لبنان: السلطات المحلية بين مواجهة خطاب التطرف وتعزيز التماسك المجتمعي

في ظلّ الأزمات المتعددة التي يواجهها لبنان، من تدهور سياسي واقتصادي إلى تحولات إقليمية وانقسامات داخلية، تبرز السلطات المحلية، وبخاصة البلديات، كعنصر محوري في إدارة شؤون المواطنين اليومية.

مع تصاعد خطاب التطرف والانقسام، وتأثر المشهد اللبناني بالحرب الإسرائيلية الأخيرة والتطورات في سوريا، تجد الهيئات البلدية في لبنان نفسها في مواجهة تحدي بناء تماسك مجتمعي حقيقي ومقاومة خطاب الكراهية، وذلك في ظل هشاشة الدولة المركزية وغياب دورها الفاعل.

بين التحول السياسي والانهيار الاقتصادي

شهد لبنان منذ عام 2019 تحولات سياسية واجتماعية كبرى، أبرزها انتفاضة شعبية عابرة للطوائف طالبت بإصلاحات جذرية للنظام ومحاسبة الفاسدين. تزامنت هذه التحركات مع أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من بين أسوأ ثلاث أزمات مالية عالميًا منذ منتصف القرن التاسع عشر.

لقد انعكس هذا الانهيار الاقتصادي بشكل كارثي على المؤشرات الحيوية للبلاد. فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بشكل حاد من نحو 52 مليار دولار عام 2019 إلى أقل من 24 مليار دولار عام 2023، وتفاقمت الخسائر الاقتصادية بنسبة 6.6% إضافية عام 2024 بسبب التصعيد العسكري الإسرائيلي. كما انخفض متوسط الدخل الفردي من 15,100 دولار إلى حوالي 10,700 دولار، وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها، متجاوزًا معدل التضخم السنوي 221%.

ترافق هذا التدهور الاقتصادي مع ارتفاع هائل في معدلات الفقر المتعدّد الأبعاد، لتشمل أكثر من 80% من السكان، وتزايدت البطالة بشكل خاص بين فئة الشباب لتتجاوز 47%. هذا الانهيار الاقتصادي الحاد لم يقتصر على تآكل القدرة المعيشية للناس فحسب، بل أسهم أيضًا في تصدع النسيج الاجتماعي، وخلق بيئة خصبة لخطابات الإحباط، التشدّد والانغلاق.

تفكك العقد الاجتماعي

لم تعد خطابات التطرف في لبنان حكرًا على الجماعات الأيديولوجية المتشددة، بل امتدت لتطال الفضاء السياسي والإعلامي والمجتمعي. تتجلى هذه الخطابات في اللغة الطائفية، والتحريض المناطقي، والتمييز العنصري، ما انعكس أزمة عميقة في التماسك الوطني.

لقد فاقمت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان (2023–2024) من حدة الاستقطاب الداخلي. فأعادت إلى الواجهة الانقسام حول دور السلاح خارج سلطة الدولة، وسط أجواء مشحونة بالنزوح الداخلي والتوترات الأمنية والمعيشية. كما ساهمت التحولات في العلاقة مع سوريا في توسيع فجوة الانقسام، حيث برزت خلافات حادة بين مَن يعتبر النظام السوري الجديد شريكًا استراتيجيًا ومَن يراه مصدر تهديد للسيادة اللبنانية والاستقرار الداخلي.

ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تراجع مشاعر الانتماء الوطني وتصاعد التوجه نحو الهويات الضيقة – الطائفية والمناطقية – على حساب مفهوم المواطنة الجامعة. أدى هذا التحول إلى تفكك تدريجي في العقد الاجتماعي وغياب أي سردية وطنية مشتركة جامعة.

تتداخل الأزمات الاقتصادية والسياسية العميقة مع تصاعد خطابات التطرف والانقسام وتآكل النسيج الاجتماعي. في ظل هذا الواقع، تبرز السلطات المحلية، ممثلة بالبلديات، كركيزة أساسية لا غنى عنها. فعلى الرغم من الموارد الشحيحة والتحديات الهائلة، أثبتت البلديات قدرتها على الاضطلاع بدور محوري في تخفيف حدة الاستقطاب، وتعزيز التماسك المجتمعي، وتوفير الخدمات الأساسية

مواجهة خطاب التطرف والكراهية

على الرغم من محدودية مواردها، أدت السلطات المحلية، ولا سيما البلديات، أدوارًا جوهرية في التخفيف من حدة الانقسامات وتوفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية في ظل غياب الدولة المركزية. لقد مكنها قربها من الناس من الاضطلاع بوظائف محورية في مجال الوقاية من التطرف، أبرزها:

  • الرصد المبكر للتوترات المجتمعية والاستجابة السريعة لها عبر الوساطة المحلية.
  • إطلاق مبادرات حوارية وثقافية بالشراكة مع المجتمع المدني والمنظمات الدولية لتعزيز قيم التسامح والتنوع.
  • ضمان التوزيع العادل للخدمات دون تمييز طائفي أو مناطقي، مما قلّل من الشعور بالإقصاء الذي غالبًا ما يُستغل من قبل أصحاب الخطاب المتطرف.
  • تعزيز آليات المشاركة والشفافية المحلية ما رسّخ الثقة بين المواطنين والإدارات المحلية.

