زلزالا لاهاي و”الأونروا”.. “فوضى خلّاقة” و”هشاشة عالمية”

أخذت جمهوريّة جنوب إفريقيا وحدها، وليست أيّة دولة عربيّة، المبادرة في الشكوى على إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لارتكابها جريمة الإبادة الجماعيّة.

شكّلت مبادرة جنوب إفريقيا منعطفاً ضخماً وُصِفَ بـ”الـزلزال” على صعيد الجغرافية-السياسيّة العالميّة. ليس لكون محكمة العدل الدوليّة قادرة على إلزام إسرائيل بوقف الحرب، بل لأنّ البلد الذي عاش طويلاً نظام تمييزٍ عنصريّ (أبارتايد) وتحرّر منه هو الذي يرفع الدعوى ويفضح إسرائيل كنظام تمييزٍ عنصريّ يرتكب إبادة جماعيّة.

ليس هناك إدانة صارمة من المحكمة لأنّ زمن القانون أبطأ بكثير من زمن الحرب والإبادة. ولكنّ قرارات المحكمة، وبشبه إجماعٍ من القضاة، حول إجراءات احترازيّة كانت وحدها كفيلة، لو أنّ هناك حقّاً ما يسمّى “مجتمع دولي”، بأن يتخذ مجلس الأمن قراراً يُلزِم إسرائيل بوقف الحرب. لم يحصل هذا كما في حال 45 مشروع قرار لمجلس الأمن أدانت كلها إسرائيل واستخدمت ضدّها الولايات المتحدة حقّها في النقض (الفيتو). هكذا لم يتمّ الأخذ بقرارات الجهاز القضائي ولا “الجهاز التشريعي” للأمم المتحدة، وهذا الأخير هو الجمعيّة العموميّة، التي صوّتت أيضاً لوقف الحرب. ليظهر جليّاً خلل التركيبة الأساسيّة للأمم المتحّدة، أنّ مجلس الأمن وأعضاءه الدائمين هم وحدهم أصحاب القرار.. هذا إذا تمّ تنفيذه، فكم من قرارات ضربت بها إسرائيل عرض الحائط؟

العالم اليوم في فترةٍ من التاريخ لا تحكُم مجرياته سوى منطق القوّة والنفوذ والصمود، دون أيّة اعتبارات إنسانيّة أو قانونٍ دوليّ. وهذا يبدو جليّاً من الصراع حول أوكرانيا إلى القضيّة الفلسطينيّة وإعادة صياغة العالم العربيّ وصولاً إلى الصراع بين الولايات المتحدة والصين

وكان ردّ إسرائيل على هذا الزلزال الجنوب إفريقي والقضائي اتهّام 12 موظّفاً في منظمة غوث اللاجئين، الـUNRWA، بين ثلاثة آلاف ما زالوا محاصرين في غزّة، بأنّهم شاركوا في عمليّة “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023. هكذا ودون تحقيقٍ وبعد إعلان الأمين العام للأمم المتحدة عن مقتل أكثر من 150 موظّفاً للأمم المتحدة في حرب الإبادة وفي خضمّ الأزمة الإنسانيّة الكارثيّة للفلسطينيين قطعت الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا وكندا وهولندا وبريطانيا وإيطاليا وأستراليا وفنلندا وفرنسا واليابان تمويلها لمنظّمة “الأونروا” الدولية. هذا علماً أنّ مساهمات هذه الدول تشكّل معظم تمويل هذه المؤسسة الأمميّة. وهكذا دون أن تُعلِن أيّة دولة عربيّة قادرة أنّها ستعوّض هذه المساهمات.

شكّل هذا زلزالاً آخر في الجغرافية-السياسية مع سرعة قرارات أحاديّة الجانب تجاه آليّة أو زمن قضائي وتجاه مؤسّسة للأمم المتحدة. زلزالٌ لم يجعل الأمين العام يدافع بقوّة عن إحدى مؤسّساته، برغم أنّ الـUNRWA أوقفت عمل المتهّمين الـ12 بانتظار التحقيق معهم. هذا في الوقت الذي وضعت فيه محكمة العدل الدوليّة حريّة تأمين المساعدات لأهالي غزّة واحداً من قرارات إجراءاتها الاحترازيّة.

هذا الزلزال الثاني له أيضاً دلالاته. فصحيحٌ أنّ عمليّة “طوفان الأقصى” أعادت القضيّة الفلسطينيّة إلى مركز الاهتمام العالمي، لدرجة أنّها ستلعب دوراً في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة. وهذه سابقة لأيّ حدثٍ خارجيّ في تاريخ الولايات المتحدة. إلاّ أنّ مجموعةً من الدول النافذة تذهب بالمقابل مع إسرائيل إلى.. تصفية هذه القضيّة الفلسطينيّة.

لا تلعب الـUNRWA دور تقديم خدمات الدولة الأساسيّة للفلسطينيين، من تعليمٍ وصحّة وغيرها، في غزّة وحدها بل أيضاً في الضفّة الغربيّة، حيث تحتجز إسرائيل تمويل “السلطة الفلسطينيّة”، وفي الأردن ولبنان وسوريا وغيرها، التي تحمّلت أعباءً كبيرة منذ 1948 وأضحت اليوم كمؤسّسات دول “هشّة”.. وبالتالي ستذهب تداعيات وقف التمويل إلى أبعد بكثير من فلسطينيي غزّة.

