حدود التصعيد الإسرائيلي مع لبنان.. “نصر مطلق” أم “خسارة استراتيجية”؟

بتوجيه ضربات غير مسبوقة ومتتالية على مدى أيام لـ"حزب الله"، يُكرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن العمل العسكري لا يتناقض مع الديبلوماسية، لا بل يُعزّزها، لتحقيق هدفه المعلن بتغيير الواقع العسكري والأمني في الجبهة الشمالية، بما يؤمن عودة النازحين من سكان مستوطنات الشمال.

شَهَرَ نتنياهو هذه المعادلة طوال الأشهر الأخيرة في وجه المطالبات الأميركية له، للقبول بوقف للنار من ثلاث مراحل في غزة، بما يؤمن اطلاق الأسرى الإسرائيليين الذين ما يزالون في قبضة “حماس”، أي أن مواصلة العمليات العسكرية، وتصعيدها في أحيان كثيرة وارتكاب المجازر المروعة، وضعها نتنياهو في خانة عوامل الضغط على الحركة كي تُليّن موقفها وتقبل بالشروط المعروضة عليها إسرائيلياً والوصول إلى استعادة الأسرى.

وبرغم مرور حوالي السنة، أخفقت هذه الاستراتيجية في غزة، فلماذا ستنجح في لبنان؟

في 16 أيلول/سبتمبر الجاري، قرّر الكابينيت الإسرائيلي تحديث أهداف الحرب الثلاثة على غزة. كانت هذه الأهداف تقول بإلحاق هزيمة ساحقة بـ”حماس” في غزة وتأمين اطلاق الأسرى الإسرائيليين وضمان أن غزة لن تُشكل تهديداً لإسرائيل مجدداً. أما الآن، فقد زاد الوزراء الإسرائيليون هدفاً رابعاً، ألا وهو “عودة سكان الشمال بأمان إلى منازلهم”. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تعمد إسرائيل إلى تفجير أجهزة “البيجر” المفخخة التي يحملها عناصر من “حزب الله” في اليوم التالي، بحسب ما تستنتج صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية. وأعقبت ذلك، بعد 24 ساعة، بتفجير أجهزة اللاسلكي، متسببة بأقسى ضربة يتعرض لها الحزب في تاريخ صراعه مع إسرائيل. وبينما كان الحزب يُلملم جراحه، تلقى ضربة أخرى باستهداف القائد العسكري الكبير إبراهيم عقيل (الحاج عبد القادر) وثلة من قيادة وأركان قوة “الرضوان” التي تعتبر من أبرز وحدات النخبة في الحزب، وذلك في غارة جوية استهدفت إجتماعاً لهؤلاء في أحد المستودعات في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وهذا سياقٌ متممٌ لاغتيال القائد العسكري للحزب فؤاد شكر (السيد محسن) في 30 تموز/يوليو المنصرم.

ويضع الباحث في معهد واشنطن ماثيو لافيت هذه الضربات، في سياق تطلُع إسرائيل إلى تحييد قدرات “حزب الله”، من طريق استهداف قياديين رئيسيين وشبكة الاتصالات “حتى لا يعود يشكل الخطر الذي شكله على مدى 11 شهراً”.

بهذا التصعيد غير المسبوق، أراد نتنياهو أن يُعيد تشكيل الجبهة الشمالية بما يُخرج “جبهة الإسناد” اللبنانية عن سياق حرب الاستنزاف والضربات المتبادلة وفق ما أرادها حزب الله منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبما يجعلها حرباً فعلية بلا ضوابط وبلا خطوط حمراء، حتى تحقيق الفصل بين جبهتي لبنان وغزة، وتالياً فتح الطريق أمام تسوية تُعيد سكان مستوطنات الشمال.

هذا يطرح سؤالاً مهماً: هل الهجمات الإسرائيلية على اتساع نطاقها سيكون لها تأثير مستدام؟ على هذا يجيب المسؤول السابق في الاستخبارات الإسرائيلية إيال بيكو قائلاً :”على المدى القصير يُعتبر ذلك انجازاً تكتيكياً إستثنائياً.. أما على المدى الطويل، فإنه لن يُسفر عن أيّ انجاز عسكري أو سياسي استراتيجي”.

هل تُؤمّن هذه الانجازات التكتيكية “العودة الآمنة” لسكان مستوطنات الشمال؟ لا يبدو أن الأمر كذلك، طالما أنّ “حزب الله” متمسك بالمضي في القتال طالما استمرت حرب غزة، وهذه هي المعادلة التي سعى المسؤولون الأميركيون، من دون جدوى، إلى ابلاغها لنتنياهو، عبر المبعوث آموس هوكشتاين ووزير الدفاع لويد أوستن. لكن ما يلمسه البيت الأبيض هو أن هناك سعياً للانتقام الإسرائيلي في لبنان كما يستمر الانتقام في غزة منذ نحو سنة، وكل ذلك يجري من دون أفق سياسي.

