سؤالٌ غريبٌ: هل من المهمّ.. “أن نَكون على حَقّ”؟

ليس هدف هذا السّؤال هو الاستفزاز، أو التّعجب للتّعجّب، أو الاثارة لمجرّد الإثارة. بل هو سؤال جوهريّ في حقيقة الأمور وفي باطنها، مع أنّ عقلنا المعاصر بالذّات، خصوصاً تحت تأثير "عصر الأنوار" (Les Lumières) الأوروبيّ وأبرز شيوخه الكبار: قد يعتبر هذا السّؤال غريباً جدّاً على الأرجح، بل ومستهجناً ومجنوناً ربّما.

هل يُمكن التّشكيك بأهمّيّة، بل وبضرورة، أن “نكون على حقّ” (Avoir raison)، وذلك في كلّ مجالات الحياة ومواضيعها ومسائلها وأسئلتها اليوميّة وغير اليوميّة: ديناً، وفلسفةً، وأيديولوجيّةً، وأخلاقاً، ونظريّاتٍ علميّةً، وسياسةً، واقتصاداً، وذوقاً، وفنّاً ربّما.. إلى ما هنالك من مجالات ومواضيع لا تنتهي في دنيا الانسان وحياته على هذه الأرض؟

نعم، هناك حكماء ومفكّرون كبار وعظام حول العالم.. يُشكّكون في هذه “الحقيقة” كما يُظهرها لنا “ذهننا” (Mental / Mind) أبي الأفكار والتّصوّرات والمفاهيم.

فمِن أين، إذن، يأتي هذا التّشكيك؟ أو من أين تأتي هذه الفكرة الغريبة والعجيبة؟ كيف لا نمضي كلَّ ثانية وكلَّ دقيقة من حياتنا.. من دون أن نحاول أن نُثبت لأنفسنا وللآخرين.. بأنّنا “على حقّ” هنا وهناك والآن وغداً بل ودائماً ودوماً؟ ما هذا الجنون وما هذا العجب، بل ما هذا الانحراف المُبين.. بحسب عقلنا المُهَيمن حاليّاً بالذّات؟

***

لاحظ معي هَوْلَ القضيّة جيّداً، بالنّسبة إلى عقلنا المُهيمن حاليّاً.. في الشّرق وفي الغرب إذن.

ذِهننا، أي ذلك المستوى أو الجانب من الوعي الذي يبني التّصوّرات والمفاهيم بشكل أساسيّ: يقوم عَمَلُهُ، أيضاً بشكل أساسيّ، على الإثنينيّة والضّدّيّة كما شرحنا في السّابق من القَول والمَقال.

مع التّبسيط: المَفهوم يُفهم، عموماً، من خلال حَدٍّ أو مُقابلةٍ مع مَفهوم آخر. هل يَفهم ويُفهِم ذهننا بغير هذه الطّريقة عموماً؟

إذن، وبما أنّنا تناولنا هذه الجوانب في مقالات سابقة، لنقل ما يلي: باختصار، يقوم عمل ذهننا، في جوهره، على الحدّ والتّمييز والتّحليل والمُقابلة والمُقارنة (إلخ.) بين التّصوّرات (المفاهيم) التي يبنيها حول الأشياء والحقائق (بشكل لا-اراديّ أو بشكل اراديّ طبعاً).

ولذلك، بحسب هذه النّظرة “الذّهنيّة” إن شئت: فمن الصّائب جدّاً الادّعاء بأنّ الذي لا “يُريد أن يكون على حقّ” من خلال المفهوم الذي يبنيه – من خلال ذهنه إذن – حول هذه المسألة أو حول تلك المسألة (أو حول هذا أو ذلك الشّيء).. هو إمّا واهمٌ أو مجنون.

