رداً على ناصيف حتّي.. دولة ديموقراطية واحدة على كامل أراضي فلسطين

باقتضاب شديد، وضع الأستاذ ناصيف حتّي طرح الدولتين كحل وحيد للقضية الفلسطينية، فقال "إذا كان حل الدولتين صعب التحقيق بسبب ما أشرنا إليه من متغيرات على الأرض، فإنه يبقى الحل الوحيد الممكن للتسوية النهائية الشاملة والواقعية للقضية الفلسطينية التي هي قضية حقوق وطنية لشعب يريد التعبير عن هويته عبر إقامة دولته المستقلة. وبعدها يمكن البحث، كما يدعو البعض، بأي صيغ تعاونية ثنائية أو إقليمية لتعزيز السلام في المنطقة".

ردّاً على المقاربة التي يطرحها الأستاذ ناصيف حتّي، علينا التطرّق إلى عدة نقاط أساسية تُكوّن مجتمعة منطلقات العمل ومحدّداته. ننطلق في ردّنا على ما ذُكر من واقع يغيب عن العديد من المقاربات، وهو أن المشروع الصهيوني في أساسه مشروع سياسي، وحتى قبل أن يعمل على بناء جيش وإنشاء دولة ومن ثم تشكيل مجتمع، هو مشروع عدواني. بطرحه لنموذج “الدولة الخاصة بأبناء الدين الواحد”، يصيب مجتمعنا ومجتمعات المنطقة ويعمل على تثبيت شرعيته الطائفية عبر تهديد الشرعيات العابرة للهويات الطائفية والقومية. وبذلك يُهدّد أسس الشرعية المدنية التي يحتاجها لبنان لبناء دولة قادرة وفاعلة، خاصة في هذه الظروف الاستثنائية في داخله وفي خارجه.

أمام هذا الواقع، لا يمكن للمشروع الصهيوني إلا أن يتعامل مع المجتمعات الذي زرع كيانه بينها، وأولها المجتمع اللبناني، إلا في سياق الفكر الاستعماري الهوياتي والتوسّعي الذي نشأ المشروع ضمنه. وعليه، لا فرق بين وجود دولة فلسطينية إلى جانب دولة صهيونية، أو وجود دولة صهيونية صافية يسعى الإحتلال لتكريسها. فأساس العداء ليس عدد الكيلومترات المربعة التي يحتلها الكيان بل زعمه امتلاك الفئات الهوياتية حقوقاً جماعية، مع كل ما لهذا الزعم من تبعات كارثية على مجتمعنا المُفكك بين طوائف تتناتش الموارد بمسمّى حقوق. مصير مجتمعنا برمّته يحدّده رضوخنا أو مقاومتنا لهذا الزعم.

إن التعامل مع المسألة يكون من خلال مشروع سياسي على نقيض المشروع الصهيوني، أي مشروع يرفض منطق حق أبناء الدين الواحد بدولة خاصة بهم، بل يرى الدول أدوات لإدارة شؤون مجتمعاتها، أي تكون دولاً مدنية

لقد دأب العدو الصهيوني على تفتيت مجتمعاتنا وتعزيز انقساماتها الهوياتية، طائفية كانت أم قومية، وذلك لاستغلالها لإضعاف مناعتها أمامه، فيصون بذلك عصبية مجتمعه ولحمته. ومن ضمن هذا السياق، يصبح طرح الدولتين، أي دولة اسرائيل لليهود ودولة فلسطين لغير اليهود، هو انكسار أمام المشروع الصهيوني وتكريس لأساس شرعيته المبنية على ادعاء كاذب يزعم أن ليهود العالم، من أوروبيين وأميركيين وأفارقة وعرب، هوية واحدة، وأن لهؤلاء الحق بانشاء دولة خاصة بهم. وفي شرقنا بالتحديد، تطغى الهويات على كل شيء، وهي المُسيّر الأول للعمل السياسي، وما القبول بدولة لليهود إلا غرق أعمق في تثبيت فكرة أن الدول مؤسسات ذات هوية طائفية أو قومية لا جهاز إدارة للسكان المرتبطين ببقعة جغرافية. فيزيد بذلك خطر التفتيت والحرب على مجتمعات المنطقة التي تحمل في طياتها ائتلافات لهويات سياسية علينا العمل على الانتقال بها من مبدأ التعايش إلى بناء مؤسسات بديلة عنها، علماً أن أجهزة العالم أجمع تعمل على تكريس تلك الهويات بالدم لمنع قيام دول ومجتمعات سليمة.

