تفاقم ظاهرة اللامساواة.. علاجُها بالمساعدات أم بتقليص الفجوات؟

ارتفعت المساعدات الإنمائية العالمية من 211 ​​مليار دولار في عام 2022 إلى حوالي 224 مليار دولار عام 2023، وكان هدفها الأساسي «توفير الحدّ الأدنى لتحقيق أهداف التنمية المستدامة». فسُجّل في العام 2023 انخفاض حصة 60٪ من السكان عالمياً من الثروة، مقابلة زيادة الهوّة مع الأثرياء.

2737 شخصاً يحتكرون ثروات العالم، من بينهم 14 فرداً تتخطّى صافي ثروة كل منهم عتبة الـ100 مليار دولار أميركي. «إنّهم أكثر ثراءً من أي وقت مضى. تبلغ ثرواتهم الإجمالية 14.2 تريليون دولار، بزيادة 2 تريليون دولار عن عام 2023»، بحسب مجلّة «فوربس».

تضمّ الولايات المتحدة الأميركية أكبر عدد من الأثرياء وهو 813 مليارديراً، تليها في المرتبة الثانية الصين مع 473 مليارديراً، أما المرتبة الثالثة، فهي من نصيب الهند (200 مليارديراً). أيضاً، ثلث الأطفال عالمياً الذين يعانون من سوء التغذية هم من الهنود.

في مقابل تضاعف ثروات «أغنى خمسة رجال في العالم من 405 مليار دولار عام 2020 إلى 869 مليار دولار عام 2023» (من تقرير: مؤسسة اللامساواة، كيف تُقسّم سلطة الشركات عالمنا والحاجة إلى حقب جديدة من العمل العام – منظمة «أوكسفام» الدولية، 2024)، انخفضت حصّة 5 مليارات شخص من الثروة العالمية، وهم يُمثلون حوالي 60٪ من السكان. وإذا استمر الأمر على هذا النحو، «فسيكون لدينا أول تريليونير في غضون عقد من الزمن، ولكن لن يتم القضاء على الفقر قبل 229 سنة أخرى».

مليارات تطير فوق عالم يحتفل يومياً باكتشافاته التكنولوجية التي «ستُغيّر حياة البشر»، فيما ينحدر الفقراء فيه يومياً إلى مرتبة أكثر فقراً وبؤساً. القصة لا تتعلّق بـ«روّاد» أعمال ناجحين مقابل شعب كسول يُفضّل العيش على المساعدات المالية، فالمجتمع «ما زال غير مبني تماماً على الجدارة، وذلك على الرغم من أنّ الشهادات الدراسية تلعب اليوم دوراً أكبر منها في القرن التاسع عشر»، كما يقول الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، في كتابه «رأس المال في القرن الواحد والعشرين». المُشكلة في عالم تتعمّق فيه اللامساواة أكثر كلّما سجّل اكتشافاً جديداً، وركّز على رفع أرقام الناتج المحلي الإجمالي (قيمة جميع السلع والخدمات النهائية داخل دولة ما خلال فترة زمنية محددة). وبينما يتحضّر الأغنياء لصيف جديد على متن مراكبهم البحرية الضخمة، يموت أسبوعياً أكثر من 24 ألف إنسان من الجوع حول العالم. اتّساع الهوّة بين العالمين يترافق مع زيادة سياسات المؤسسات الدولية «للحدّ من الفقر واللامساواة».

الجنوب العالمي.. وتشريح اللامساواة

لم يعد عدم المساواة عالمياً محصوراً بالاختلافات والتفاوتات بين البلدان. تسجيل دول عدّة حيث الكثافة السكانية كبيرة، كالهند والصين، مُعدّلات نموّ مرتفعة للفرد أعلى من تلك المُسجّلة في الدول المُتقدمة ساهم في تعديل الصورة. في المقابل، تعمّقت اللامساواة داخل حدود البلد الواحد نفسه. يتحدّث الاقتصادي الصربي – الأميركي، برانكو ميلانوفيتش، في إحدى مقابلاته عن أوجه عدم المساواة داخل البلدان «التي أصبحت الآن أعلى ممّا كانت عليه قبل ثلاثين عاماً في جميع الدول الكُبرى. فقط دول أميركا اللاتينية لم تمضِ باتجاه زيادة عدم المساواة داخل حدود الدولة».

