المُفاجأة السورية.. أكثر من معارضة ونظام!

هل كانت محضَ صدفةٍ زمنية، أن تبدأَ الجماعاتُ المسلّحة هجومَها على سوريا من مدينة حلب في الرّابعة من فجر الأربعاء 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أي في الدّقيقة نفسِها، للسّاعة نفسِها، من اليوم نفسِه، وفي الشهر نفسِه، لبَدء وقفِ العدوان الإسرائيلي على لبنان؟

لا يُمكن لعقلٍ أو منطق الإجابةُ بـ”نعم” على السّؤال الأوّل، نظرًا لتعدّد الأجوبة التي تدحضُ هذه الفرضيّة، بتعدّد الدول المتقاطعة حولَها ما بين متآمِرةٍ ومخطِّطة وممهِّدة ومستفيدة، وإن كان لكلّ منها مصالحها الخاصة، وحساباتها الذاتيّة التي قد تلتقي تارةً، وتنزوي في حيّز الدولة نفسِها طوراً آخر، وإلّا فهل كان كلّ ما جرى خلال الفجر والليالي العشر، بدون علمها المسبَق أمِ العكس هو الصحيح؟

الصحيح هو أن هذه الجماعات كانت تفرقت أيديَ سبأ، بفعل نكساتها في الميدان من جهة، وبفعل احترابها في ما بينها من جهة أخرى، ما جعلَها في حال شتاتٍ من إعادة البحث عن الذّات، وموضَعَها في موقع الفعل “الدّفاعي” عمّا تبقّى لها من فتات، أو تبقّت فيه من ديموغرافيا ليست لها ولا تشبهها، فكيف قُيِّض لها أن تنتقلَ بقدرة قادر، ما بينَ ليلةٍ وضحاها، إلى هذه الحال الهجوميّة الكاسحة خصوصًا على صعيدَيّ العدد (200 ألف مسلّح من جنسيّات عدة ولو أن النسبة الأعلى بينهم من السوريين) والعدّة (مُسيَّرات وأسلحة نوعية) وغيرِها من تجهيزات لوجستيّة تتطلّبها مساحة معركة بحجم سوريا وغزوٍ بسرعة هذا الٱجتياح، بعد أن كانت هذه الجماعات محصورةً في إدلب وبعضِ الجيوب المتفرّقةِ حصرًا في الشّمال والجنوب السوريّين؟

الصحيحُ أيضًا أنّ ما جرى، لم يكن ليحصلَ لو لم تكن هناك اختراقات وتقصيرات استخباراتية وقائية حمائية، وإلّا كيف يُمكن لثاني أكبر مدينة سورية، تُعتبر عاصمة سوريا الاقتصادية، وكلّفت ما كلّفت من دماءٍ لتحريرِها من هذه الجماعات عام 2016، أنْ تسقطَ بيدِها من جديد، بعدَ ثماني سنوات، وخلالَ أقلِّ من 48 ساعة، وٱختفاء حاميَتِها التي منَ المفترض أن تكون مانعةً لسقوط مدينةٍ بهذه الأهميّة الرّمزيّة والاستراتيجيّة والاقتصاديّة ولو بعدَ حين؟ وإذا كان عنصر المفاجأة أحدَ الأسباب – وهذا طبعاً لا يُبرّر سقوط حلب – فما هي مسوّغاتُ سقوط حماه التي تبعُد عنها 160 كلم بهذه السّرعة القياسيّة وصولاً إلى حمص التي تبعد عنها نحو خمسين كلم؟ وكيف سقطت دمشق التي تبعُد عنها 165 كلم بعد ساعات معدودات؟

ليس قصدُ التّعداد جَلدُ الذات، لأنّ الإنهيارَ المتداعي للمدن السّورية لم يكن طبيعيًا كونهُ لم يكن قتاليًّا، ولا ٱستسلامًا عسكريًّا، بقدرِ ما كان تسليمًا بأوامرَ “عُليا” باتت معروفة، فهذه الجماعات لا يمكنُها القيامُ “بالمهمة” منفردة، منذُ إنشائها عام 2011، بٱعتراف كثيرين، فكيف عندما تتقاطع مصالح الدول القريبة منها أو البعيدة عند إزاحة نظام لم يُتقن أبداً لعبة تقديم التنازلات لشعبه الرازح تحت وطأة أزمة معيشية قاسية منذ سنوات، انعكست على أداء الجيش وباقي المؤسسات العسكرية والأمنية بطبيعة الحال.

