إلى أيّ حدّ نعيش.. “القرون الوسطى” في منطقتنا؟

"القرون الوسطى" هو بالطّبع مفهوم أوروبيّ- وغربيّ- المنشأ والسّياق بشكل أساسيّ، ويُستخدم عادةً وعموماً للدّلالة على مرحلةِ ما بعد سقوط الامبراطوريّة الرّومانيّة العُظمى، وصولاً إلى ما يُسمّيه أبرز مؤرّخيهم ببداية عصر النّهضة أو بداية عصر "البعث" (Renaissance) أو ما إلى ذلك. ولكنّ لهذا المفهوم، ببنائه الغالب عندهم وبصورته المهيمنة، دلالات أعمق من ذلك طبعاً: فمن مقاصده لديهم أن يدلّ على ظواهر متعدّدة ومتنوّعة في هذا الاطار، أغلبها "سلبيٌّ" في نظرهم، وعلى رأسها ما يُسمّونه عادةً "بالظّلاميّة" (وضمنيّاً ربّما "بالتّخلّف").. وصولاً إلى تجلّيات متعدّدة.

لنبدأ عزيزي القارىء من عند التسمية أولاً:

هي “القرون الوسطى” لأنها الوسطى ما بين (١) الأنوار الاغريقيّة-الرّومانيّة المدّعاة من جهة، وبين (٢) انبعاثها من جديد في عصر البعث العظيم من جهة ثانية. ومن هذه التّجلّيات المذكورة: انغلاق الفكر الدّينيّ وجموده النّسبيّ وتعصّبه الغالب؛ طغيان العقليّة التّكفيريّة عموماً؛ تراجع دور العقل و”العقلانيّة” إلى حدّ كبير نسبيّاً في مختلف المجالات؛ انتشار الفتن؛ تجدّد الحروب لا سيّما منها “الدّاخليّة”؛ سيادة العبوديّة والاختلال الكبير في العدالة الانسانيّة والاجتماعيّة على السّواء.. إلى آخر القائمة.

والواقع أنّ كثيرين من أصدقائي الفرنسيّين والغربيّين كانوا يسألونني أو يتساءلون أمامي بشكل متكرّر: إلى أيّ حدّ يعيش ما يُسمّونه بالشّرق الأوسط- أو ما يُسمّى أيضاً بمنطقة غرب آسيا أو بالمشرق- إلى أيّ حدٍّ هو يعيش “قرونه الوسطى” حاليّاً، أو ربّما إلى أيّ حدّ هو يُعيدُ عيشَ “القرون الوسطى” نفسِها في خطوطها الأساسيّة ربّما. طبعاً، إنّ في القضيّة من التّعقيد ومن الخصوصيّات من كلّ الجهات ما يجعل أيّ محاولة للإسقاط التّعميميّ، أو للفرض التّبسيطيّ للهويّة أو للتّطابق أو حتّى للتّماثل، مجرّد عمل هواة إن جاز التّعبير.

***

ولكن، باختصار: قد تكون ظاهرة “القرون الوسطى” ظاهرة غربيّة خاصّة بل وفريدة إلى حدّ بعيد، غير أنّي قد بدأت أعتقد، لا سيّما منذ عودتي إلى هذه البلاد بعد فترة اغتراب طويلة، بأنّنا- مع كلّ الاحتياطات المفاهيميّة السّابقة والواجبة- نعيش شيئاً من هذا في المشرق، خصوصاً في بلاد العراق والشّام أو في بلاد الهلال الخصيب، ولا سيّما في المرحلة الدّقيقة الرّاهنة.

مع تكرار الاحتياطات اللّازمة إذن: لا بدّ من الاعتراف، مع ذلك كلّه، بأنّنا نعيش اليوم ونُعايش عدداً كبيراً من الظّواهر والتّجلّيات المذكورة أو من شبيهاتها واقعاً. قد لا نكون نمرّ بـ”القرون الوسطى” نفسها بشكل متطابق.. ولكنّنا برأيي- وعلى الأرجح- نمرّ بمرحلة عامّة تشبهها من جوانب متعدّدة، وربّما إلى حدّ أكبر ممّا كنّا نعتقده إلى اليوم.

