تطرح مشكلة إنتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية سؤالاً حول نوع النظام اللبناني وكيفية عمله. فبحسب الدستور اللبناني، تنص المادة 49 على إنتخاب رئيس الجمهورية بأكثرية الثلثين من العدد الإجمالي للنواب في الدورة الأولى، ومن ثم بالأكثرية المطلقة في الدورة الثانية، على أن يتوفر نصاب الثلثين لهذه الجلسة، حسب العرف الدستوري المعمول به.
إنّ غياب التوافق والتفاهم على إسم رئيس الجمهورية وإستخدام بعض الأطراف السياسية – أكانت تكتلات حزبية أم طائفية – حق النقض (الفيتو)، عبر تعطيل الجلسة بتطيير نصابها، يطرح سؤالاً جوهرياً عن كيفية فهم النخب السياسية اللبنانية للنظام اللبناني: أهو نظام توافقي أم تشاركي؟
تعتمد الأنظمة الديموقراطية التوافقية على مبدأ التوافق التام لجميع المواضيع المطروحة على طاولة السلطة التنفيذية. لذلك، ليس هناك أي مادة دستورية تذكر التصويت والنصاب في هكذا أنظمة. يذكر المفكر السياسي الأميركي أرند لايبهارت في كتابه الشهير (أنماط الديموقراطية)، حوالي عشر خصائص لهذه الأنظمة، منها وجود حركة نقابية فاعلة تستطيع التأثير على السلطة التنفيذية؛ حكومات مناطقية أو فدرالية تستفيد من لامركزية موسعة؛ وجود مجلسين في السلطة التشريعية؛ وإستقلال تام وفاعل للمصرف المركزي.
الطبقة السياسية في لبنان تريد تطبيق الديموقراطية التوافقية على نظام سياسي تشاركي في جوهره. النتيجة أن الأحزاب تسعى – وتنجح – لإستخدام حق النقض (الفيتو) عبر نسف النصاب لتعطيل أي جلسة لا تكون النتيجة فيها مضمونة سلفاً لطروحاتها، وذلك مرده أن النخبة تتراجع عن مبدأ قبول النظام التشاركي وتحتكم إلى التوافق لتحمي مصالحها
في الحقيقة، تغيب هذه الصفات بطريقة أو بأخرى في تجربة النظام التشاركي اللبناني. ففي بلاد الأرز، ثمة سلطة مركزية يحكمها إئتلاف يكون في أغلب الأوقات تحالفاً عريضاً يُغلّب طابع التنافس والكيدية السياسية على التوافق والتفاهم، كما الحال في ملفات عديدة منها الكهرباء والإنماء المتوازن بين المناطق والنقل المشترك إلخ..
وبرغم ضرورات التوافق الوطني والإجماع، كما ورد في الدستور (المادة ٦٥)، إلا أن المادة نفسها تفتح الباب للتصويت على قرارات مختلفة بأكثرية الحضور في الجلسات القانونية عندما يكون نصاب الثلثين متوفراً. لذلك، يسمح النظام السياسي اللبناني بالتشارك عندما يتعذر التوافق. حتى المادة نفسها تسمح باتخاذ القرارات بأكثرية الثلثين في المواضيع الحساسة كالحرب والسلم، التعبئة العامة، تعيين موظفي الفئة الأولى، قانون الإنتخابات وغيرها. وتسمح بالتصويت على القرارات بالأكثرية المطلقة من الحاضرين في جلسة قانونية يحضرها ثلثا الوزراء. لذلك، يُستبدل التوافق بالتصويت بما يسمح للأكثرية والأقلية بتظهير نفسيهما بإسثناء بعض الحالات التي حدّدتها المادة ٦٥ من الدستور والتي تحتاج إلى أكثرية استثنائية.
وتكمن المشكلة في لبنان في أن الطبقة السياسية تريد تطبيق الديموقراطية التوافقية على نظام سياسي تشاركي في جوهره. النتيجة أن الأحزاب تسعى – وتنجح – لإستخدام حق النقض (الفيتو) عبر نسف النصاب لتعطيل أي جلسة لا تكون النتيجة فيها مضمونة سلفاً لطروحاتها، وذلك مرده أن النخبة تتراجع عن مبدأ قبول النظام التشاركي وتحتكم إلى التوافق لتحمي مصالحها. وبذلك تتناقض المواقف السياسية، فمن يستطيع الحفاظ على مصالحه عبر التشارك في مرحلة معينة سيعمد إلى حشر الجميع بحجة التوافق في مرحلة لاحقة، والدليل أنّه منذ 19 عاماً بقي البلد لمدة ما يقارب الخمس سنوات من دون رئيس للبلاد وحوالي 4 سنوات ونيف تُديره حكومات تصريف أعمال تنتظر توافق الأطراف المعنية لتشكيل حكومة جديدة في عهد الرئيسين ميشال سليمان وميشال عون. فهل سنصل يوماً إلى بر الأمان ونُطبّق تشاركية السلطة كما ينص عليها الدستور اللبناني، بدل التوافق كما يبتدعه البعض؟
(*) هذا المقال جزء من بحث للكاتب تم تمويله عبر Swiss Network for International Studies