من الكيبوتسات إلى الصواريخ: المفارقة التاريخية بين جلال آل أحمد والثورة الإيرانية

في واحدة من المفارقات الغريبة في التاريخ السياسي المعاصر، تقصف إيران اليوم الكيبوتسات الإسرائيلية نفسها التي امتدحها جلال آل أحمد، المفكر الإيراني الذي وضع الأسس النظرية لمقاومة "الغربزدكية" أو "غرب‌زدگی" (نزعة التغريب) ومقاومة الهيمنة الثقافية الغربية في مطلع ستينيات القرن المنصرم. هذا التناقض بين الماضي والحاضر يكشف عن تعقيدات عميقة في تطور الفكر السياسي الإيراني عبر أكثر من نصف قرن من الزمن.

جلال آل أحمد (1923-1969) كان كاتباً ومفكراً ومترجماً إيرانياً، ويعتبر من بين أبرز المثقفين الإيرانيين في القرن العشرين. ولد في طهران لعائلة دينية محافظة، وسافر في شبابه لدراسة العلوم الدينية في النجف الأشرف، لكنه عاد منها وتمرد على التقاليد الدينية، منضماً بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي الإيراني “توده” قبل أن ينفصل عنه لاحقاً.

درس آل أحمد في جامعة طهران وعمل مدرساً فيها، واشتهر بكتاباته النقدية التي تناولت التحديات الثقافية والاجتماعية التي تواجه إيران الحديثة. أشهر أعماله كتاب “الغربزدكية” (1962) الذي انتقد فيه بشدة التأثير المدمر للثقافة الغربية على المجتمع الإيراني، و”رحلة إلى أرض الميعاد” الذي وثّق فيه زيارته لإسرائيل وكتب عن تجربته تلك وامتدح الكيبوتسات الإسرائيلية ونموذجها التعاوني برغم أنها كانت تُشكّل الطليعة الإستعمارية لإقامة الدولة العبرية على أرض فلسطين، معتبراً إياها مثالاً على “الحداثة المقبولة” التي تختلف عن النموذج الغربي المفرط في الفردية الذي انتقده في “الغربزدكية”.

توفي جلال آل أحمد عام 1969، لكن أفكاره حول مقاومة الهيمنة الثقافية الغربية أثرت بعمق على الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. كيف؟

من النقد إلى الثورة

عندما انتصرت الثورة الإسلامية عام 1979 بقيادة آية الله الخميني، تبنت جزءاً كبيراً من أفكار آل أحمد حول مقاومة الهيمنة الغربية والبحث عن نموذج تنموي مستقل. لكن الخميني قام بتحويل جذري في معادلة آل أحمد: حوّل إسرائيل من “نموذج معجب به” إلى “الشيطان الأصغر” و”رأس حربة الاستعمار الغربي” في المنطقة. تحولٌ أو تحويلٌ هو نتاج نظرة أيديولوجية مختلفة. فبينما نظر آل أحمد إلى إسرائيل من زاوية اجتماعية-اقتصادية بحتة، باحثاً عن النموذج التنموي الأمثل، نظر الخميني إليها – في المقابل – من منظور جيوسياسي، معتبراً إياها جزءاً من المشروع الغربي للهيمنة على المنطقة الإسلامية، وكان يلتقي في نظرته تلك مع العديد من الأحزاب الشيوعية العربية التي تمايزت عن الموقف السوفياتي في تلك المرحلة. هكذا تحوّلت الكيبوتسات من “مثال للتعاون الاجتماعي” في فكر جلال آل أحمد إلى “مستوطنات استعمارية” في خطاب الثورة الإسلامية وفكر قائدها الإمام الخميني.

استفاد الخميني من نقد آل أحمد للغربزدكية، لكنه وضعه في إطار ديني عقائدي شامل جعل مقاومة إسرائيل قضية مركزية في الأيديولوجية الإسلامية الثورية. لم تعد المسألة مجرد بحث عن نموذج تنموي بديل، بل أصبحت صراعاً حضارياً ودينياً شاملاً ضد الهيمنة الغربية-الإسرائيلية.

عداء التلميذ وإعجابه بالأستاذ!

عندما تولى السيد علي خامنئي قيادة إيران بعد وفاة الخميني عام 1989، ورث علاقة معقدة مع إرث جلال آل أحمد. كان خامنئي ينتمي إلى الجيل الذي تشكل فكرياً في ظل كتابات آل أحمد، وبخاصة كتابه المؤثر “الغربزدكية” (1962). وفي كتاباته وخطاباته المبكرة، أشار خامنئي مراراً إلى تأثير آل أحمد على فكره، معتبراً إياه من الرواد الذين نبّهوا الإيرانيين إلى خطر الغزو الثقافي الغربي. لكن خامنئي واجه معضلة فكرية تتعلق بكيفية تعامله مع إعجاب أستاذه الفكري بنموذج الكيبوتسات في إسرائيل. الحل الذي اختاره خامنئي كان تفسيرياً وتاريخياً: “المرحوم آل أحمد كتب عن إسرائيل في سياق زمني مختلف، عندما لم تكن طبيعة المشروع الصهيوني قد اتضحت بعد. لكن التاريخ كشف لنا الوجه الحقيقي لهذا الكيان الغاصب”.

