إنّها “العَوْدةُ”.. هلْ مَن يعتبر؟

بعد ما رأيناه، طوال أيام هذا الأسبوع، على المستوى الشّعبيّ بالذّات، ضمن بيئة المقاومة اللّبنانيّة، ولا سيما تلك الاندفاعة الإستشهادية للنازحين إلى مدنهم وقراهم وبلداتهم، هل لم يزلْ هناك من يُشكّك، وبأي شكل من الأشكال، بالثقافة المؤطرة والمُحركة لظاهرة "المقاومة" اللبنانية ككلّ؟

على العكس من ذلك، أعتقد أنّ أغلب اللّبنانييّن، وأغلب المتابعين بشكل عامّ، قد “صُدموا” ممّا ظهر على شاشات التّلفزة، ومن خلال وسائل التّواصل الاجتماعيّ.

استذكرْ معي المشهدَ بهدوء، وانسَ الجوانب السّياسيّة والدّبلوماسيّة والعسكريّة قليلاً:

مشهدٌ شعبيٌّ أسطوريٌّ بكلّ ما للكلمة من معنى ربّما.. أتحدّث، مجدّداً، عن الجانب الشّعبيّ تحديداً.

النّاس، قبل مسؤوليها السّياسيّين والتّنظيميّين.. تعود إلى بيوتها وقراها، حتّى آخر قرية على حدود فلسطين المحتلّة، وبسرعة شبه خياليّة!

شوارع الضّاحية الجنوبية لبيروت تعجُّ بالعائدين وبالمُحتفلين، قرب الدّمار وقرب الأنقاض وقرب الخراب. هتافات النّصر والوفاء تعلو من كلّ مكان.

صُوَر القادة ترتفع.. الأحياء منهم والأموات!

إنّها الضّاحية. الضّاحيةُ نفسُها التي تعرّضت لعشرات الضّربات الكبيرة قبل ساعات أو دقائق من ذلك فقط. إنّها الضّاحية التي هُجّر أهلُها وزُنّرت بالنّار لأيّام عديدة خلال جولات الاعتداءات الاسرائيليّة.

المشهدُ نفسُه عموماً يتكرّر أيضاً.. عند مداخل الجنوب والبقاع الغربيّ والبقاعَين الأوسط والشّماليّ.

إنّها “العَوْدةُ” التي تُعبّر عن صَبْرٍ.. يَعْتَبِرُ منه المُعْتَبرون حقيقةً. وتُعبّر أيضاً، بعنفوانها وبشكلها وبمضمونها – أيضاً – عن إرادة صلبة لا مثيل لها ربّما، أو تكاد تكون كذلك.

عَادَ هؤلاء غيرَ مكترثين بالجراح. عادوا غيرَ مُكتَرثين بالمُرجفين من النّاس، في لبنان وخارج لبنان: أي، غير مكترثين بأولئك الذين قالوا لهم – منذ اللّحظة الأولى – إنّ أمريكا وإسرائيل وناديَهُما وقذائفَهُما وتقنيّاتِهما.. قد جَمَعوا لكم، وسيهزمونكم، فاخشَوهم!

إنّها “العَوْدةُ” التي تُعبّر كذلك عن ثبات لا حدود له، وعن ايمان حديديّ بأهداف المسيرة “المُقاوِمة” وبأهمّيّتها وبصوابيّتها على المدى البعيد.

قبل الدّولة. قبل القوى الأمنيّة. قبل المسؤولين الحزبيّين. قبل القادة. قبل الاعلاميّين: عاد النّاسُ إلى أحيائهم وإلى قراهم وإلى بيوتهم، فارضين نصرَهم فرضاً رُغم أنوف الأعداء والمُرجِفين، ورغم التّكنولوجيا والقنابل الثّقيلة، ورغم الاجرام والدّمار، ورغم المخاطر.

***

بكلّ موضوعيّة، وبعيداً عن التّحليلات المتشعّبة والخلافيّة: في طليعة المَشْهديّة تلك، لقد عبّر “المشهد الشّعبيّ” عن نفسه بنفسه.

لِكَي يحصلَ ما حصل، لم يحتج النّاسُ إلى خطاب قائد أو مسؤول.. على أهمّيّة ذلك وبرغم اشتياق النّاس لخطاب سيّد شهدائهم بالتّحديد.