تعزيز التماسك المجتمعي

يُبنى التماسك المجتمعي من خلال ممارسات يومية ملموسة تُعيد للمواطن شعور الانتماء والثقة والأمان. وهنا تبرز البلديات بوصفها مساحات مرنة لإنتاج تعاقد اجتماعي جديد عبر:

  • تمكين مشاركة الشباب والنساء في القرارات المحلية لتعزيز الشمولية.
  • استثمار المساحات العامة كمراكز لقاء وحوار ونشاطات مجتمعية.
  • تنظيم برامج تدريبية وتربوية تروّج لقيم العيش المشترك والمواطنة.
  • إعادة صياغة الخطاب المحلي العام ليعكس أولويات الناس ويبتعد عن الاستقطاب والتحريض.

تعزيز الخطاب الديني المعتدل

في مواجهة تصاعد التطرف والانقسام لا يمكن إغفال الدور المحوري الذي تضطلع به المؤسسات الدينية والتي تتمتع بسلطة رمزية وروحية واسعة خصوصًا في البيئات المحلية.

من هنا، تبدو الحاجة ملحّة لتجديد الخطاب الديني المعتدل وتعزيز مضامينه التي تشجع على التسامح والتعددية والاحترام المتبادل، من خلال:

  • تدريب الأئمة ورجال الدين والخطباء على مهارات التواصل المجتمعي ومواجهة الفكر المتطرف والكراهية.
  • فتح حوار موسّع داخل المؤسسات الدينية حول مسؤوليتها في دعم السلم الأهلي والمواطنة الجامعة.
  • تفعيل الشراكة مع البلديات والسلطات المحلية لإطلاق مبادرات توعوية وحوارات مجتمعية منتظمة.
  • تعزيز دور المساجد والكنائس كمراكز تربوية وثقافية، تحتضن برامج موجهة للشباب والعائلات.
إقرأ على موقع 180  حُكّام لبنان في "لا لا لاند" الدولار والأسعار.. والإنهيار

هذا التعاون بين الدين والمجتمع المحلي يُعزّز مناعة الناس الفكرية والسلوكية، ويُعيد ربط الدين بقيم الاعتدال والمواطنة.

التحديات البنيوية

برغم الأدوار المتقدمة التي تقوم بها البلديات إلا أنها ما تزال تواجه عقبات بنيوية تُقوّض فعاليتها وأبرزها:

  • ضعف الاستقلالية المالية والإدارية، وتبعيتها لوزارة الداخلية من دون تطبيق فعلي للامركزية الإدارية الموسّعة.
  • شحّ الموارد البشرية والمالية في معظم البلديات، لا سيما الصغيرة منها.
  • الضغوط السياسية والطائفية التي تحدّ من إمكانياتها وتفرغها من دورها التنموي المحايد.
  • غياب خطة وطنية واضحة لتفعيل دور السلطات المحلية ضمن سياسة متكاملة لمواجهة التطرف وتعزيز التماسك المجتمعي.

بناء سلام مجتمعي مستدام

إن بناء السلام المجتمعي في لبنان لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن السلطات المحلية فهذه المؤسسات بما تمتلكه من قدرة على التفاعل المباشر مع المواطنين تمثّل حجر الزاوية في أي مشروع وطني لمواجهة التطرف وتجاوز الانقسام وإعادة ترميم العقد الاجتماعي.

لكن هذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال:

  • إقرار فعلي للامركزية الإدارية والمالية.
  • تأمين تمويل مستدام وعادل للبلديات.
  • تعزيز القدرات الإدارية والبشرية لها.
  • بناء شراكات دائمة بين السلطات المحلية، المؤسسات الدينية والمجتمع المدني.

في الختام، يكشف المشهد اللبناني المعاصر عن تعقيد بالغ، حيث تتداخل الأزمات الاقتصادية والسياسية العميقة مع تصاعد خطابات التطرف والانقسام وتآكل النسيج الاجتماعي. في ظل هذا الواقع، تبرز السلطات المحلية، ممثلة بالبلديات، كركيزة أساسية لا غنى عنها. فعلى الرغم من الموارد الشحيحة والتحديات الهائلة، أثبتت البلديات قدرتها على الاضطلاع بدور محوري في تخفيف حدة الاستقطاب، وتعزيز التماسك المجتمعي، وتوفير الخدمات الأساسية التي أصبحت شريان حياة للمواطنين في ظل غياب الدولة المركزية.

إن الدور الحيوي للبلديات في رصد التوترات، وتعزيز الحوار، وضمان عدالة الخدمات، وتمكين المشاركة المحلية، لا يمثل مجرد استجابة للأزمة، بل هو مؤشر على إمكانية بناء عقد اجتماعي جديد من القاعدة إلى القمة. هذا العقد يقوم على قيم المواطنة والعيش المشترك، ويتجاوز الهويات الضيقة التي مزّقت النسيج الوطني.

لتحقيق ذلك، يبقى من الضروري دعم السلطات المحلية وتزويدها بالإمكانيات اللازمة لتعزيز صمود المجتمع اللبناني. فالمستقبل الواعد للبنان قد لا يكمن في حلول مركزية بعيدة، بل في قدرة هذه الوحدات المحلية على بناء جسور الثقة وإعادة إحياء روح الانتماء، خطوة بخطوة، في مجتمعاتها. هل يُمكن للبنان أن يُعوّل على هذه القاعدة المحلية لإعادة بناء دولته وتجاوز محنته؟

 

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  قواعد ترامب الأربعون للبقاء في البيت الأبيض