***

قد يكون السّؤال هنا ليس “إلى أيّ حدّ نحن نعيش راهناً في ما يشبه القرون الوسطى الأكثر ظلاميّة على الاطلاق” بل “إلى أيّ حدّ نحن لا نعيش هذه الأخيرة وفيها؟”. فبدلاً من الغرق في الشّعارات الغوغائيّة، وفي الانفعالات، وفي التّفاصيل هنا وهناك: فلنقارب المسألة بهدوء وبموضوعيّة قدر المستطاع، مع تخيّل تبعاتها الممكنة، إن كان على حاضرنا.. أو على ما يُمكن أن يسير في اتّجاهِهِ مستقبلُنا

زاد عندي هذا الشّعور، ونَمَت عندي هذه القناعة: في الحقيقة، بعد معاشرتي لواقعنا الاجتماعيّ والسّياسيّ والثّقافيّ بشكل مباشر إن شئت. كنت أعلم ببعض جوانب هذا الواقع طبعاً، ولكنّني “تذوّقته” الآن بما يكفي بعد عودتي من سنوات السّفر والاغتراب. انظر معي قليلاً، عزيزي القارئ، بهدوء وبما استطعت من موضوعيّة.. وسترى ما الذي أقصده في خطوطه العريضة:

فلنبدأ بعقلنا الدّينيّ السّائد والغالب اليوم بيننا جميعاً تقريباً، لا سيّما “عقلنا الاسلاميّ” طبعاً.. وحتّى “عقلنا المسيحيّ” السّائد والغالب في لبنان تحديداً، وفي هذا المشرق. إلى أيّ حدّ يُمكن الادّعاء بأنّ عقلنا الدّينيّ السّائد هذا عموماً ليس في الأغلب: “ظلاميّاً” بالمعنى المقصود آنفاً؛ جامداً؛ متطرّف الظّاهريّة؛ متعصّباً.. بل ورافضاً للآخر وتكفيريّاً إلى حدّ كبير نسبيّاً؟ إلى أيّ حدّ، عزيزي القارئ؟ إذا ما نظرنا حولنا بما استطعنا من موضوعيّة ومن حياد، فسنرى بشكل عامّ أنّ الوضع صعب جدّاً.. بل ويزداد سوءاً على الأرجح، خصوصاً منذ اندلاع الحرب الأهليّة السّوريّة عام ٢٠١١ تقريباً، وصولاً إلى التّطوّرات التي حدثت وتحدث في سوريا، كما في بوادي الشّام والعراق منذ سنة إلى اليوم. لن أطيل في هذا الاطار، بسبب تطرّقي للموضوع عينِه بشكل متكرّر.

أمّا بالنِّسبةِ إلى عقلِنا الأخلاقيّ هذه المرّة وإن جاز التّعبير، فإنَّه يُعاني بوضوحٍ من اشكاليّاتٍ عميقةٍ ومتجذِّرة أيضاً، متأثِّرةٍ إلى حدٍّ بعيدٍ بإشكاليّاتِ عقلِنا الدِّينيّ السّائد والمُشار إليه.
ومن الأمثلة على ذلك:

أوّلًا؛ أنّنا لا نتردَّد، في كثيرٍ من المواضع، في تقبُّلِ قاعدةِ الشّرّ والشّياطين الأولى وهي «أنَّ الغايةَ تُبرِّرُ الوسيلة»، وعلى مستوياتٍ متعدِّدة، فرديّةً كانت أم جماعيّة، خاصّةً حين تتقاطع المصالح، أو تُستَحضَرُ الذَّرائعُ العقائديّة أو الهويّاتيّة في مختلف المجالات والملفّات والأمصار تقريباً.