اليوم لا يُمكن هذه الجماعات أن تقتني هذه الترسانة والخبرة إلا بمعيّة دولٍ خارجية مجاورة وغيرِ مجاورة هي الثّلاثي الإسرائيلي – الأميركي – التركي، ضدّ المثلّث السوري – الإيراني – الروسي. وهذا يعني أن المخطّطَ لا يعني سوريا وحدَها، بل سوريا وأخواتها في تخوم الجغرافيا: لبنان والأردن والعراق الذي قال عنه يومًا وزيرُ الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إنّه “طيرٌ بثلاثة أجنحة يُعيقه الجناحُ الثالث عن الطّيران”. أمّا الأردن فقد تكفّل  زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد صبيحةَ الزلزال السوري بالقول إن الأردن موضوع “تحت المراقبة عن كثب”.

الخطوط الإسرائيلية

وهنا يأتي الحديث عن الحدث إسرائيليًّا، من خلال ثلاثة خطوط:

الخطّ الإسرائيلي الأول هو سوري عبرَ العدوان الإسرائيلي الجوي بالغارات التي لم تتوقّف منذ بَدء حرب سوريا عام 2011، إضعافًا للدولة السورية ودعماً لهذه الجماعاتِ طوال سنواتِ الحرب، التي يؤكد ما يحصل اليومَ أنها لم تتوقّف بقدر ما كانت “ٱستراحةَ محارب”، وهذه صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية تؤكّد أن “الغاراتِ الجوّية في سوريا أوجدت الخلفيةَ والإمكانيةَ لتنظيم المسلّحين هجومَهم على حلب”، وهي غاراتٌ جرى تفعيلُها منذ الساعات الأولى لتسليم دمشق بغاراتٍ على مطار المزّة العسكريّ وأنظمةِ الدّفاع الجويّ ومستودعات الصّواريخ والذّخيرة ومباني المخابرات ومركز البحوث العلميّة في دمشق وريف درعا والقنيطرة وقاعدة “خلخلة” الجويّة في الجنوب السوريّ وصولاً إلى ٱحتلال المنطقة العازلة في الجولان، وٱحتلالِ منطقة جبل الشّيخ وقمّته حرمون وهي أعلى نقطة مُشرِفة على دمشق (2800 م) وإنشاءِ منطقة عازلةٍ أخرى فيها وتوجيهِ تحذيراتٍ لخمسِ بلدات في جنوبي سوريا ودعوةِ سكّانها لملازمة منازلهم حتى إشعار آخَر.. وكلّ ذلك قبل غروب شمس اليوم الأوّل للزلزال السّوري، وهو ما يؤكّد أنّ المطلوب إسرائيليّاً هو رأسُ سوريا كأرض وموقع ودولة أكثر من رأسِ نظام.

الخطّ الإسرائيلي الثاني هو لبنانيٌّ بحت، هدفُه الأساس قطعُ شرايين إمدادِ المقاومة في لبنان بالسّلاح عبرَ الحدود العراقيّة السوريّة ومواكبة ذلك بقطع المعابر بين لبنان وسوريا عبرَ الغارات الجوية، بهدف تجفيف منابعِ سلاح المقاومة ومحاصرتِها بين فكَّي كماشة إسرائيليَّيْن: الأوّل من جهة الجنوب اللّبناني، والثاني من جهة الحدود السوريّة لخفض كلفة العدوان على لبنان وسوريا طوال الحرب عليهما، وبعدَ هدنةِ وقف إطلاق النار في لبنان.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": أميركا والصين.. منافسة إستراتيجية مُدارة!

الخطّ الإسرائيليّ الثالث هو إقليميّ يضعُ الهدفَين المذكورَين في سياقه المؤدّي إلى تنفيذِ أجندة المخطَّط الصِّهيوني بضربِ وتفكيكِ ما تبقى من “دول الطّوق” سابقًا، بعد أنْ حُيِّدَت مصرُ بمعاهدة “كامب ديفيد” (1979) والأردن بمعاهدة “وادي عربة” (1994)، وإن كانتِ المعاهدتان لن تحميَهُما من براثن هذا المخطَّط مستقبلًا، ولكنّ الأولوية الآن لسوريا الركيزة في جغرافية منظومة الممانعة.