حتّى يشرح فكرته أكثر، يُحدّد ميلانوفيتش ثلاث مراحل تاريخية رئيسية في تشريح اللامساواة:

المرحلة الأولى؛ زمن الاستعمار والصراع الطبقي الحاد في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، «عدم المساواة والاستعمار كلاهما سبب ونتيجة».

المرحلة الثانية؛ تشكّلت خلال النصف الثاني من القرن العشرين «حين قُسّم العالم إلى: دول غنية رأسمالية، دول اشتراكية، دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية».

المرحلة الثالثة؛ صعود الصين والنموّ في آسيا “ساهم في تشكيل مرحلة تقلّصت فيها فجوة التفاوت على مستوى العالم، ولكن على حساب اتّساع فجوة التفاوت على المستوى الوطني». نحن نعيش في هذا العصر حالياً. يذكر تقرير منظمة «أوكسفام» أنّه سيستغرق الأمر 1200 سنة حتى تتمكّن امرأة عاملة في القطاع الصحي والاجتماعي من كسب متوسط ما يجنيه في عام واحد رئيس تنفيذي في أكبر 100 شركة «فورتشن».

لا يبدو عادلاً حصر مسألة اللامساواة في الدخل، مع وجود «تركّز للثروة أعلى من تركّز الدخل. وهو مؤشر أكثر دلالة وخطورة على اللامساواة. حصة الـ 50٪ الأدنى من السكان من إجمالي الثروة تقترب من 1٪ فقط مقابل 5٪ و9٪ بالنسبة للدخل»، وفق تقرير «الفقر واللامساواة في البلدان العربية.. الواقع والسياسات»

ليس بالدخل وحده تُحدّد اللامساواة

يبيع العامل قوّة عمله إلى صاحب العمل مقابل أجرٍ والالتزام ببيئة عمل، حتى ولو لم تكن ضامنة لحقوقه كاملة، مُتعرّضاً لابتزاز دائم بإنهاء فترة خدمته أو خضوع أجره لتخفيض مُفاجئ. فتكون النتيجة استغلال العمّال عبر دفعهم إلى زيادة أرباح الرأسمال وتوسيع الهوّة الاجتماعية، من دون أن يتمكّنوا من خلق قيمة تُذكر لأنفسهم. وكلّما ارتفعت الإنتاجية وازدادت الكفاءة عبر إدخال الآلة وتقنيات المعرفة الحديثة المُحتكرة من قبل الذين لديهم ولوج إلى المعرفة، «جُعل المزيد من العمّال عديمي الفائدة، وتُصبح فرصة استغلالك في وظيفة طويلة الأمد بمثابة امتياز»، يقول الناقد السلوفيني، سلافوي جيجيك.

يُحاجج عددٌ من الاقتصاديين على أنّه برغم اتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء، «إلا أنّه لا يوجد دليل على أنّ وضع الطبقات الدنيا تردّى، خاصة إذا ما نظرنا إلى واحد من المعايير الأساسية، وهو الحدّ الأدنى للأجور الذي شهد ارتفاعاً في معظم دول العالم». يأتي تقرير «أوكسفام» ليُناقضها عبر تأكيد بياناته لسنة 2023 وجود «52 دولة انخفض فيها متوسّط الأجور الحقيقية لنحو 800 مليون عامل خسروا مُجتمعين 1.5 تريليون دولار في العامين الماضيين». كما أنّ منظّمة «التعاون الاقتصادي والتنمية» أعلنت في تقريرها عن سنة 2022 انخفاض الأجور الحقيقية بمعدّل 3.8% في بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وإذا ما أردنا الغوص أكثر في قصة رفع الحدّ الأدنى للأجور، نجد أنّ هذه الدول نفسها تُعاني من اتّساع الفجوة وزيادة نسبة عدم المساواة، وتحديداً الدول المُتطورة.

ويُسجّل الحدّ الأدنى للأجور القيمة الأعلى في دول لوكسمبورغ، أستراليا، ألمانيا، إيرلندا، فرنسا، هولندا، نيوزيلندا، وسويسرا. في المقابل، تُسجّل في هذه الدول تحديداً مستويات مرتفعة جداً من الفقر وعدم المساواة في توزيع الثروة. في لوكسمبورغ على سبيل المثال، ترتفع نسبة الفقر إلى 21.5٪ وهي أعلى من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي. لا يبدو عادلاً حصر مسألة اللامساواة في الدخل، مع وجود «تركّز للثروة أعلى من تركّز الدخل. وهو مؤشر أكثر دلالة وخطورة على اللامساواة. حصة الـ 50٪ الأدنى من السكان من إجمالي الثروة تقترب من 1٪ فقط مقابل 5٪ و9٪ بالنسبة للدخل»، وفق تقرير «الفقر واللامساواة في البلدان العربية.. الواقع والسياسات».