لقد قرّر نتنياهو إضافة هدف رابع لكن الوقائع تُبيّن لنا أن إسرائيل لن تكون قادرة عسكرياً على تحقيق هدفها المعلن بإعادة سكان مستوطنات الشمال، وبالتالي فك الارتباط بين “حزب الله” وغزة. إن “النصر المطلق” الذي يبحث عنه نتنياهو وحكومته وترميم صورة الردع الإسرائيلي، قد يقودا في نهاية المطاف إلى خسارة استراتيجية

هذا ما يُفسّر الإدراك المتأخر للمسؤولين الأميركيين، بأن فرص التوصل إلى وقف للنار في غزة، لن يكون متاحاً قبل أن يؤدي الرئيس الأميركي الجديد الذي ستفرزه انتخابات 5 تشرين الثاني/نوفمبر اليمين القانونية في 20 كانون الثاني/يناير 2025.

استنتاج ينم عن الإحباط. ومن علائمه أن أوستن ألغى جولة له على المنطقة كانت ستبدأ في إسرائيل اليوم (الأحد). وبات الرئيس جو بايدن يُكرّر جملاً رتيبة عن أنه لا يزال في الامكان التوصل إلى هدنة في غزة، بينما صارت المشكلة الآن في كيفية منع نتنياهو من دفع المنطقة إلى حرب جديدة قد تتجاوز حدودها لبنان وتجر الفوضى مجدداً إلى المنطقة، على غرار ما فعلت الحرب الأميركية على العراق في العام 2003.

والسبب الرئيسي في الوصول إلى هذه اللحظة المحتدمة، هو تلكؤ بايدن نفسه في ممارسة ضغوط فعلية في الأشهر التي تلت حرب غزة، كي يوقف النار ويبدأ الحديث عن تسوية سياسية.

انتظر بايدن حتى أواخر نيسان/أبريل كي يبدأ بالدعوة إلى وقف النار في غزة، واستخدم حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات في مجلس الأمن الدولي لإسقاط مشاريع قرارات تدعو إلى وقف الحرب. وعمد في 27 أيار/مايو إلى تبني ما سماه “مقترحات إسرائيلية” لهدنة من ثلاث مراحل، ما لبث نتنياهو أن تجاوزها بإضافته إليها شروطاً تعجيزية، كان بديهياً أن ترفضها حركة “حماس”.

إقرأ على موقع 180  "الدعم" آخر أوراق النظام الزبائني اللبناني قبل "الصولد" الكبير

يكتفي القادة الأميركيون الآن بالتنصل من معرفتهم المسبقة بالضربات الإسرائيلية على لبنان، من دون ابداء أية اشارة إلى ممارسة الضغوط على تل أبيب.. وها هو البنتاغون يُسارع إلى تكليف حاملة الطائرات “هاري ترومان” للقيام بدور إلى جانب الحاملة “دوايت أيزنهاور” في حماية إسرائيل في حال قرّر “حزب الله” الذهاب نحو رد واسع.

ويتحدث الجنرالات الإسرائيليون عن “متى” وليس عن “هل” ستنشب الحرب الواسعة مع لبنان. ويُريد بعضهم استغلال وجود حاملتي طائرات وأسراب من المقاتلات الأميركية التي يُمكن أن تُساعد إسرائيل في صد صواريخ “حزب الله”، في حين يرى آخرون أن الجيش الإسرائيلي ما يزال يقاتل في غزة وإن بوتيرة منخفضة، وتالياً يحتاج إلى استراحة وإعادة تأهيل.

ويقول المراسل العسكري لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عاموس هارئيل: “يبدو مستغرباً أن تضرب حزب الله بهذه الطريقة الواسعة من دون تحقيق مكاسب استراتيجية، ناهيك عن الفكرة الغامضة حول الردع. إننا قريبون جداً جداً من نزاع شامل”.

منذ نحو عام وإسرائيل تقاتل في غزة من دون أن تتمكن من تحقيق أهدافها الثلاثة المعلنة: القضاء على “حماس” سلطوياً وعسكرياً، استعادة الأسرى الإسرائيليين، ضمان ألا تُشكل غزة تهديداً مستقبلياً لإسرائيل مجدداً.

ما فعلته إسرائيل أنها قتلت في سياق حملة الانتقام من اخفاقها في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 نحو 42 ألف فلسطيني (حسب القيود الرسمية) وجرحت ضعفهم ودمّرت نحو 70 في المئة من غزة، ولكنها لم تصل إلى أهدافها الثلاثة المعلنة، بل تواصل الغرق في اللاانجاز العسكري والسياسي.

لقد قرّر نتنياهو إضافة هدف رابع فضلاً عن قوله إن الحرب دخلت مرحلة جديدة وأن إسرائيل ستعمل على تغيير الشرق الأوسط، لكن الوقائع تُبيّن لنا أن إسرائيل لن تكون قادرة عسكرياً على تحقيق هدفها المعلن بإعادة سكان مستوطنات الشمال، وبالتالي فك الارتباط بين “حزب الله” وغزة.

إن “النصر المطلق” الذي يبحث عنه بنيامين نتنياهو وحكومته وترميم صورة الردع الإسرائيلي، قد يقودا في نهاية المطاف إلى خسارة استراتيجية..

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  منصّة مصرف لبنان: مصادرة الدولارات الطازجة وكسب الوقت