حاكم أميركا لا بل العالم.. خطاب الدردشة و”الدروشة”!

كوني أعمل في غرفة أخبار، وكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كثير الكلام، فهذا مكنّني من رصد أكثر من عشرين تصريحاً له، في مناسبات مختلفة، منذ لحظة دخوله إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير الماضي، إلى يومنا هذا. وهنا أورد بعض الملاحظات وما تحمل في طياتها من ملامح لشخصية يصعب التكهن مُسبقاً بها وبأفعالها.

أولاً؛ يقول الشيء ونقيضه في جملة واحدة. هذه الجملة قد لا تتعدى ثماني كلمات أي أنّ مدة قولها لا تتعدى ثماني ثوان، أو اثنتا عشرة ثانية كحد أقصى. كقوله عبارة قد يكون هناك ضربة إلى إيران وقد لا يكون، في تصريح نطق به قبل ٢٤ ساعة من بدء العدوان الإسرائيلي على إيران. قد يكون القصد من هذا إعطاء انطباع للعامة، بأن جميع الخيارات واردة، وأنّ لا سيناريو محدداً بعد، في سياق تكتيك لغوي يهدف إلى خداع خصمه السياسي وإرباكه. فالعبارات المتناقضة، الحمّالة الأوجه، تحمل التباساً سيصعب معه تقدير الموقف الفعلي إزاء الحدث اذ يستحيل أن نُصدّق أنّ رئيس الولايات المتحدة الأميركية لا يعرف نيّة إسرائيل وخططها لمهاجمة إيران على سبيل المثال لا الحصر.

ثانياً؛ يُكثر من ترداد عبارة أظن ذلك (I think so). تقتضي الأصول والأعراف أن يكون رئيس الدولة جازماً في ما يقول لأن ما يقوله ناجم عن تفكير وتخطيط مسبقين، وسيكون له نتائج وانعكاسات بيد أنّ هذه “الباراديم” الفكري غير موجود عند ترامب بسبب ما يوحي بها من خفّة تعامل مع القضايا، سواء أكانت متعلقة بالداخل الأميركي أو بالقضايا العالمية الاشكالية. عادةً ما يقول رؤساء الدول عبارات تحمل قطعاً وجزماً أكثر، كـ(I believe. I highly think, I strictly consider).

ثالثاً؛ يُكثر من ترداد عبارات الإطراء لمن يحبّه وعبارات سوقية مبتذلة لمن يكرهه. وهنا الحب لا يتأتى من درجة الأواصر التاريخية أو الثقافية أو المشتركات الاجتماعية مع بلد آخر، إنما ثنائية الحب/الكره تتأتى من مصلحة شخصية لترامب لا مصلحة الدولة العليا أو ما تُسمى “قيم الديموقراطية الأميركية”. فإذا كان ترامب يرى في الرئيس/الشخصية السياسية، منفعة من علاقته به، يغدق عليه الكلام المعسول كتلك العبارات المنمقّة التي وجهها إلى محمد بن سلمان: (He knows me well, I like him a lot. I like him too much. Thats why we give so much, you know.). طبعاً، الكلام معسول هنا لأنّ ترامب حصد تريلونات الدولارات من السعودية ومن جاراتها ما سيعود بالفائدة على إدارته.  بالمقارنة، وإذا كان الشخص الآخر لا يدرّ له منفعة مادية مباشرة أم غير مباشرة، فإنّ توبيخه على الهواء مباشرة أصبح سمة عامة للقاءاته مع رؤساء الدول، كما فعل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. إذاً، نستطيع القول إنّ المصلحة التجارية هي التي تحكم انتقاء العبارات. في الحالات الاعتيادية، ينبغي إقامة فصل بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، الا أنّ  حالة ترامب تمثل خليطاً فظيعاً بين المصلحتين، واضعة رئيس دولة كبرى، ليظهر وكأنه رجل أعمال وصفقات.