ثانيًا؛ نحن في الغالب لا نلتزم، كما ينبغي، بقاعدةِ أهل الأخلاق والتّقوى “ألّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى”، فلطالما نُعاقِبُ أفرادًا أبرياءَ بسبب أفعالِ غيرهم، ونُحاسِبُ جماعاتٍ كاملةً على أفعالِ أفرادٍ منها، في خلطٍ خطيرٍ متكرّر بين المسؤوليّة الفرديّة والعقاب الجماعيّ.

ثالثًا؛ حُكمَنا الأخلاقيّ، كما رأينا، و في كثيرٍ من القضايا، لا يكون محايدًا ولا موضوعيًّا، إذ يتأثَّر بانتماءاتِنا المذهبيّة والفئويّة، كما يتأثَّر بالمناخِ الفِتَنويّ العامّ الذي نعيشه، والذي يُساهِم الاستعمار، قديمُه وحديثُه، في تغذيتِه وترسيخِه إلى حدٍّ كبير.

إقرأ على موقع 180  هاريس وترامب.. مُرشحان لخيار إسرائيلي واحد!

أمّا عقلُنا الاجتماعيّ إن جاز التّعبير أيضاً، فهو بدوره متأثِّرٌ، بطبيعة الحال، بإشكاليّاتِ العقلين السّابقين. إذ تراهُ يُعاني من العقليّة الفِئويّة والمذهبيّة والطّائفيّة التي أشرنا إليها، فضلًا عن استمرار خضوعه، في مواضعَ وملفّاتٍ متعدِّدة، لما يمكن تسميتُه بـ«عقليّة القطيع»، تلك العقليّة التي تتحكَّم، إلى حدٍّ لا يُستهان به، بسلوك جماهيرنا وتوجِّه ممارساتِها الجماعيّة، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ ومعروفةٌ في واقعنا اليوميّ المُعاش. كما يُعاني هذا العقلُ الاجتماعيّ بصورةٍ عامّة، من غيابِ الوعي بأهمّيّة العمل الجادّ على احكامِ وتطبيقِ وتعميقِ مفهومِ العيشِ معاً، إذ لا نُدرك بما يكفي مركزيّةَ هذه المسألة، فننتهي إلى ممارساتٍ اجتماعيّةٍ تُناقِض، في بنيتها العميقة، مفهومَ العيشِ سويًّا.

ويُضاف إلى ذلك، أنّ عقلَنا الاجتماعيّ هذا لا يزال عموماً، وفي جوانبَ متعدّدةٍ وواسعةٍ منه، غارقًا في غياهب عوالم الخرافة والأسطورة، وفي تفسيراتٍ غيبيّةٍ سطحيّةٍ للواقع الاجتماعيّ كما للواقع السّياسيّ.. أي في تفسيراتٍ تُعطِّل التّفكير العقلانيّ والتّفكير ذا البعد الحضاريّ إلى حدّ كبير، وتُعيق تشكُّل وعيٍ اجتماعيٍّ نقديٍّ قادرٍ على فهم آليّات التخلّف والانقسام والعمل على تجاوزها.

وأخيرًا وليس آخرًا، فنحن لا نتردَّد بشكل عامّ في تبنّي الهويّات التي يُريد عدوُّنا ومستعمرُنا أن نتبنّاها، وأن نُعرِّف أنفسَنا من خلالها، بما يُعمِّق من تفكُّكِنا الاجتماعيّ، ويُضعِف مناعتَنا الاجتماعيّة والوطنيّة بشكلٍ عامّ.