الحسابات التركية والأميركية

تركيًّا؛ كانت أنقرة منذ بَدء الحرب الكونيّة على سوريا عام 2011 بوابةَ هذه الحرب لدخول المسلّحين، والمعبرَ لإدخال السّلاح، والدّاعمَ العسكريّ واللّوجستيّ لهذه الجماعات، وتحوّلت مَرتعاً لها ومنصّةً سياسيّة وإعلامية ولا تزال، بهدف ٱقتسامِ الشّمال السوري معَ المحتلّ الأميركيّ في الشّمال الشّرقيّ الذي يحتلّه بذريعة منعِ عودة “داعش” التي هي فكرةٌ أميركية بالأصل، فيما يحتلّ التركيُّ الشّمالَ الغربيّ تحت ذريعةِ القلق منَ المكوِّن الكرديّ فيه، ولهذا ألح الرئيسُ التّركيّ رجب طيب أردوغان على الوسطاء الإيرانيين والرّوس طيلةَ العام الماضي على قمة مع نظيره السوري هدفها إصلاحِ ذاتِ البَين بينَ البلدين، غير أن دمشق أصرت على مطلب الٱنسحاب التركي من الأراضي السّورية شرطًا لٱستئناف العلاقات بينَ البلدين، فكان الٱنتقامُ التّركيّ عبرَ جماعات المعارضة المسلّحة من خلالِ هجومِ تصفيةِ الحساب بتخطيطِ وزير خارجيّته حقان فيدان الذي كان مديرًا ناجحًا للٱستخبارات التّركيّة (2015 – 2023) متخصّصًا بتعقيدات وتفاصيل السّاحة السّوريّة وهو ابن عائلة كردية بالمناسبة.

أميركيًّا؛ تقول حساباتُ الميدان إنّ واشنطن لم تنسَ الرّدّ على الفشل الٱستراتيجيّ لمخطَّطها في إسقاط سوريا منذ العام 2011 والرّدّ على الٱستهدافات المتواصلة لقوّاتها في الشّمال الشّرقيّ السّوري، والتي زادت وتيرتُها في الآونة الأخيرة، مستغلةً الإنشغالَ الروسيّ بالتصعيد الغربيّ في أوكرانيا، ولهذا لم يكن مفاجئًا تطعيمُ غرفة العمليّات المشترَكة السوداء للزّلزال السّوري، بضّبّاط أوكرانيين وبإشرافٍ أميركيٍّ مفارقتُه أنَّ ميليشيا “قسد” المسلّحةَ من وزارة الدّفاع الأميركيّة (البنتاغون) تقاتل جماعاتِ “النّصرة”  المسلّحة من وكالة الٱستخبارات الأميركيّة “سي. آي. إيه” (Los Angeles Times) فيما تقود الحساباتُ السّياسيّة إلى أنّ الإدارةَ الحاليّة تسعى في أيّامها الأخيرةِ إلى تسجيل إنجازاتٍ سياسيّة، بَدءًا منَ الظّهور بمَظهر المقرِّر لوقف إطلاق النّار في لبنان، مرورًا بِـ”الإنجاز” في سوريا وتحضيرِها للتفكيك أو للٱستسلام، وقطفِ ثمار “قانون قيصر” الأميركي الذي يحاصرُها منذ العام 2019 وصولًا إلى محاولة فرض تسويةٍ مماثلة في غزّة، قبَيلَ التّفرّغ للضّفة الغربيّة.

نهايةُ الكلام بدايتُه؛ “كوريدور” يُراد له أنْ يشقَّ البيتَ السّوريّ من وسطِه، بَدءًا من حلب، مرورًا بحماه، ثمّ حمص، فدمشق، ليتفرّع منه غرفٌ شتّى، إمّا حربٌ وحروبٌ أهليّة، أو دويلاتٌ متناحرةٌ قوميّة، تُعيدُها إلى تقسيمها إبان ٱستعمارها إلى خمس دويلات، وإمّا دويلة سوريّة ضعيفة، تابعةٍ للفلك الأميركي، خاضعةٍ للتّطبيع الإسرائيلي في أحسن الحالات، وعندَها تكونُ سوريا ولبنان أمامَ مرحلةٍ جديدةٍ لِـ”ردع العدوان”.. وهذه قراءة بالسياسة لا تتناقض بالضرورة مع إرادة كل التوّاقين للحرية في كل زمان ومكان.

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  تقدير إسرائيلي: حزب الله يواجه "الإنهيار" بتعزيز قبضته لبنانياً