ويقول المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة اللبنانية والمستشار السابق في البنك الدولي، سمير الضاهر لـ”180 بوست” إنّ «اعتماد الدخل فقط هو تفسير ناقص لعدم المساواة، فالقياس يجب أن يشمل مُقومات الحياة والاستهلاك والخدمات الاجتماعية التي تُقدّمها الدول». في هذا الإطار، يُقدّم البروفيسور في علم الأوبئة الاجتماعية في جامعة نوتنغهام البريطانية، ريتشارد ويلكنسن مقارنة مع الوضع في كوبا. يُشير في مقابلة خاصة إلى «تمكّن الدولة الكاريبية – مثلاً – من الحدّ من عدم المساواة عبر تقسيم الموارد المتاحة على السكان بطريقة عادلة أكثر من غيرها من الدول الأكثر تطوراً. فإذا كانت قادرة على تحقيق ذلك من دون أحدث التقنيات، كم سيكون الأمر أسهل على من يملك التكنولوجيا والمال»؟

لبنان نموذجاً.. الأزمة تُعمّق اللامساواة

التقرير الأخير للبنك الدولي عن لبنان أظهر أنّ معدّلات الفقر بلغت 44٪ من مجموع السكان. يُتوقّع أن تكون النسبة الفعلية أعلى من ذلك بكثير لأنّ دراسة البنك الدولي استثنت حوالي 2 مليون نسمة من المقيمين في ضاحية بيروت الجنوبية، بعلبك – الهرمل، الجنوب والنبطية لأسباب أمنية، والتقرير ركّز على مظاهر الفقر النقدي (الأجر والمساعدات النقدية) على حساب الوصول إلى الخدمات والتقديمات الاجتماعية، وتمّ اعتماد خطّ فقر جديد بـ1.6 دولار باليوم خلافاً للخطّ الذي يعتمده البنك الدولي نفسه والمؤسسات الدولية العالمية، وهو 2.15 دولار للفرد.

إقرأ على موقع 180  تهمة الخيانة تُشهر في وجه المعارضين السديريين: تمهيد لتنحي سلمان؟

معطيات الفقر الجديدة تزامنت مع الكشف عن أرقام الميزان التجاري اللبناني للعام 2023، حيث بلغ الاستيراد 17,5 مليار دولار، مقابل 19 مليار دولار لعام 2022، و20 مليار دولار لسنة 2018 وهو العام الذي سبق إشهار الانهيار. الطبيعي في بلد كلبنان لا يزال في قلب انهيار مالي ونقدي ومصرفي، أن تنخفض أرقام الاستيراد كثيراً وليس العكس، وأن تنقطع من الأسواق المنتجات الغربية غير الأساسية، وأن يتوقّف استيراد سيارة «ماكلارن» الفاخرة كلّ أسبوع، ولا يُرسل وزير الخزانة البريطانية «تهنئته» إلى المسؤولين اللبنانيين لتسجيل لبنان «رقماً قياسياً» بعدد سيارات «لاند روفر» رباعية الدفع المُصدّرة إليه عام 2023.

إحدى الأسباب التي تسمح بتسجيل أرقام استيراد مرتفعة هي ثراء طبقة جديدة في المجتمع، وزيادة ثروة «الأغنياء القدامى» القادرين على تمويل نمط حياة تبذيري. يُضيف مؤشر «بلوم إنفست» سبباً آخر وهو «تسديد ديون الدولار الأمريكي بأسعار صرف أقل من قيمتها الحقيقية، ما أدّى إلى تحويل ثروة تزيد عن 15 مليار دولار من الدائنين إلى المدينين».

أما القروض السكنية الصغيرة التي سُدّدت ديونها مستفيدة من انهيار العملة، فلا تُقارن بالمبالغ التي وفّرها «كبار المُقترضين» من خلال تسديد قروضهم بالدولار الأميركي وفق سعر صرف غير حقيقي. أحد رجال الأعمال استفاد من هذا الفارق فاشترى طائرة خاصة!

