حوار بين صديقين: نعم، يُمكن ويجب إستعادة المهاجرين المسيحيين (1)

إتّصل بي من باريس صديقٌ مقرّبٌ، وهتف من فوره بلهجة حزينة (وهو الوطني الانتماء، المسيحي الديانة): هل صحيح ما يتداوله الإعلام في هذه الأيام عن أن نسبة مسيحيي لبنان من إجمالي السكان، تراجعت إلى 15 في المئة؟ قلتُ له: هذه الإحصاءات غير رسمية بعد.

سارع الصديقُ الباريسي إلى القول: الأمر قد لا يحتاج إلى تأكيد. فالأنباء المتواترة لدى الجميع تُشير إلى أن سيل الهجرة المسيحية ما يزال دافقاً ومتواصلاً، بخاصة بعد فشل انتفاضة 2019 وفقدان الأمل بولادة لبنان الجديد.

قلتُ: أجل، أجل. النزف الديموغرافي المسيحي حقيقي، وإن لم يكن الوحيد. فهناك طوائف عدة تُعاين هذه الظاهرة وإن بشكل أقل حدة، ولا سيما بعد الانهيار المالي والاقتصادي الكبير (2019)، وبعد دخول إقليمنا المشرقي المتوسطي كله في مرحلة إنتقالية قد تكون هي الأخطر منذ العام 1948، ولبنان الآن في قلب عاصفة هذه المرحلة.

قال الصديق: كلامُك يؤكد أن مأساة النزف حقيقية إذاً. فهل نقول وداعاً لوجود واحد من أهم المكونات الأساسية للوطن اللبناني الذي ساهم (على الرغم من شوائب السياسات) في إسباغ سمة الحداثة والليبرالية في بنيته التأسيسية؟

أجبتُ: نعم.. ولا.

نعم، إذا ما استسلمنا لهذه المحصلة الحزينة، واعتبرنا هذا الحدث الديموغرافي قدراً لا مفر منه، أو نُبرّر ذلك بالقول إنه مجردُ واحدٍ من مئات التحوّلات الديموغرافية التي يعجُ بها التاريخ البشري، فنقول مثلاً: أين السريان الآن، وأين الكلدان والأشوريين والزرادشتيين والشعب الفرعوني القديم والأرمن في أرمينيا التركية؟ أين السكان الأصليين في الأميركيتين اللاتينية والشمالية وأستراليا؟ أين العرب واليهود الأندلسيين إلخ.. كلُ هذا “التنظير التأريخي” سينجم عن قبولنا بالنزف الحالي.

صديقي: حسناً، هذا عن نعم.. وماذا عن كلا؟

قلتُ: إذا قلنا لا، فهذا سيدفعنا فوراً إلى البحث وإعمال الفكر عن حلول، منطلقين من الاعتراف بأن نزف المسيحيين هو بالفعل مأساة وطنية عامة.

قال: هل تقصد بالحلول إطلاق مشاريع تنموية واقتصادية للحفاظ على من تبقى من المسيحيين على أرضهم؟

أجبتُ: كلا. هذا مجرد جزء بسيط من الحل، وإن كان ضرورياً.

قال: وماذا إذاً تقصد بالحلول؟

قلتُ: أقصد أننا يجب أن نرفع شعار استعادة مليون أو حتى مليوني مسيحي لبناني إلى وطنهم.

صديقي (مطلقاً ضحكة مجلجلة): ماذا؟ ما هذا الهراء؟ أنت تمزح أليس كذلك؟

لكي يعود المسيحيون وباقي الأسراب المهاجرة، يجب أولاً وفوراً العمل على بناء أسس الدولة الوطنية حقاً (مع إرثها الشهابي) المستندة إلى هوية وطنية حقيقية عابرة للطائفية السياسية. دولة حديثة حقاً متحررة من الفساد ومسلّحة بقوة القانون والفصل بين السلطات. دولة تنموية حقاً تستثمر كلياً في أهم ثروة يمتلكها لبنان وهي شبابه والثروة البشرية والأكاديمية

أجبتُه بهدوء: كلا. لا مزاح هنا. أسمع. ما أقترحه هنا ليس من باب تقليد الأنبياء العبرانيين الأسطوريين الذين نقلوا شعوبهم من مكان إلى آخر. أنا سأطرح هنا مشروعاً واقعياً وحقيقياً.

