باتت الكرة، نظريا، في ملعب المبعوث الاممي الى سوريا غير بدرسون، للاعلان الرسمي عن تشكيل اللجنة الدستورية الموكلة، طبقا لاتفاق سوتشي، وضع دستور جديد، وذلك بعد اعلان قمة أنقرة (16 ايلول/ سبتمبر 2019)، التي جمعت رؤساء الدول الضامنة الثلاثة؛ فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان وحسن روحاني، عن التوصل الى اتفاق نهائي على تشكيل هذه اللجنة وحسم الخلاف الأخير على آخر اسم من الاسماء الـ 150 التي تتألف منها والبدء بالتحضير لاجتماعاتها في جنيف.
وبدا الرؤساء الثلاثة متفائلين الى حد بعيد ببدء اجتماعات هذه الهيئة التي يتوزع اعضاؤها مثالثة بين الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني، قريبا في جنيف، رغم انها ليست المرة الأولى التي يعلن فيها هؤلاء الأطراف التوصل الى اتفاق مماثل، فقد سبق اعلان أنقرة، اعلان آخر صدر قبل عشرة أشهر عن وزراء الخارجية، سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف وأحمد داوود أوغلو، بعد اجتماع عقد في جنيف شارك فيه للمرة الأخيرة المبعوث الاممي السابق ستافان ديمستورا في 18 كانون الأول / ديسمبر الماضي.
لكن اعمال اللجنة واجتماعاتها لم تنطلق في ذلك الوقت، والسبب المعلن في حينه، ان مجموعة من خمسة اسماء، بقيت محل خلاف على مستويين، الأول بين مجموعة الدول الضامنة من جهة، والمبعوث الاممي السابق مدعوما بالمجموعة الدولية المصغرة (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا والسعودية والاردن ومصر) من الجهة الأخرى، والمستوى الثاني، بين أنقرة وروسيا، على هوية اسم أو اثنين من الأعضاء المحسوبين على الثلث الثالث.
والمعروف، أن توزيع أعضاء اللجنة الدستورية لم يتطابق مع مبدأ سوتشي القائل باحتساب 50 اسما للحكومة و50 للمعارضة و50 للمجتمع المدني والمستقلين، على أن تتكفل الأمم المتحدة، بالتشاور مع الأطراف السوريين بتسمية الثلث الاخير، بل تحول رهينة لمشيئة الدول المؤثرة في الأزمة السورية التي تكفلت بعملية الاختيار نيابة عن الأمم المتحدة، بما يكفل نوعا من التوازن في النسب العائدة لكل طرف، تحضيرا لعملية التصويت لاحقا على المواد التي سيتشكل منها الدستور الجديد.
وبحسب اتفاق سوتشي، فإن بنود الدستور الجديد يتم تبنيها فقط في حال حصولها على نسبة 75% من اعضاء الهيئة العامة للجنة الدستورية الـ 150، وعلى هذا الاساس، خضعت عملية اختيار الهوية السياسية للثلث الثالث لحسابات دقيقة جدا، اذ حاول كل طرف من الطرفين الاساسيين، الحكومة وأطياف المعارضة، أو المعارضات، الحصول على النسبة الأعلى من مجمل أفراد هذا الثلث، وبحسب تشكيلة ما قبل اتفاق أنقرة، فإن التوزيع شبه النهائي رسا على نسبة 58 الى 60% من المحسوبين على الحكومة، و32 بالمئة للمعارضات، والباقي مستقلين، أو غير معروفي أو “مكشوفي” الهوية السياسية.
وتقول اوساط مقربة من الفريق الأممي في جنيف لموقع 180، ان الاعلان الحالي مختلف تماما عن اعلان جنيف العام الماضي “لأن معظم العقبات قد أزيلت” وبفضل التفاهم التركي – الروسي، حسم أمر العضو الأخير الذي كان محل خلاف لأشهر طويلة بين موسكو وأنقرة، أما بالنسبة للاسماء الأخرى، محل خلاف المجموعتين “الضامنة” والمصغرة”، فقد تمكن غير بدرسون من حسمها عبر “تدوير الزوايا” خلال زياراته لكل من الرياض وواشنطن وموسكو.
كان تصريح الرئيس الايراني حسن روحاني من أنقرة لافتا جدا عندما كرر مرتين أن عمل اللجنة “هو وضع دستور جديد”
ويقول من تابع مشاورات غير بدرسون خلال الأشهر الأخيرة مع عواصم الدول الغربية بالاضافة الى السعودية، وخصوصا خلال الأجتماع الذي جرى في 13 ايلول/ سبتمبر 2019 بين المبعوث الأممي وممثلي “المجموعة المصغرة”، ان هذه المجموعة، التي لم تعمل سابقا على تسريع تشكيل اللجنة الدستورية، طالبت بدرسون خلال الاجتماع الأخير بالاسراع في تشكيلها واطلاق عملها في أقرب فرصة في جنيف.
