الأم “تُهلوّس” حسب حكاية “أم حسين”!

صعدَت للميكروباص واتجهت كعادتها مباشرة نحو مكانها خلف السائق. نظر محمود في المرآة وسألها، "صباح الخير يا أم حسين. مالك. مين مزعلك عالصبح؟ ما اتعودناش نشوفك زعلانة". رفعت حرف طرحتها ومسحت بها دمعة كادت تنزل على خدها. لم تجب واحترم الجميع، السائق وركاب الباص، صمتها. تكتموا على فضولهم وصمتوا.

رحلتها كل يوم تستغرق ساعة زمان تقضيها أم حسين عادة تتسلى بتصرفات المارة وجمال البيوت والحدائق. لم تجد يوماً غضاضة في أن تصل إلى مسامعها كلمات غير طيبة تصدر عن السائق معبراً عن ضيقه وتبرمه من صعوبات حياته اليومية وعلاقاته الحسّاسة برجال الشرطة ومن التدهور الذي أصاب الناس في أخلاقهم. كما أن الملل لم يكن يتسرب إليها من الشكوى الدائمة في سوق الخضار كما في الباص من “استحالة” استمرار العيش إذا استمرت سبل الحياة تضيق وتتعقد على النحو الحاصل في السنوات الأخيرة، فالعيش وإن ضاق وتعقدت سبله استمر ولم يتوقف برغم استمرار التضييق والتعقيد.

***

اليوم مختلف قليلاً عن سائر الأيام. الست أم حسين لم تتوقف هذا الصباح في السوق وسدّت أذنيها عن أحاديث الشكوى الصادرة عن الركاب، نساؤهم والرجال والشباب من الجنسين. بل إن اليوم منذ ما قبل شروقه بدأ وفي نيته الاختلاف. كعادتها سهرت الجدة أم حسين مع حفيداتها الأربع وأمهن في شقتهم حتى قرب انتصاف الليل، انسحبت في الموعد دون تبادل تحيات وتمنيات إلى غرفة نوم حفيداتها الأخريات  لتستلقي على فرشتها المعتادة. نامت نوماً عميقاً لساعات لم تعرف عددها. أفاقت منزعجة على هزات كتف عنيفة وأصوات عالية أقرب إلى الصراخ.

***

راحت أصغر البنات، ابنة الثانية عشرة، تحكي في رواية مقطّعة الأجزاء ما رأت وسمعت خلال ساعات ما بعد الفجر وقبل الشروق. استيقظت لتجد أمها تجلس على حافة الفراش الذي تقاسمتاه منذ نشأت ووعت،  رأت في يدها، أقصد يد الأم، كيس أدوية أكثرها مخصص لعلاج الجلطة الدماغية التي أصيبت بها قبل شهور قليلة، رأتها تستخرج منه الأشرطة ومن الأشرطة تنتزع الحبوب والأقراص وتجمعها في كفها الآخر. وفي لمح البصر ألقت بكل ما جمعت في جوفها ودعت ابنتها للعودة للنوم. لم تلاحظ الطفلة، أو المراهقة الصغيرة، كم الدموع المختزن في عيني الأم، ولكنها استسلمت لذراعيها تسحبانها نحو صدرها لتنام وقتاً لم تعرف مداه في حضنها. أفاقت على صرخة مكتومة من أمها الممسكة ببطنها والمتلوية بالألم، تلاها سقوط الأم من فراشها على أرض الغرفة ساكتة لا تتحرك لكن بقي لسانها يحاول النطق بكلمات متناثرة.

أفاقت الشقيقات الثلاث والجدة على صراخ الصغيرة وعويلها. تعالى البكاء وتعددت أشكال الفوضى في سلوك أفراد العائلة وليس فيها رجل أو شاب بالغ. نظرت أكبرهن، أقصد الشقيقات، من النافذة لتعرف أن الفجر لم ينبلج تماماً. راحت تشاور جدتها التي طلبت منها الاتصال بابنها، خال البنات، وبأبيها، طليق أمها. استمرت الأم “تهلوس” حسب قول أمها “أم حسين”.

***

خلاصة الهلوسة، حسب ترجمة الأم والشقيقة الكبرى ما يلي: “أنا تعبت يا بنات. مبقتش قادرة على إعاشتكم وتربيتكم. الجلطة كانت إنذاراً. لم أرتدع. أحلف لكم إني ما قصّرت. لم أقابل باباً أو مدخلاً إلا وطرقت من أجلكم. عملت ساعات إضافية وبرضه فضل الدخل أقل عن حاجاتكم  الضرورية.

تحملت الأذى والضرر من ناس ولاد حرام علشانكم وعلشان أعيش مدة أطول معاكم وليكم. كلّمت أبوكم، وانتم عارفين إنه كسيب، قللي الكلمتين اللي بيقولها ليكم، مصاريفه كتير وطلب مني أعيد عليكم إنه مش ناوي يجهزكوا بأكتر من التلاجة، وبيكرر على التلات بنات اللي لسه بيروحوا المدرسة إنهم لازم يقعدوا في البيت لأنه مش حيدفع فلوس تاني للمعلمين  إياهم بتوع المجموعات. رديت قلتلو مش كفاية خرجنا الكبيرة علشانك  من المدرسة وهي يا دوب على وش شهادة.

قللي عندهم جدتهم خليها تساعد. رديت أن أمي عندها دلوقت ستين سنة وبتشتغل في بيتين في وقت واحد ومسئولة عن خمسة أحفاد غير ولادنا مالهمش ذنب في جواز أهلهم مرة تانية من نسوان مش عايزين يربوا ولاد غيرهم. قلت إن عيالي تعبوا وكلنا تعبنا.

وانتو يا ولادي تعبتوا. وأنا يا بنات تعبت. أنا بكلفكم كتير تمن الأدوية الغالية اللي باخدها ومش قادرة أساعدكم ولا أخدمكم. من فضلكم ما تزعلوش مني بسبب اللي انا عملته في نفسي. أنا فكّرت يمكن أخفف شوية الحمل على مصروفنا لو أنا مت. وانت يا أمي كفاية اللي انت بتتحمليه ومش ذنبك. أنا عارفه إن أبونا ما منوش فايدة. رحت مرة والتانية والتالتة وطردني وقللي حد كان قلك تطلقي والا دخليهم مدارس. روحي لأمك ما هي مكنزة فلوس على قلبها. حتقوليلي ما هي بتربي عيال تانيين من ولادها الصبيان. تستاهل. خليها ترميهم في الشارع، أهم ولاد الشوارع على الأقل ما بيناموش جعانين ولا محتاجين حيطة تضلل عليهم. بطلت أروحله”.

“أنا تعبت وقلبي بيوجعني ومعدتي قالبة، ما تزعلوش مني”.

إقرأ على موقع 180  أرامكو السعودية.. ونهاية عصر النفط

***

كانت ليلة ازداد فيها غم أهل البيت. كانت الأم في أوائل الليل تشكو قلة الخبز الضروري لوجبة العشاء. لا خبز ولا جبن وحتى لا بقايا أكل تأتي به الجدة من البيوت التي تخدم فيها. انتهت الليلة بسقوط أم البنات صريعة سكتة قلبية. حملوها إلى أقرب مستشفى تاركين أصغر البنات مع جدتها.

أما الجدة فكانت مرتبطة بمواعيد عملها. في السابعة خرجت واستقلت الميكروباص. وصلت بيت مخدوميها. سألوها “ما بك؟”، أجابت “المشوار الطويل وقلة نوم.. وبنتي في الإنعاش”.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لاجئات سوريات تحتضن أطفالهنّ.. بالدعم النفسي