هذا التفسير لم يسمح لخامنئي بالحفاظ على احترامه لآل أحمد بل استخدم هذا التناقض لصالحه، معتبراً أن “خداع” إسرائيل لمفكر بحجم آل أحمد إنما يُؤكد على خطورة المشروع الصهيوني ومكره.

من النقد الثقافي إلى الاستراتيجية الجيوسياسية

تحت قيادة الإمام علي خامنئي، تطور مفهوم “الغربزدكية” الذي صاغه آل أحمد من مجرد نقد ثقافي-اجتماعي إلى أيديولوجية شاملة توجّه السياسة الخارجية الإيرانية، ووسّع خامنئي المفهوم ليشمل الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية. وفي خطاب له في العام 2005، قال خامنئي: “الغربزدكية التي حذّر منها آل أحمد لم تعد مجرد مسألة ثقافية، بل أصبحت مشروعاً شاملاً لإخضاع الأمم المستقلة وإسرائيل هي رأس الحربة في هذا المشروع في منطقتنا”.

هذا التطوير النظري مهّد الطريق لبناء ما أسماه خامنئي “جبهة المقاومة العالمية” ضد الهيمنة الغربية -الإسرائيلية. من لبنان إلى فلسطين إلى سوريا فاليمن، بنى خامنئي شبكة من التحالفات تهدف إلى محاصرة إسرائيل وتقويض النفوذ الأميركي في المنطقة.

استخدام “الآلة” لمحاربة الغرب

أحد أعمق التناقضات في تطبيق خامنئي لأفكار آل أحمد يتعلق بموقفه من التكنولوجيا. كان آل أحمد قد انتقد بشدة “عبادة الآلة” في الحضارة الغربية. لكن تحت قيادة خامنئي، استثمرت إيران بكثافة في تطوير قدراتها التقنية والعسكرية، من الصواريخ الباليستية إلى الطائرات المسيرة وتقنيات الحرب الإلكترونية. هذا الاستثمار في “الآلة” التي انتقدها آل أحمد خلق تناقضاً فكرياً واضحاً. لكن خامنئي حلّ هذا التناقض من خلال التمييز بين “الاستخدام الأداتي” و”العبادة العمياء” للتكنولوجيا. وفي خطاب له عام 2012، قال المرشد الإيراني: “نحن نستخدم التكنولوجيا كأداة لحماية استقلالنا وهويتنا، وليس كغاية في حد ذاتها، وهناك فرق بين من يعبد الآلة ومن يسخّرها لخدمة أهدافه المقدسة”. هذا التبرير النظري سمح لإيران بتطوير ترسانة عسكرية متقدمة بينما تحافظ على مقاومتها للغربزدكية.

وفي هذا السياق، برز موقف خامنئي من الكيبوتسات الإسرائيلية بشكل خاص. في عدة خطابات، أشار صراحة إلى الكيبوتسات التي امتدحها آل أحمد، لكن بتفسير مختلف تماماً. في خطاب له عام 2018، قال: “ما ظنّه البعض (آل أحمد) تعاوناً اجتماعياً في الكيبوتسات كان في الحقيقة تنظيماً عسكرياً للمستوطنين الغزاة. لم تكن مزارع تعاونية، بل قواعد عسكرية متنكرة”. هذا التفسير الجديد للكيبوتسات عكس التحول الكامل في النظرة الإيرانية: من رمز للتعاون الاجتماعي إلى رمز للاستعمار الاستيطاني. وعندما بدأت إيران بقصف الكيبوتسات فعلياً في العام 2024 ثم إبّان حرب 2025، كان خامنئي يُقدّم هذه الضربات كـ”تصحيح تاريخي” لـ”الوهم” الذي وقع فيه آل أحمد.

إقرأ على موقع 180  صحف طهران تقرأ "ضربة دمشق": "الرد العاطفي" والحرب.. مستبعدان

إعادة كتابة التاريخ الفكري

في كتابه “الثقافة والحضارة” (2001)، كتب خامنئي: “المفكرون العظام يمرون بمراحل في فهمهم للواقع، آل أحمد في بداية رحلته الفكرية انبهر ببعض المظاهر الخادعة، لكن تطور فكره كان سيقوده حتماً إلى كشف الحقيقة الكاملة لو أنه عاش أكثر”. هذا التفسير يُحوّل إعجاب آل أحمد بإسرائيل من “خطأ فكري” إلى “مرحلة في التطور”، مما يحافظ على مكانة آل أحمد كمفكر إيراني مؤثر في أجيال عديدة. إنها عملية ماهرة في التبرير من جهة وإدارة التراث الفكري من جهة ثانية، بما يعكس عمق فهم خامنئي لأهمية الشرعية الفكرية في بناء الأيديولوجية السياسية.