عَادَ هؤلاء غيرَ مكترثين بالجراح. عادوا غيرَ مُكتَرثين بالمُرجفين من النّاس، في لبنان وخارج لبنان: أي، غير مكترثين بأولئك الذين قالوا لهم – منذ اللّحظة الأولى – إنّ أمريكا وإسرائيل وناديَهُما وقذائفَهُما وتقنيّاتِهما.. قد جَمَعوا لكم، وسيهزمونكم، فاخشَوهم!

ومن الواضح أنّ ذلك الضّغط كلّه، وبرغم استشهاد عدد من القادة العظام: لم يَزِدِ المُؤمنينَ بخطّ “مُقاومة” العدوان الصّهيونيّ على لبنان وعلى منطقتنا.. لم يَزِدْهم إلّا ايماناً، وساروا بشكل بَيّنٍ على قاعدة أن “وقالوا حسبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكيل”.

***

عادَ النّاس، في الأغلب، بأنفسهم إذن. كأنّهم يحملون قيادَتَهم المُرشدة مَعَهم في قلوبهم. كأنّ الشّهيدَ أبا الجِهاد والخِطاب والتَّوجِيه والمُقاوَمة.. بات يُرشد القلوبَ تلقائيّاً، بصوتٍ لَهُ نَغمةٌ ليست كنَغمةِ الأصوات.

يبدو أنّ “السّيّد”، من “حيثُ هُوَ” واستناداً إلى تراكم السّنين من الخطابات والتّعبئة والارشاد: بات يُرشد القلوب قبل أن يُرشد الحواسّ والأعين والأذهان الظّاهرة.

هل هذا هو التّفسير الرّئيسيّ لهذا الموضوع بالذّات.. أي لظاهرة-مفهوم “الشّعب الصّابر الصّامد”؟

ربّما. ولكن أعتقد حقّاً أنّ علينا التّوقّف مليّاً عند هذه الظّاهرة الفريدة، عند هذا المفهوم الذي بُذل الكثير الكثير من العمل والجهد عليه: مفهوم “الشّعب الصّامد”.. والذي شاهدنا هذا الأسبوع أنّه يحتلّ، يقيناً، مركزَ القلبِ من نظريّة “المقاومة” كما وضعها منظّروها وقادتها في لبنان:

  • شعبٌ أو بيئة معيّنة من جهة؛
  • مفاهيم روحيّة وتربويّة وتاريخيّة وسلوكيّة وسياسيّة وتنظيميّة وأمنيّة وعسكريّة.. من جهة ثانية.

أضف إلى ذلك:

  • تشرّبٌ عميقٌ جدّاً، من قِبل أذهان وقلوب تلك البيئة، لهذه المفاهيم؛
  • حتّى تكادُ هذه الأخيرة تُحرّك الجموعَ بشكل شبه تلقائيّ.. وقد يقولُ قائلٌ عند هذا الحدّ: إنّ هذا التّشرّبَ يُصبح من العمق بحيث “يَسمعُ” النّاسُ – أو يكادون – خطابَ القائدِ وتوجيهاتِه من دون أن يُلقى عليهم هذا الخطاب حتّى!

وأضف إلى ذلك طبعاً:

  • جيشٌ ترى أوّلَه ولا ترى آخرَه، يعمل كخليّة نحلٍ عُظمى: من المنظَّمين ومن الاداريّين ومن الاعلاميّين.. هدفه التّأمين اللّوجستيّ، إن شئت، لتطبيق هذه المفاهيم على أرض الواقع اليوميّ.

لا شكّ في أنّ علينا أن نفكّر جدّيّاً بالعودة إلى دراسة هذه الظّاهرة-المفهوم بشكل أكثر تعمّقاً في ما يلي من الأيّام واللّيالي. ولكن، لا شكّ أيضاً في أنّ العدوّ لم يكن يتوقّع وَقعَ هذا السّلاح الجوهريّ المُرعب، ما-بعد-الباليستيّ.. وفي آخر يومٍ من أيّام إطلاق النّار والتّهديدات: إنّهُ، كما رأينا، سلاحُ “الشّعب الصّامد” كما وضعه وطوّره وطبّقه قادةُ هذه المقاومة.

إقرأ على موقع 180  اللبنانيون، بنِعالهم، إلى خرابهم الوطني.. الكبير!

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  طلاّب لبنان إنْ حَكُوا