لسنوات طويلة، قُدّم تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية على أنّه «خدمة لعامّة المجتمع اللبناني» الذي تمكّن بفضل السياسات المالية والنقدية المتعاقبة من العيش برفاهية. وحين أُشهر إفلاس القطاع المصرفي سنة 2019، حاجج المسؤولون عن السياسات المُتّبعة والمُستفيدون منها بأنّ الفاتورة يجب أن يدفعها الجميع. تثبيت الليرة على سعر وهمي هو 1500 ليرة ساعد موظفين وعائلات عديدة على توفير نمط استهلاكي جيّد على المدى القصير، ولكنّه حرم عامة المجتمع من استثمارات في البنى التحتية، مجانية التعليم، توفّر النقل العام، مجانية الطبابة، التغطية الصحية، تحفيزات للصناعة والزراعة، وما فعله تثبيت سعر العملة أنّه عمّق الهوّة بين السكان. فكان الأغنياء قادرين على تمويل استهلاكهم بأبخس الأسعار مستفيدين من الفارق بين سعر الصرف والقيمة الحقيقية لليرة، ومن الفوائد المرتفعة على الودائع وسندات الدين العام التي مُنحت لهم.

بعد الانهيار، في خريف العام 2019، أُفقر الفقراء الذين أُجبروا على تعديل نمط حياتهم والتخلّي عن مسائل أساسية لهم، كالطبابة والكهرباء والتعليم، واغتنى الأغنياء وخُلقت طبقة جديدة من مُنتفعي الأزمة.

الطبيعي في بلد كلبنان لا يزال في قلب انهيار مالي ونقدي ومصرفي، أن تنخفض أرقام الاستيراد كثيراً وليس العكس، وأن تنقطع من الأسواق المنتجات الغربية غير الأساسية، وأن يتوقّف استيراد سيارة «ماكلارن» الفاخرة كلّ أسبوع، ولا يُرسل وزير الخزانة البريطانية «تهنئته» إلى المسؤولين اللبنانيين لتسجيل لبنان «رقماً قياسياً» بعدد سيارات «لاند روفر» رباعية الدفع المُصدّرة إليه عام 2023

تصدير الأزمة من الشمال إلى الجنوب

في العام 2015، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على «خطة 2030 للتنمية المستدامة الشاملة» والتي تتضمّن 17 هدفاً إنمائياً لتحقيقه، من أهمها القضاء على الفقر، القضاء «التام» على الجوع، تأمين التعليم الجيّد والصحة والمياه النظيفة للسكان، الحدّ من اللامساواة، مكافحة التغيّر المناخي. ست سنوات باقية على انتهاء المهلة من دون أن يُسجّل أي تقدّم. انتقاد الوضع أتى من داخل المؤسسات العالمية. فقد نشر «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» تقريره لسنة 2024/2023 وخلص فيه إلى أنّ «التقدّم في مجال التنمية متفاوت، يؤدّي إلى تخلّف أفقر بلدان العالم عن اللحاق بغيرها من الدول، ويُفاقم الفجوة بين الناس».

الانتقاد يُصيب أيضاً مقياس مؤشّر التنمية المستدامة الذي طُوّر لتقييم تقدّم كلّ دولة في تحقيق أهداف التنمية الـ17. يسخر تقرير نشره موقع مجلة «فورين بوليسي» الأميركية من «الانطباع الذي يتركه المؤشّر بأنّ الدول الغربية الغنية تقود تحقيق التنمية المستدامة»، فيما الواقع يُشير إلى أنّها «من أكثر البلدان غير المستدامة بيئياً.. البلدان الغنية تنقل الضرر إلى البلدان الأكثر فقراً. فتُعاقب دول الجنوب على ما تتسبّب به الدول الغنية».

أما مؤسسات التنمية العالمية ومنظمات الأمم المتحدة «فإنها تفشل في تحقيق تكامل السياسات وطرح مشاريع جديدة على الطاولة تتبنّى أهداف التنمية المستدامة، عوض محاولة إعادة صياغة الأنشطة والبرامج القائمة لتضم هذه الأهداف».

