أكيد.. دخلنا ونص!

لعل اللامبالاة من أقبح صفات البشر؛ هي حالةٌ يقبع بموجبها المرء في حالة وسيطة بين الخير والشر، بين النور والظلمة. حالة قبيحة من تخدير الضمير أمام المآسي المحيطة، بحيث يعجز فيها الإنسان عن تفعيل إنسانيته، فيحيا كأن لا أهوال حوله، ولا معاناة تستصرخ ضميره، ويشغله (أي ضميره) بطبق لذيذ رائحته تشبه رائحة المحروقين أحياء في خيام قريبة وكأس من نبيذ لونه بلون دماء الأطفال من جيرانه.

صحيح أن اللامبالاة مغرية كونها السبيل لتجنب التورط في المشاكل، ولاستمرار الحياة العادية وتحقيق البرامج والأحلام. لكنها دليلٌ على صَمَم يحجب ضجيج المجازر وعويل الضحايا؛ دليلٌ على عمى يخفي هول الألم والخوف. إن الكائن اللامبالي هو إنسان ماتت إنسانيته، وفقد القدرة على الإحساس والغضب والثورة.. وبالتأكيد يفقد القدرة على المحبة.

أصعب ما يحسّه المظلوم والمألوم ليس الظلم فحسب، بل لامبالاة العالم من حوله تجاه ما يحصل معه. يتضاعف ألمه عندما يحسّ بأنه متروك وحيداً في هذا العالم. لا أحد يبالي بمعاناته؛ لا أحد يتعاطف مع قتلاه؛ لا أحد يُضمّد جروحه؛ لا أحد يواسي أحزانه؛ لا أحد يرسل له وميضاً من الأمل بأن الإنسانية لم تمتأن الإنسانية لم تمت وبأن هناك ضميراً ما زال حياً.

أمام كل واحد منا خيارٌ من إثنين: إما أن نكون مع القاتل وإما مع الضحية. لا خيار ثالثاً. لأن اللامبالاة هي دوماً صديقة القاتل وتعمل لمصلحته. أن تتفرج على العدوان ولا تبالي يعني حتماً أنك في صف المعتدي. كم هو مؤلم للضحية أن يرى من يتفرّج على ألمه ولا يبالي!

بالعامية اللبنانية: “ما خصنا”.. وبالفصحى “لا دخل لنا بفلسطين”!

نعم أضحت اللامبالاة موقفاً سياسياً يُبنى عليه، وفلسفة تدّعي حماية البلد. في هذه الحالة، يُصبح المبالي والمناصر ومن يدفع الثمن حتى باستشهاده هو المُخطئ والمُلام. طبيعي أن نرى إبادة ومذابح ونتفرج ونُقيم أفراحنا ولا نجد وقتاً لتتبع أخبار ما يجري. ولأجل إراحة ضمائرنا نُقطّب جباهنا ونقول: “يا حرام”.. ثم نشيح بوجوهنا وضمائرنا بعيداً. بل أكثر من ذلك، نلوم من ساند وورّطنا، ونفرح حين يعلو ثمن الإسناد لنُثبت صحة نظريتنا!

لم يعد الموضوع متعلّقاً بفلسطين وعلاقتنا بها جغرافياً وقومياً ودينياً وأشياء أخرى، بل بإنسانيتنا. سمعنا منذ طفولتنا رواية عن بلد ضاع لأنه لم يجد من يناصره، لأن الغرب تآمر والعرب تخاذلوا. فليتكرر التاريخ. وليقضَ على البقية من فلسطين لنضيف إلى تاريخنا حقبة جديدة من التقاعس والخذلان من دون أدنى خجل.

إذا لم يكن لنا علاقة بفلسطين، إذن فما هي علاقة الأوروبيين الذين يفقدون وظائفهم، ويُطردون من جامعاتهم، ويُلاحقون بتهمة معاداة السامية، وتنتزع منهم جنسياتهم، سوى أنهم غلّبوا إنسانيتهم على مصالحهم المادية؟ ما دخل الأميركيين الذين استقالوا طوعاً أو غصباً من وظائفهم، وبعضهم من البيت الأبيض استجابة لنداء ضمائرهم؟ ما دخلُ أولئك اليهود الذين قرّروا في أنحاء عدة من العالم التظاهر ضد الإبادة الحاصلة لشعبنا بينما نحن لم نُكلّف أنفسنا هذا العناء؟ ما دخل جنوب إفريقيا واسبانيا وبلجيكا وإيرلندا والبرازيل في محاولة الحدّ من هذه المجازر؟

شرف المقاومة ودفع الظلم ليس بالخواتيم والنتائج بل بالمحاولة. الذل والوضاعة هو في السكوت والاستسلام. الواقف مع الحق يحيا مرتاح الضمير، ويتوسّد قبره حاملاً كتابه في يمينه ليوم الحساب.

أكيد دخلنا ونص!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "دود الخل مِنهُ.. وفيه"!
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عودوا إلى السيد فضل الله..