في العام 2025، تشهد المنطقة صراعاً مباشراً هو الأول من نوعه بين إيران وإسرائيل منذ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979. قصفت إيران على مدى 12 يوماً الأراضي الإسرائيلية بالصواريخ والطائرات المُسيرة. هذا الصراع العسكري المباشر يؤشر إلى مسار العلاقة المعقدة من الإعجاب المكبوت في الستينيات الماضية إلى العداء المطلق اليوم. والمفارقة تصبح أكثر وضوحاً عندما نُدرك أن الصواريخ الإيرانية تستهدف اليوم الكيبوتسات نفسها التي وصفها آل أحمد بعبارات الإعجاب قبل أكثر من خمسة عقود. والأهم من ذلك أن المرشد علي خامنئي، الذي تشكل فكرياً تحت تأثير آل أحمد، يقود هذه الحرب ضد ما كان يوماً مصدر إلهام لأستاذه الفكري.

بالنسبة إلى خامنئي، لا حاجة للبحث عن الكيبوتسات الإسرائيلية أو عن أي نموذج غربي آخر، لأن الإسلام يحتوي في ذاته على كل ما يحتاجه المجتمع لتحقيق التقدم والحداثة في آن معاً. وهذا الموقف يمثل تطوراً جذرياً عن موقف آل أحمد. فبينما بحث آل أحمد عن “حداثة مقبولة” في النماذج الخارجية، أعلن خامنئي أن الحداثة الحقيقية تأتي من الداخل، وأن أي إعجاب بالنماذج الخارجية هو شكل من أشكال الغربزدكية.

تناقضات المثقف المقاوم

قصة العلاقة بين خامنئي وآل أحمد تكشف عن التناقضات الأساسية التي يواجهها المثقف في البحث عن البديل. الرغبة في مقاومة الهيمنة الثقافية تصطدم بالحاجة إلى إيجاد نماذج عملية للتقدم والتنمية. وفي هذا البحث، يقع المثقف أحياناً في فخ الإعجاب بما يجب أن يقاومه، أو رفض ما يمكن أن يستفيد منه. خامنئي، الذي واجه هذه المعضلة كوريث فكري لآل أحمد، اختار حلاً براغماتياً: أخذ من آل أحمد ما يخدم مشروعه السياسي (نقد الغربزدكية) ورفض ما يتعارض معه (الإعجاب بكيبوتسات إسرائيل). هذا الموقف المركب من التراث الفكري يعكس طبيعة العلاقة المعقدة بين الفكر والسياسة في الأنظمة الثورية.

إن التحول من إعجاب آل أحمد بإسرائيل إلى عداء خامنئي لها يُقدّم لنا مثالاً صارخاً على كيفية تطور الأيديولوجيات عبر الأجيال. كلُ جيل يُعيد تفسير أفكار الجيل السابق وفقاً لظروفه السياسية والثقافية والاجتماعية. آل أحمد أنتج نقد الغربزدكية والإعجاب بإسرائيل في نفس الوقت. الخميني أخذ النقد ورفض الإعجاب. خامنئي طور النقد إلى أيديولوجية شاملة وحول الرفض إلى حرب فعلية. خامنئي يدرك هذا التطور التاريخي ويقدمه كجزء من “نضج” الوعي الإيراني. في خطاب له، يقول خامنئي: “كل جيل يرى أكثر من الجيل السابق. آل أحمد رأى خطر الغربزدكية لكنه لم ير خطر الصهيونية. نحن رأينا الخطرين معاً وتصدينا لهما معاً”. وهذا التفسير التطوري للتاريخ الفكري يسمح لخامنئي بالحفاظ على التواصل مع إرث آل أحمد بينما يتجاوز تناقضاته.

في الخلاصة؛ كل صاروخ إيراني يستهدف الكيبوتسات الإسرائيلية يحمل في داخله صدى كلمات الإعجاب التي كتبها آل أحمد قبل عقود. المفكر اليساري الإيراني الذي وضع في ريعان شبابه الأسس الفكرية لمقاومة الهيمنة الغربية، والذي استلهمت الثورة الإسلامية بعض أفكاره، كان معجباً بالهدف نفسه الذي تحاربه إيران اليوم. وهذه المفارقة ليست مجرد طرافة تاريخية، بل تكشف عن طبيعة وتعقيدات الأفكار السياسية وكيفية تطورها.

إنّ قصة آل أحمد وإيران وإسرائيل تقدم دروساً مهمة للعلاقة بين الفكر والممارسة السياسية. أولاً، تكشف عن صعوبة البحث عن البدائل “النظيفة” في عالم معقد ومترابط، وثانياً، تُظهر كيف يمكن للأفكار أن تتطور بطرق لم يتوقعها أصحابها الأصليون، وثالثاً، تؤكد على أن الفكر السياسي ليس مجرد تجريد نظري، بل قوة حية تؤثر على الواقع وتتأثر به.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عودة ترامب أكثر احتمالاً.. أي عالم ينتظرهُ وينتظرنا؟