشام، زعيمها شخص يلقّب بـ”قسام التراب” من بني الحارث، “أقام بالشام فَسَدَّ خلَلَها، وقام بمصالحِها مدّةَ سنين عديدة، وكان مجلسُه بالجامع يجتمعُ الناسُ إليه فيأمرُهم وينهاهُم فيمتثلون ما يأمرُ به…”، “.. ثم استحوذ على الأمور وغلب على الولاة والأمراء..”.
يقول عنه ألكساندر خاتشريان في كتابه “حركة الفتوة والفتيان في التاريخ الإسلامي”: “مَدَحَه الشاعر الشهير عبد المحسن الصوري، ولقّب بملك الرجال دون أيّ ألقاب من ألقاب الدولة، وهزم 13 والياً فاطميّاً وأنصاره من أبناء الشام والغوطة”.
إلى ذلك، قامت حركات “بركات بن فارس الفوعي” المعروف بالمجن، و”ابن عصودا” وأخيه إسحاق، و”صدقة الشوا وأحمد الجسطار”، وابن المارود، ومحمد الجزار، والعلاّقة الملاح في صور.
ولم يقتصر ظهور “تنظيمات الفتوّة”، و”الأحداث” على منطقة بعينها بل شملت “القدس، وعسقلان، وحلب، وطبرية، والموصل، والمعرّة، وحمص، وعكا.. وبغداد ومصر والأناضول، “حيث الفراغ السياسي، والمحن الساحقة والفواجع العسكرية”.
وكان من شروط العضوية في هذه التنظيمات والفتوات العزوبةُ والشباب والشجاعة والمروءة والإخلاص للجماعة وتحمل المشاق والتعذيب.
ويروي مؤرخ دمشق “ابن القلانسي” أن أحداث دمشق وحمص “نهضوا لحرب الفرنجة عندما استنهضهم أتابك دمشق ظهير الدين طغتكين حين غزا هؤلاء حوران”.
ومن الشخصيات الشهيرة التي ارتبط اسمها بـ”حركات الفتوة” الناصر لدين الله العباسي الذي ألبسه الشيخ عبد الجبار بن صالح البغدادي، شيخ الفتيان، ثياب الفتوة، وكذا الظاهر بيبرس، والخليفة العباسي محمد الأمين الذي استنجد بهم، فثبتوا بوجه الجيش الخراساني بقيادة طاهر بن الحسين، وأثخنوا فيه.
ويقول محمد رجب النجّار في “الأحداث” خلاصة معبّرة عن واقع حالنا:
“هؤلاء… الذين طحنهم الفقر، وأعجزتهم البطالة، بسبب سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن مصالح العباد، وانهماكهم في الملذات -على حد تعبير المقريزي- فضاقوا ذرعاً بغياب القانون وغيبوبة السلطان وغباوة العسكر وأهل الدولة أو “لانهماك السلطان في القصف والعزف، وإعراضه عن المصالح الدينية والخيرات السياسية” على حد تعبير أبي حيان التوحيدي، وقد جمع بينهم أمران: أحدهما الانتماء إلى دائرة اجتماعية معيّنة، والآخر البطولة خارج القانون”.
وقد صدق، وعبّر عن واقع حالنا.
وسط المشهد السياسيّ العربيّ المخزيّ، وحمأة الجدل البيزنطيّ في لبنان، وتسابق فتيان المقاومة إلى الشهادة في سبيل الله والوطن، يحضرني قول امرؤ القيس، وأنا على ثقة من فألنا الحسن:
“عَلَيها فَتىً لَم تَحمِلِ الأَرضُ مِثلَهُ أَبَرَّ بِميثاقٍ وَأَوفى وَأَصبَرا”.