إزادت شعبية الجيش الجزائري عندما حسم مطالب الحراك الشعبي المستمر وأجبر عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة من رئاسة الجمهورية، وأردفها بالعمل حالياً على متابعة الفاسدين الذين سمّاهم قائد الأركان أحمد القايد صالح بـ”العصابة” في أوّل تبنٍ رسمي لمصطلح شعبي راج خلال المظاهرات الشعبيّة في مناطق الجزائر وولاياتها كافة (48 ولاية أو محافظة).
فهل ما حدثَ من حسم رسمي كان نتيجة انقلابٍ عسكري ضربَ الثقة بين الجيش والشعب وعزل السياسي، أمّ هو استجابة ضروريّة لمطالب الحراك واشتراطاته؟
هنالك الكثير من التناقضات الطريفة في الاستجابة الرسميّة للحراك الشعبي تفصل خيار التدخل عن الانقلاب العسكري في نقاط وأطواق يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
أولاً؛ في الغالب، يشترط الفقه الدستوري في اصطلاح الانقلاب أن يكون عنفياً، فيما انقلاب الجزائر كان أبيض الطابع.
ثانياً؛ يكون الانقلاب من خارج الدستور، بينما في الحالة الجزائريّة، عمل الجيش على إجبار الجهة المخوّلة في النظر في مدى تطبيق الدستور (المجلس الدستوري) على تفعيل المادة 102 من الدستور المعدّل سنة 2016، وهي تنصّ على الآتي:”إذا استحال على رئيس الجمهوريّة أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوباً، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكلّ الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع..”.
ثالثاً؛ غالباً ما يستلم السلطةَ عسكري مكان المدني، حتى في الانقلابات التي تذرّعت بمسمّى ثورة مثل التي أُطلق عليها “ثورة القرنفل” في البرتغال 1974.
رابعاً؛ في الغالب الأعمّ تترافق مع الانقلابات خروج الدبابات وقيام معارك، كما حصل في جلّ الانقلابات العسكريّة، لا سيما انقلاب اليابان 1934، اسبانيا 1936، وانقلاب الجزائر 1965 وهو انقلابٌ دقيق مثل العمليات الجراحية، برغم تذرّعهِ بمسمّى فضفاض (التصحيح الثوري).
خامساً؛ الانقلابات تكون مزوّدة بترسانة من العقائديّة والدوغما والإيديولوجيا كما حصل في انقلاب الجزائر سنة 1992، انقلاب السودان 1989.
سادساً؛ أغلب الانقلابات جاءت بشكل مفاجئ، ونادرة هي الانقلابات التي أتت على مراحل وفصول.
على هذا الغرار؛ تعتقد المدرسة الأميركيّة أنّ كل حالة احتجاج تحظى بشعبيّة كبرى، هي ثورة بالضرورة. وترى النظريّة الماركسيّة (وهي التي أتبنّاها) أنّ الثورة تعتبر كذلك عندما تصل إلى مطالبها وتبلغ تمام التغيير الذي تصبو إليه، فهي ثورة بحساب الوصول، وليست من نقطة البدء كما لدى المدرسة الأميركيّة (حنّا أرندت أخذت بها، في دفاعها عن الثورة الأميركيّة في كتابها “في الثورة” 1960).
إنّ الفرق بين الثورة والانقلاب ضئيل جداً، حتى أنّ اللغة التركيّة والفارسيّة والبشتونيّة (الأفغانيّة) تعتبرهما شيئاً واحداً لا فرق بينهما.
حسمَ الجزائريون شيئاً من هذا؛ حين سمّوا انتفاضتهم بـ”الحراك”، وهذا ما أعفانا كثيراً من كوليسترول التنظير… إنّنا وبحقّ نعيش ما بعد الأكاديميا، إنّنا نعيش زمن التأصيل الحرّ والأفكار المحلقة والدفاع المديد عن المعنى، في عالم بدأ يفقد المعنى شيئاً فشيئاً.
لطالما استقرّت السياسة الفرنسيّة تجاه الجزائر على الابتعاد عن الجيش والتقرّب من جهاز المخابرات، الأمر الذي كشفَ مؤخراً عن تقاطع بين الجنرال توفيق والقيادات الفرنسيّة
لكن برغم ذلك، لم يكن التنافس حول الجيش الجزائري خارجياً محسوماً لمصلحة فرنسا أو أميركا أخيراً، فلم تتبدَّ أي نُذر ماديّة تثبت ميلاً جهير الظهور في الانحياز إلى أميركا واتّخاذها بديلاً عن روسيا وليس فرنسا، فلطالما استقرّت السياسة الفرنسيّة تجاه الجزائر على الابتعاد عن الجيش والتقرّب من جهاز المخابرات، الأمر الذي كشفَ مؤخراً عن تقاطع بين رئيس جهاز المخابرات السابق الجنرال توفيق والقيادات الفرنسيّة، وهذا التقاطع كان شبه مجهول لدى الجزائريين، لا سيما أن الجنرال توفيق كان صامتاً مختفياً طيلة الوقت، وليس لهُ إلا صورتين، إحداها، سُرّبت بعد إقالته من قبل بوتفليقة 2015، والأخرى قديمة.
والأغرب أن التراشق الذي يحصل بين مصادر متفرّقة أغلبها مسرّبة بين الفرنسيين ومواقف الفريق القايد صالح المعلنة من السياسة الفرنسيّة في الجزائر، زادت من شعبيّته وأبرزتهُ كعسكري جزائري عتيق، يعيد إلى الأذهان التحدّي الذي كان ناشئاً بين هواري بومدين وفرنسا، ثم العلاقة المتوترة نسبياً بين الرئيس الجزائري اليمين زروال (1995-1999) وفرنسا، عندما رفض زروال لقاء الرئيس الفرنسي وقتذاك جاك شيراك على هامش إحدى الدورات العادية في الأمم المتحدة (1996)، وقد سعى رئيسها السيد بطرس بطرس غالي إلى مصالحة الرجلين وفشل، حسبما أخبر وزير الإعلام السابق ميهوب ميهوبي. والسبب في ذلك هو موقف فرنسا الذي لم يكن إلى جانب الجيش الجزائري إبّان العشريّة الدمويّة، فضلاً عن توفيرها لمناطق آمنة لأشخاص يُجاهرون علناً بـ”الجهاد ضد الطاغوت”، و”الطاغوت” في الأدبيّات الأصوليّة هي الدولة بصورة عامة.
في الخلاصة، من النافل القول بأنّ الغموض يسيطر على المستقبل السياسي الجزائري في ظل عودة الجيش إلى الواجهة، فما بين معارضة تعتقد جازمة بتفصيل رئيس مدني أو عسكري على مقاس المؤسسة العسكريّة ورغبات رئيس الأركان القايد صالح، وما بين موالاةٍ لا ترى بذلك، وتُجزم بأنّ الخيار الانتخابي هو الحاسم في كل الأحوال، وأنّه لا مناص من الاحتكام إلى الشرعيّة الشعبية في حسم الجدل السياسي المتفاقم في الجزائر من أجل الخروج من الأزمة التي تعيشها البلد بسبب الفراغ الرئاسي الحاصل نتيجة إقالة الرئيس وتسويّة الأرض بمحيطه، أولئك الذين قامَ التظاهر ضدهم بالدرجة الأولى وليس الأخيرة بكل تأكيد.