يحق لكبار الصحفيين والمعلقين السياسيين في أميركا أن يتوجسوا على المستقبل السياسي للولايات المتحدة، فرئيسهم يعلن حرباً عبر منشور، ثم ينام لبضع ساعات، ليكتب منشوراً آخر، يعلن فيه إحلال السلام. هكذا تدار حالياً شؤون العالم وقضاياه؛ بخفة وشعبوية وزلة لسان

رابعاً؛ في مناسبات عدة، ظهرت السمات النرجسية لترامب اذ يحب مكافأة نفسه معنوياً، ويتفاخر بنفسه، وينسب كل نجاح لنفسه، ولا يعطي أي إشادة بمن حوله من مستشارين أو مساعدين. كل نجاح بسبب كفاءته في إدارة الأمور، لا بسبب تخطيط ناجح لأعضاء فريقه، أو إدراك واع لمتطلبات اللحظة التي تحيط باتخاذ القرار (Rational decision making process). تبدّى هذا الأمر في الخطاب الذي ألقاه أثناء زيارته إلى السعودية في أيار/مايو الماضي، عندما تكلّم لخمسين دقيقة خصّص منها ٢٢ دقيقة للتكلم حول إنجازاته الاقتصادية في ولايتيه الأولى والثانية. تصوّر في العقل الباطني أنك رئيس دولة تلقي خطاباً في دولة أخرى، وتقول لنفسك؛ يا لها من عظمة، حقّقت أشياء كثيرة لن يكون بمقدور أحد تحقيقها سواي! يعكس هذا الخطاب بالذات، كما خطابات أخرى في مناسبات متعددة، زهواً مضخماً بالنفس يتعدى الثقة المفرطة بالنفس، ليُشكل سمة من سمات الشخصية المحبة والممجدة للقوة، التي تسمى في علم النفس: (megalomaniac personality).

خامساً؛ يتلعثم ترامب كثيراً في عباراته. قد يكون هذا الأمر نتيجة كبر سنه (79 عاماً)، أو قد يكون فعل التأتأة ناجماً عن ارباك وضياع وتشتت، كما بينّا في النقطة الأولى. صحيح أنّ ترامب لم ينزلق إلى زلات لسان فاضحة كما فعل سلفه، جو بايدن، إلا أنّه اضطرّ عدّة مرات، لتوضيح بعض الكلام الذي تفوه به أمام الجمهور، عبر كتابته على منصته “تروث سوشال” على قاعدة أن الكلام متى يكتب، يصبح أكثر وضوحاً ومصداقيةً من التعبير اللفظي. هذه القاعدة الجوهرية تحولت إلى عكسها في حالة ترامب إذا أنّ منشوره على منصة “تروث سوشال” الذي دعا فيه سكان طهران لإجلائها فوراً، قد أحدث بلبلة غير مسبوقة، في الأوساط السياسية والإعلامية، إلى الحد الذي جعله يصرّح بعد قرابة الثماني ساعات من المنشور، أنه لم يقصد ما فّهم من أن هجمة وشيكة ستحدث على العاصمة الإيرانية.

إقرأ على موقع 180  كيف يفرض العرب موقعهم السياسي في الخرائط الدولية؟

سادساً؛ يندر أن يتفوه ترامب بكلام كتبه سواء أكان هو الذي كتبه أو أحد مستشاريه. هو لا يقول القول انطلاقاً من تنظيم أفكار مترابط ومتسلسل. يرمي كلاماً متقطعاً، غير مترابط، لا بسياقه ولا بظروفه ولا بنتائجه، فتبدو خطاباته، أقرب إلى حلقات دردشة مع أصحابه، أكثر مما هي خطاب لرئيس دولة وليس أي دولة؛ إنها الولايات المتحدة الأميركية. نحن، العاملون في غرف الأخبار، نسمع مقاطع صوتية هي أشبه ما يكون بالـ(soundbites) لا خطابات واضحة ذات بنية ذهنية متماسكة.

في الخلاصة، مسيرة هذا الرجل وسماته الشعبوية والاستعراضية تطغى على الحكمة والرزانة والرصانة والتعقل الذي يجب أن يتمتع به كبار القادة السياسيين. وإذا كانت خطاباته تعكس ارتباكاً لغوياً واضحاً، فإنّ هذا الارتباك ليس ذات طبيعة عرضية، إنما هو بنيوي متأتي من عدم وجود أرضية فكرية وإيديولوجية ثابتة عند حاكم البيت الأبيض، بل الثابت الوحيد عند ترامب هو مصلحته الشخصية.

نعم، يحق لكبار الصحفيين والمعلقين السياسيين في أميركا أن يتوجسوا على المستقبل السياسي للولايات المتحدة، فرئيسهم يعلن حرباً عبر منشور، ثم ينام لبضع ساعات، ليكتب منشوراً آخر، يعلن فيه إحلال السلام. هكذا تدار حالياً شؤون العالم وقضاياه؛ بخفة وشعبوية وزلة لسان!

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  اللّاجئون والهجرة غير الشرعية.. إشكاليات ومسؤوليات