ليس بالتمويل وحده

ما سبق يؤكّد أن تحقيق التنمية المستدامة ليس أزمة تمويل. تُشير أرقام «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» إلى أنّ المساعدات الإنمائية الرسمية بلغت حوالي 224 مليار دولار أمريكي في عام 2023 مقارنة بـ 211 ​​مليار دولار أمريكي في عام 2022. ارتفعت المساعدات، منذ اعتماد أهداف التنمية المستدامة عام 2015، بنحو 70 مليار دولار أمريكي، «بهدف توفير الحد الأدنى من المساعدة اللازمة للبلدان النامية على تحقيق أهداف التنمية». فأتت النتيجة بارتفاع عدد ضحايا البيئة والمجاعة والفقر والتطوّر الرقمي الذين باتوا أهدافاً لبرامج التمويل والمساعدات العالمية. وبرغم ذلك لم تتمكّن من تحقيق أي خرق أو تحسين مستوى حياة هؤلاء.

يُدافع سمير الضاهر بداية عن دور المؤسسات الدولية «التي تلعب دوراً معنوياً وتطرح مشاريع فيها إصلاحات، إضافة للتمويل». أما عن الأسباب التي تُعيق أعمالها، فيُحدّدها بـ«إما عدم وجود موارد كافية يقدر البلد أن يستفيد منها ليُحقّق نمواً، أو وجود عدد كبير من السكان ما يُصعّب حلّ المشكلة، أو غياب الإدارة الصحيحة لتشغيل الموارد وتحقيق التنمية، وأخيراً اعتماد المؤسسات الدولية على وصفة جاهزة تُحاول تطبيقها في كلّ البلدان من دون الأخذ في الاعتبار خصوصية كل مجتمع».

إنشاء الدولة الإجتماعية

عدم المساواة ينتج عن «الخيارات السياسية التي تُحدّدها كلّ دولة»، يقول ريتشارد ويلكنسن. يصف هذه المشكلة بـ«الملوّث الاجتماعي»، الذي لا يرتبط حصراً بالفقر والتفاوت في الدخل والأزمات البيئية وغيره، «بل بتسبّبه أيضاً بالمشكلات الصحية التي يُعاني منها الناس ويؤذي علاقاتهم الاجتماعية ويضرّ بصحتهم العقلية». يشرح ويلكنسن أنّ عدم المساواة «يجعل الناس يعملون لساعات أطول، يدّخرون أقل، يقترضون أكثر، ويزيد استهلاكهم للسلع الكمالية للتمثّل بالأفراد من الطبقات المتوسطة». نتائج عدم المساواة «لا يجب أن تُحلّ بالمساعدات النقدية، ولا بتحسين أرقام الناتج المحلي، بل بتقليص الفجوات».

كيف يتم ذلك؟ يُجيب سمير الضاهر أنّ أساس أي سياسة عامة هو تحديد السياسة المالية للدولة، النظام الضريبي الذي سيُعتمد، وما هو الهدف منه. «يجب أن يدفع الأغنياء أكثر من أجل نقل الثروة من الأعلى إلى الأدنى، وبناء الدولة الاجتماعية»، ويُضيف المستشار الاقتصادي أنّ «المساعدات النقدية جيّدة مؤقتا وبطريقة مُصوبة. لنأخذ مثلاً لبنان، لم يعد بإمكاننا أن نستدين لدفع مساعدات اجتماعية. وأخذنا قراراً بأنّنا في السنوات الثلاث المُقبلة، لن نطلب من البنك الدولي أي قرض للمساعدات النقدية، بل اتفقنا معه أنّ التركيز سيكون على قروض لثلاثة مشاريع: الكهرباء، المياه، قوننة الخدمات العامة».

الدين العام في لبنان هو واحد من مُسببات عدم المساواة، والمزيد من الاقتراض يُفاقم الوضع سوءاً. تعيش الحكومة ومجلس النواب ومصرف لبنان هاجس إظهار الحسابات من دون عجز، ولو ورقياً، وتسجيل زيادة وهمية في الإيرادات، على حساب تنفيذ أي مشروع استثماري. «التصحيح»، بمزيد من الديون، ما زال يتمّ على حساب الفئات الضعيفة.

يقول توماس بيكيتي أنّ «عملية إنشاء دولة ضريبية واجتماعية كانت دوماً عاملاً مُهماً في عملية التطور والتنمية في الدول التي صارت اليوم مُتقدمة. فكل التجارب التاريخية تقترح أنّه في ظلّ إيرادات ضريبية بنسبة 10 إلى 15٪ فقط من مجمل إيرادات الموازنة، لا تسمح للدولة بأن تقوم بأكثر من الوظائف السيادية التقليدية».

Print Friendly, PDF & Email
ليا القزي

باحثة في الشؤون الإقتصادية، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كفى إنتظاراً للخارج، هل يريد قادة لبنان الإصلاح؟