***

تتجلّى هذه النّقطة، بوضوح أكبر، عندما ندخل في القضايا العقائديّة-الأيديولوجيّة أو الأخلاقيّة تحديداً:

-هل أنا على حقّ؟ أي: هل تصوّري هو المُحقّ.. أم تصوّر فُلان بن فُلان؟

-هل مفهومي عن الوجود على حقّ.. أم مفهوم فُلان بن فُلان؟

-ماذا عن مفهومي حول “الله”؟

-مَن منّا على حقّ: تصوّري “أنا” أم تصوّرك “أنت”.. أو “هو” أو.. هذه “الجماعة” أو “تلك”؟

-ماذا عن مفهومي، الذي بناه ذهني إذن: حول “الخلاص”، أو حول “الفوز العظيم”.. أو حول “النّجاة من العذاب لمن نجا”؟

-ماذا عن مفهومي حول ما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ؟

-ماذا عن مفهومي حول ما هو “مُثبت علميّاً” وما هو “غير مُثبت علميّاً”؟

-ماذا عن مفهومي حول ما هو خَيّر أو شِرّير؟ ماذا عن مفهومي حول ما هو أخلاقيّ.. وما هو غير أخلاقيّ؟

-ماذا عن مفاهيمي وأحكامي حول: ما هو حَسَنٌ؛ وما هو جَميلٌ؛ وما هي القِيَم المُرتجى تبنّيها على المستوى الفرديّ والجَماعيّ؛ وما هو أفضل لي وللمجتمع: ثقافيّاً واجتماعيّاً وتربويّاً واقتصاديّاً.. إلى آخر القائمة التي لا تنتهي؟

***

باختصار: هل هذا المفهوم هو “الصّحيح” أم ذاك؟ هل هذا المفهوم هو “على حقّ” أم ذاك ؟

هل “أنا” على حقّ.. أم “أنت” الذي على حقّ؟ هل “نحن” على حقّ.. أم “أنتم” الذين على حقّ؟

***

أمام هذا النّوع من السّؤال – الأسئلة، لا شكّ في أنّ ذهنك سيثور ثورة كبرى ويُجيب: بالله عليك.. مفاهيمنا هي التي على حقّ.. طبعاً!

أو، إن لم يَكن مقتنعاً تماماً في حُكمه حول مسألة مُعيّنة، سيقول لك: لنحسِّن مفهومَنا الفلانيّ، أو لنبنِ مفهوماً آخر.. علّنا “نكون على حقّ”! لكن.. يجب أن نكون على حقّ!

وسيُضيف ذهننا: لا تقُل لي إنّه يُمكنك الاطمئنان و/أو النّوم.. وأنت تشعر بأنّك لست على حقّ في أيّ مسألة من المسائل، خصوصاً المسائل الكبرى حول الوجود والمَوجود والأخلاق والموت والخلود؟ ما هذا الهذيان؟ بالتّأكيد.. يجب أن تكون على حقّ!

اسأل من شئت: أكثر الأديان في ظاهرها أقلّه؛ أهل الشّرائع؛ أرسطو، كونفيشيوس، ابن سينا، ابن رشد، الأقوينيّ، ديكارت.. بل كانط وهيغل وماركس! ما الذي دهاك: يقيناً، يجب أن تعمل ليل نهار، من خلال وظائف ذهنك الأساسيّة.. لكي تكون على حقّ، قدر الإمكان أقلّه!

يقول الذّهن إذن، خصوصاً في عصرنا: “يجب أن نسعى لكي نكون على حقّ” في أيّ مسألة من المسائل. يجب أن نكون محقّين وعلى حقّ (بل على.. الحقّ): ونقطة على السّطر!

***

لماذا نطرح هذا التّساؤل إذن اليوم؟

أوّلاً؛ علينا أن نعلم جميعاً أنّ هناك مذاهب روحيّة وفلسفيّة وسيكولوجيّة عديدة، قديمة وحديثة.. لا تعتقد أنّ “كون الفرد-الإنسان على حقّ” مهمٌّ في إطار درجة مُعيّنة – أو على “مَوجة” مُعيّنة – من الوعي.