من ناحية أخرى، من الجدير بالذكر أن طرح الدولتين لم يكن جدياً للحظة لدى الأجهزة الإسرائيلية، حتى أن الفلسطينيين الذين ارتضوا به لم يقتنعوا بنوايا اسرائيل. أمّا اليوم، فإن قتلة إسحاق رابين، الذي أعلن أنه لن يمنح الفلسطينيين سوى “أقل من دولة” ومع ذلك هو أكثر الصهاينة سلميةً، موجودون في السلطة، وهم يشنون حرباً وحشية على قطاع غزة وتالياً على الضفة الغربية ولبنان. لا نية لهؤلاء بحل الدولتين، ووحشية الحرب كما الاستيطان الكثيف المُهلك للضفة الغربية دليل قاطع على ذلك. ويتبارى اليوم، في خضم الحرب، أصحاب المسؤوليات في الأجهزة الإسرائيلية، من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وغيره، على إعلان رفضهم لحل الدولتين، فكيف لنا بطرحه؟

لذا، فإن القبول بطرح الدولتين على أنه طرح واقعي، وقد وصلت الواقعية بمحمود عباس إلى منع العمل المقاوم في الضفة، هو اعتراف ضمني بشرعية الزعم الصهيوني وبالهوية الإسرائيلية، وتالياً تقديم العداء للمشروع الصهيوني على أنه عداء طائفي لليهود، فيكون الحل بتناتش الجغرافيا والموارد بين الطوائف المتناحرة، وما أعلمنا بنتائج تلك المقاربة في لبنان.

إن التعامل مع المسألة يكون من خلال مشروع سياسي على نقيض المشروع الصهيوني، أي مشروع يرفض منطق حق أبناء الدين الواحد بدولة خاصة بهم، بل يرى الدول أدوات لإدارة شؤون مجتمعاتها، أي تكون دولاً مدنية. مشروع يحمل عداءً صريحاً ومبرراً بعقلانية، يحمل استعداداً للتضحية، ويحمل أهدافاً واضحة يعمل على فرضها. عداؤنا للمشروع الصهيوني ليس إيديولوجياً ولا لفظياً، وليس مقتصراً على مساحة محتلة من الأرض قد تسوى، أو على رفض الظلم الإجرامي الذي ألحقه بالشعب الفلسطيني، الذي قد يرضخ بعض “ممثليه” للقهر أو للدولارات فيُسلّموا به. هذا العداء ينبع من كون الصهيونية على تعارض مع الشرعية المدنية للدولة التي وحدها تستطيع تأطير مصالح مجتمعنا.

إن المشروع الصهيوني يتعامل مع المجتمعات عموماً بوصفها طوائف وشبكات سلطوية، ويتعامل مع منطقتنا بوصفها ممرات استراتيجية وحقولاً نفطية، ويثابر على دك الشرعية الداخلية للأنظمة، وعلى تعزيز العصبيات العنصرية فيها. عداء لبنان، كدولة وكمجتمع، أي كمشروع سياسي، للمشروع الصهيوني هو عداء أصيل وعقلاني لا يرتضي قيام دولة له مهما كان حجمها ومهما كانت حصصها.

إقرأ على موقع 180  مع كورونا.. صار وجودك هو الإرهاب!

وبالعودة إلى طرح الأستاذ ناصيف حتّي، صاحب الخبرة الواسعة في وزارة الخارجية اللبنانية والذي اختبر تفاني الأنظمة العربية في سعيها نحو شرعية مدنية واثقة عندما كان سفيراً للبنان إلى جامعة الدول العربية العظيمة، والذي بدأ مقاله بالحديث عن أشهر الحرب الأربعة على غزة، ليعود ويطرح الإعتراف بالكيان الصهيوني الذي يشن الحرب بعد أسطر معدودة، هل من “الواقعية” أن نُصدّق أن التطبيع المذكور هو لمصلحة مجتمعات المنطقة؟ هل الحل النهائي هو تأسيس دولة فلسطينية مفلسة وعاجزة لتكون جارة لدول مفلسة وعاجزة؟ لا يمكن الاستمرار بالإقتراحات العشوائية، بل علينا أن نضع المسائل في سياقها الحقيقي، لنقد حديث الساعين للتطبيع ولطرح المقابل الجدي أمام الجميع.

(*) راجع مقالة ناصيف حتّي بعنوان: حل الدولتين.. لا لحل الدولة الواحدة المستحيلة!

Print Friendly, PDF & Email
أحمد العاصي

كاتب لبناني، عضو حركة "مواطنون ومواطنات في دولة"

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  رحلة الـ mRNA من التقنية إلى لقاح كورونا