وفسرت اوساطا دبلوماسية غربية ذلك بالقول، إن المجموعة المصغرة كانت ترفض سابقا تسهيل تشكيل اللجنة، على أساس ان هذه اللجنة، التي ستضع دستوراً جديداً تجري على اساسه الانتخابات، هي الوسيلة الوحيدة بالنسبة لموسكو، لترجمة التدخل العسكري الروسي في سوريا سياسيا عبر تركيز نظام سياسي تشرف عليه روسيا ويدور في فلكها، لكن الموقف الغربي – العربي تغير خلال الاسابيع القليلة الاخيرة وباتت هذه الدول امام معطيات جديدة ومختلفة بعد التطورات الميدانية وسيطرة الجيش السوري على مناطق واسعة في ريفي ادلب الجنوبي وحماه الشمالي، وبات التوجه لاستعجال تشكيل اللجنة خوفا من “خسارة المجموعات المسلحة آخر معاقلها في ادلب”، أو على الأقل تحييد المنطقة عسكريا بفعل التقدم الكبير في مستوى التفاهمات بين أنقرة وموسكو.
وفي اللقاءات التي عقدها ممثلو “المجموعة المصغرة” في جنيف في 12 ايلول/ سبتمبر 2019 مع وفد كبير من المعارضة المدعومة من السعودية والدول الغربية، برئاسة نصر الحريري، ابلغ ممثلو هذه الدول الوفد المعارض بضرورة التوقف عن اصدار اي موقف يعارض أو يعرقل تشكيل اللجنة الدستورية “لأن النظام السوري ينتظر أي عرقلة من جانبنا ليتخذ منها ذريعة لمواصلة سياسة التمييع”، وبالفعل، قالت اوساط المبعوث الأممي لموقع 180 ان الوفد المعارض الذي التقى غير بدرسون في 13 ايلول/ سبتمبر 2019، ابلغه موقفا مسهلاً لتشكيل اللجنة.
وخلافا لتوقعات المبعوث الاميركي الى سوريا جيمس جيفري بالعرقلة السورية، فإن بوتين حسم في لقاء أنقرة الثلاثي أمر تشكيل اللجنة مع اردوغان، ويبدو أن المبعوث الاممي كان على علم مسبق بنية حسم تشكيل اللجنة من قبل الاتراك و”الاصدقاء الروس” كما وصفهم في تصريحه بعد اجتماعه مع الجموعة المصغرة اذ قال انه “ينتظر اخبارا ايجابية بهذا الخصوص في وقت قصير”.
هل خرجت اللجنة الدستورية من دائرة الخطر؟
تتوقع اوساط الامم المتحدة ان يعلن غير بدرسون قريبا، وربما على هامش اعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، تشكيل اللجنة الدستورية، وبعد ذلك سيدعو الأعضاء الـ150 الى جنيف من أجل اختيار 15 عضوا عن كل مجموعة، أي ما مجموعه 45 شخصا معظمهم من ذوي الاختصاص في القانون الدستوري اذا أمكن، وستتحول جنيف لمنصة دائمة لاجتماعات عمل من أجل وضع الدستور الجديد.
ويواجه عمل هذه اللجنة معضلتان، الأولى لها علاقة بما تسميه دمشق “سيادة الدولة على دستورها”، بمعنى أن دستور سوريا لا يمكن أن يصاغ خارج الأراضي السورية، فيما تطالب المجموعة المصغرة والامم المتحدة بحصرية جنيف لاجتماعات الصياغة وبالمحافظة على مرجعية المنظمة الاممية تطبيقا للقرار 2254، ويعوّل المبعوث الأممي على الجانب الروسي لاقناع دمشق بتسهيل امر اجتماعات جنيف.
أما المعضلة الثانية، فهي بين وضع دستور جديد لسوريا أم الاستناد الى الدستور الحالي واجراء تعديلات عليه؟، وهنا تبدو دمشق وحيدة في دفاعها عن الخيار الثاني، فقد كان تصريح الرئيس الايراني حسن روحاني من أنقرة لافتا جدا عندما كرر مرتين أن عمل اللجنة “هو وضع دستور جديد”، وهو كلام يتبنى فيه الرئيس الايراني موقف نظيره الروسي.
وقبل الوصول الى مستوى المعضلات الآنفة الذكر، ستترجم علمية اختيار اللجنة المصغرة ذات الـ45 عضوا من بين الـ150 اختبارا حقيقيا لنوايا القوى المؤثرة، فإذا كانت جادة في تصميمها على اطلاق العملية السياسية سيتم اختيار أعضاء هذه اللجنة سريعا وإلا فإن الأمر سيدخل مجددا في بازار التقلبات السياسية.