أنصتْ جيداً لما سأقول:

العالم مقبل بفعل الثورة التكنولوجية الرابعة، ومعها ظاهرة تغيّر المناخ الوجودية، على انقلابات لن يكون لها مثيل منذ 10 آلاف سنة؛ إنقلابات ستُغيّر إلى الأبد كل الحياة البشرية. فالبطالة، بفعل الأتمتة والروبطة، ستضرب 80 في المئة من سكان أوروبا وأميركا، ثم بقية القارات، (وتُثير معها مجدداً كوارث العنصرية والفاشية)، والذكاء الإصطناعي (حين يكتمل نموه مع ولادة الكومبيوتر الكمومي وكومبيوتر الحمض النووي) سيتكفّل بالقضاء أيضاً على المهن الفكرية والأكاديمية والعلمية (الفيزياء ستبقى لكن من دون فيزيائيين، كما توقع ستيفن هاوكينغ). كما أن تغيّر المناخ المتدهور بسرعة رهيبة سيحيل مناطق كاملة في أوروبا وأميركا، من كاليفورنيا إلى بريطانيا وجنوب المتوسط، إلى صحارى قاحلة. مثلُ هذه التطورات لن تحدث بعد 100 سنة بل ربما خلال سنوات قليلة (وسيرورتها بدأت أصلاً).

حينها ـ تابعتُ مطالعتي ـ سيبحث المهاجرون المسيحيون (وباقي المهاجرين اللبنانيين) في “دفاترهم القديمة” عن ملاذ آمن لهم وأولادهم. لا بل بدأت هذه الهجرة المعاكسة من الآن من كندا والولايات المتحدة.

قال الصديق: حسناً. فلنفترض أن ما تقوله صحيحٌ وأن المهاجرين سيفكرون في العودة إلى لبنان. لكن، أي لبنان هذا الذي سيعودون إليه؟ لبنان الانهيارات الاقتصادية – الاجتماعية والأمن المفقود والإفلاس والعتمة والإملاق والحروب؟

قلتُ: صحيح. وهنا يكمن الشق الثاني من الحلول التي اقترحها. لكي يعود المسيحيون وباقي الأسراب المهاجرة، يجب أولاً وفوراً العمل على بناء أسس الدولة الوطنية حقاً (مع إرثها الشهابي) المستندة إلى هوية وطنية حقيقية عابرة للطائفية السياسية. دولة حديثة حقاً متحررة من الفساد ومسلّحة بقوة القانون والفصل بين السلطات. دولة تنموية حقاً تستثمر كلياً في أهم ثروة يمتلكها لبنان وهي شبابه والثروة البشرية والأكاديمية. دولة قوية عسكرياً واستراتيجياً، ما يسمح للوطن بأن يمنع الاختراقات الإسرائيلية والخارجية، وتوفّر له حق تقرير مصير طريق النهوض الاقتصادي الذي يريد.

وهنا أريد أن أهمس في أذنك ببعض الكلمات من القلب: الشيعة والسنّة الذين يُقال إنهم يُشكّلون الآن 80 في المائة من التعداد السكاني، يحبون مواطنيهم وإخوانهم المسيحيين اللبنانيين أكثر بكثير مما قد تتخيّل. لا أريدُ أن أسوّق أدلة هنا. فقط أُذكّر بالكيفية التي تعاطى معها حزب الله مع فئة من المسيحيين اللبنانيين غداة تحرير الجنوب اللبناني في العام 2000، وإصرار الساسة السنّة الآن على مبدأ المناصفة برغم الخلل الديموغرافي.

إقرأ على موقع 180  الترسيم لبنانياً بعصا هوكستين.. وجزرة الإمارات!

أعرف أن سمة الإنعزال والتقوقع (وحتى العنصرية والفوقية) ما تزال تداعب بعض القطاعات المسيحية، برغم أن المسلمين سدّوا منذ عقود الفجوة التعليمية والاقتصادية مع المسيحيين. لكن هذا لم (ولن يؤثر) على حب المسلمين اللبنانيين للمسيحيين اللبنانيين كأبناء وطن واحد، وتاريخ واحد، ومصير واحد، وأيضاً لكون المسيحيين قيمة تحديث وتلوين ليبرالي اجتماعي.

صمت صديقي قليلاً، ثم قال: أليس كل ما تقول مجرد حلم ليلة صيف أو فكر رغائبي، فيما نحن نعيش في الواقع في غرفة مظلمة تعج بالأشباح؟

أجبتُ: إذا ما اعتبرنا أن هذا مجرد حلم، أليس ذلك أفضل من الرضوخ لكابوس النزف الوطني بلا حدود أو قيود؟ صدّقني يا صديقي العزيز: ما قلته سيحدث حتماً في عالم المهاجر، وقريباً على الأرجح، بفعل أخطر ظاهرة حتى الآن في التاريخ البشري وهي “التطور التكنولوجي المتسارع” (exponential growth).

يبقى أن نمارس نحن أيضا “استراتيجية العمل المتسارع” لبناء دولتنا الوطنية وإعداد الوطن لعودة طيورنا المهاجرة.

أخذ صديقي الباريسي نفساً طويلاً عبر الهاتف، لكنه صمت. فهل كان صمته دليل موافقة، أم هو على الأقل الدليل على أن هذا الطرح حرّك لديه نوازع الأمل؟

الجزء الثاني غداً: حزب الله.. ماذا تفعل؟

Print Friendly, PDF & Email
سعد محيو

كاتب سياسي، مدير منتدى التكامل الإقليمي

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  من مجدل شمس إلى ضاحية بيروت.. الفتنة ليست صدفة!