وواضحٌ أنّه لا يُمكِن تصوّر أنّ ما تسعى إليه الولايات المتحدة من تطبيعٍ كاملٍ بين إسرائيل ودول الخليج، وخاصّةً المملكة العربية السعودية، والمفترض أن يُبتّ به خلال شهرين، دون أخذ القضيّة الفلسطينيّة إلى أرضيّةٍ مختلفة عمّا هي عليه واقعيّاً منذ 1948.

تتحدّث الدول النافذة نفسها التي قطعت التمويل أنّ الأرضيّة هي حلّ الدولتين عبر مؤتمرٍ دوليّ، واضحٌ أنّه لن يكون للأمم المتحدة سوى مقعدٌ رمزيّ فيه. في حين تعلم جيّداً أنّ غزّة هي المكان الوحيد التي يمكن أن يكون لهذه الدولة أرضها، إذ لا مستوطنات، وبالمناسبة بفضل التضحيات الكبرى التي قدّمها فلسطينيّو غزّة لسنينٍ طوال. أمّا في الضفّة الغربية، فستتطلّب معادلة الدولة والشعب والأرض أن يتمّ إلغاء نظام التمييز العنصريّ وتفكيك المستوطنات، كلّها أو معظمها، وعودة عن اعتراف الولايات المتحدة بضمّ القدس الشرقيّة إلى إسرائيل.

لا يبدو أنّ هذا هو حقيقةً المنحى المتّبع حاليّاً. حتّى ولو أُنجِزَ وقف إطلاق النار الذي يتمّ التفاوض عليه. في حين تتسارع وتيرة حربين فتحتهما حرب غزّة، وتخوضهما الولايات المتحدة، حربٌ في اليمن وباب المندب، وحربٌ في سوريا والعراق.

واللافت للإنتباه أنّ الخروج من الإبادة الجماعيّة إلى السلام والحلول يتطلّب في هذه المرحلة من التاريخ التعامل مع هيمنة منطقٍ مبنيٍّ على أسسٍ متطرّفة ودينيّة ومذهبيّة لدى جميع الأطراف. منطقٌ يهوديّ-سياسيّ متطرّف في إسرائيل، لم يعُد مقبولاً من قبل الكثير من يهود الولايات المتحدة. ومنطقٌ مناهضٌ للإسلام فيما يسمّى الغرب بشكلٍ عام ضمن توجّهٍ يمينيّ سائد، تحالف فيه اليمين المتطرِّف مع الحركة الصهيونيّة، على عكس تاريخ بدايات تلك الحركة. هكذا أضحت ألمانيا، المسؤولة تاريخيّاً عن المحرقة اليهودية هي الأكثر حماسة لدعم حكومةٍ إسرائيليّة متطرّفة. وفي المقابل، صعد الإسلام السياسيّ الإخوانيّ بدعمٍ من تركيا وقطر، بعد تراجع الإسلام السلفيّ المتطرّف. وصعدت الشيعيّة السياسيّة بدعمٍ من إيران. وتعاظم زخم القوميّة الكرديّة المتطرّفة بدعمٍ من هذا وذاك.

إقرأ على موقع 180  إيران: البرلمان يقطع طريق العودة إلى "النووي"، أم يُسرعها؟

فكيف يتمّ تحكيم العقل عندما يتصرّف الجميع بمنطقٍ فئويّ وليس بمنطق الدول والشعوب على تنوّعها، انطلاقاً من الولايات المتحدة التي يُعلِن وزير خارجيّتها أنّه يتصرّف كيهوديّ.. وليس كأمريكي.

الخروج من الإبادة الجماعيّة إلى السلام والحلول يتطلّب في هذه المرحلة من التاريخ التعامل مع هيمنة منطقٍ مبنيٍّ على أسسٍ متطرّفة ودينيّة ومذهبيّة لدى جميع الأطراف

هكذا يبدو أنّ العالم اليوم في فترةٍ من التاريخ لا تحكُم مجرياته سوى منطق القوّة والنفوذ والصمود، دون أيّة اعتبارات إنسانيّة أو قانونٍ دوليّ. وهذا يبدو جليّاً من الصراع حول أوكرانيا إلى القضيّة الفلسطينيّة وإعادة صياغة العالم العربيّ وصولاً إلى الصراع بين الولايات المتحدة والصين. لم يعُد للأمم المتحدة فيه من دور سوى تخفيف المعاناة الإنسانيّة ولو مرحليّاً بانتظار تغيُّر موازين القوى، وما يرمُز إليه مشهد الصراعات القائمة.

منطق القوّة هذا ليس حكراً على الدول وجيوشها ومؤسساتها، بل يمرّ أيضاً عبر ميليشيات وحروبٍ غير متكافئة، لا تكسب الدول بالضرورة معاركها مهما بلغ مدى جبروتها. فهل كسبت إسرائيل كـ”دولة” معركتها مع غزّة برغم حجم قوّتها والدعم الخارجيّ لها؟ ليس أكيداً.

لقد تحقّقت “الفوضى الخلاّقة” وبشكلٍ أوسع ممّا هدف إليه منظّروها. وفرضت منطق القوّة في كلّ مكان، حتّى داخل الدول التي دعت إليها.. بانتظار وعيٍ عالميّ للخروج من منطق “الفوضى” و”الهشاشة”.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أين اليسار اللبناني والعربي مما يجري على أرض فلسطين؟