أمّا بالنِّسبةِ إلى عقلِنا السياسيّ هذه المرّة، فهو يُعاني، وفي العموم، من تأثيرِ معظمِ ما سبق، وتتجلّى هذه المعاناة في مظاهرَ متعدّدة ومتنوّعة أيضاً، من أبرزها:

أوّلًا؛ سيادةُ عقليّةِ الطّغيان والتّفرّد والأنانيّة لدى من يحكموننا، بالتّوازي مع سيادةِ منطقِ الفتنة بين مكوِّنات مجتمعاتنا وقواها الأساسيّة، بحيث يَغلبُ على المشهدِ السياسيّ العامّ طابعُ الاستبداد والصّراعات والانقسامات الحادّة إلى حدّ كبير.

ثانيًا؛ يمكن أن نلاحظ سويّاً الغيابَ شبه المُزمن لرؤيةٍ سياسيّةٍ واضحةٍ وجذريّةٍ وبعيدةِ الأمد لدى كثير من قوانا وأحزابنا. كما يُمكن أن نشاهد بسهولة أيضاً غيابَ مشاريع حقيقيّة ومتماسكة تهدف إلى تحقيق الصّالح العامّ، و/أو إلى التحرُّر الفعليّ من الاحتلال ومن جميع أشكال الهيمنة والاستعمار.. لدى عدد كبير من هذه القوى أيضاً.

ثالثًا؛ لا بدّ من التّذكير بظاهرة الانبطاح شبه المعمَّم لدى نخبنا وحكّامنا أمام المستعمِر والاحتلال إذن (ما عدا بعض الاستثناءات طبعاً)، وظاهرة الاستسلام المتكرِّر للوضع القائم على المستوى الجيوسياسيّ تحديداً، بما يُكرِّس العجز وشعور الهزيمة، ويُعيد انتاج التّبعيّة بأشكالٍ متجدّدة.

أمّا بالنِّسبةِ إلى عقلِنا الاقتصاديّ، فهو يتَّسم، في عمومه أيضاً، بجملةٍ من الخصائص النّموذجيّة، ومن أبرزها:

أوّلًا؛ من جهةِ العرض إن شئت، هو يتّسم عموماً بالقبولِ بعقليّةِ الرّيع؛ ومن جهةِ الطّلب، فهو يتّسم في الأعمّ أيضاً بالقبولِ بعقليّةٍ استهلاكيّةٍ مفرطة (وكلاهما يتجلّى بشكلٍ متطرِّفٍ في هذه البلاد، من دون مقاومةٍ جادّةٍ أو مشاريعَ بديلةٍ جدّيّة تُذكر واقعاً).

ثانيًا؛ يُمكن الادّعاء بأنّ هذا العقل نفسه يتّسم كذلك بمنطق القبولِ شبهِ المعمّم بظاهرة تركيزِ الثّروات بشكلٍ فاحشٍ في يدِ أقليّةٍ صغيرة، كما هو الحال في معظم بلداننا.. بما يُفاقِم الفوارق الاجتماعيّة بشكل حادّ، وبما يُقوِّض امكانيّات تحقيق نوع من العدالة الاقتصاديّة ونوع من التّنمية المستدامة بطبيعة الحال.

***

من دون الحاجة لأن أُطيل عليك عزيزي القارئ أكثر من ذلك، أضع هذه النّقاط السّريعة لكن الأساسيّة والنّموذجيّة بين يَدَيك: إلى أيّ حدّ هي واقعيّة برأيك؟

وبالتّالي، قد يكون السّؤال هنا ليس “إلى أيّ حدّ نحن نعيش راهناً في ما يشبه القرون الوسطى الأكثر ظلاميّة على الاطلاق” بل “إلى أيّ حدّ نحن لا نعيش هذه الأخيرة وفيها؟”. فبدلاً من الغرق في الشّعارات الغوغائيّة، وفي الانفعالات، وفي التّفاصيل هنا وهناك: فلنقارب المسألة بهدوء وبموضوعيّة قدر المستطاع، مع تخيّل تبعاتها الممكنة، إن كان على حاضرنا.. أو على ما يُمكن أن يسير في اتّجاهِهِ مستقبلُنا.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  خمسون حرب أكتوبر.. الحقيقة المصرية محجوبة!