مع التّبسيط: كلّما تعالى وعيُك واتّسَع.. تَخرج من هذه الضّدّيّة، أو من هذه “الجَدَليّة” إن شئت، في المبدأ.

مُهمٌّ، على موجة معيّنة من الوعي.. أن نسعى لنكون على حقّ، وحتّى أن نُدافع عن “كوننا على حقّ” في جميع المسائل.

لكن، ليس “الأهمّ”.. هو أن نكون على حقّ.

“ما هو مُهمّ” في حقيقة الأشياء وباطنها: متواجد في سياق آخر، حسب هذا الاعتقاد نفسه.

لنُسمِّ من بين هذه الشّخصيّات والمدارس والمذاهب، إذن، على سبيل المثال لا الحصر:

  • الكثير من الطّرق الرّوحيّة الشّرق-آسيويّة، وعلى رأسها التّقاليد والطّرق التّأمّليّة اليوغيّة (أو اليوجيّة؛ من Yoga)؛
  • الكثير من التّوجّهات الرّوحانيّة القديمة (جدّاً) حول العالم (اقرأ مثلاً حول العادات الشّامانيّة القديمة: Le chamanisme)؛
  • ما نُسمّيه في أيّامنا خصوصاً: بالطّرق الـZen (المتأثّرة بالشّرقيّين أيضاً)؛
  • الكثير من الطّرق والمدارس الصّوفيّة (Mystiques) بما فيها داخل اليهوديّة والمسيحيّة والاسلام (ولو بنسب متفاوتة من الحذر والاحتياط)؛
  • بعض الأسماء العرفانيّة والفلسفيّة الكبرى، ولو بنسب متفاوتة من التّأييد. مثلاً: بعض جوانب فكر أفلاطون طبعاً، بعض جوانب العقائد النّيو-أفلاطونيّة يقيناً، أهمّ جوانب نظرة ابن عربي للمعرفة الحقّ إلخ.. بالإضافة، طبعاً، إلى أسماء مشهورة جدّاً في عصرنا ومنهم شيخ المُدرّبين الشّخصيّين الرّوحيّين، وGuru الكثير من المعاصرين.. ديباك شوبرا (Deepak Chopra).

يُمكننا أن نفهم بسهولة، كيف أنّ القوّة الأساسيّة التي تتحرّك من خلال هذا البُعد من الوعي هي تلك القوّة التي تسير بعكس قوى الحدّ والعدّ والضّدّ. إنّها القوّة التي نُسمّيها عادةً بالحُبّ (Amour). لا يحكم الحُبّ المتعالي على الأشياء والحقائق، ولا يُميّز بينها، ولا يجهد في سبيل فصلها وتمييزها وتحليلها.. بل إنّه القوّة العُظمى التي تجهد للتّقريب بينها، بل للتّوحيد المُطلق بينها

ثانياً؛ يعتبر أصحاب هذه النّظرة، بشكل عامّ أيضاً: أنّ النّفس الإنسانيّة، أو بالأحرى “الوعي” الإنسانيّ (لكي نبقى ضمن إطار المصطلحات الأكثر معاصرة والأكثر “آسيويّة” عمليّاً).

إقرأ على موقع 180  المبادرة الصينية.. فُرصُ نجاحها وفشلها

إذن، “يعيش” هذا الوعيُ في بُعدَين معاً، أو ضمن نشأتَين كما يُعبّر أهل التّصوّف عادةً. البُعد الأوّل لوعي الإنسان لا يستطيع أن يُدرِكَ إلّا الجزء السّطحيّ من الوجود أو الموجود. الذّهن هنا، هو الأداة المركزيّة للوعي.

أمّا البُعد الثّاني من وعي الانسان، فهو الأكثر تعالياً، والأوسع، والأشدّ قُدرة على معرفة الأشياء على حقيقتها الباطنة وليس فقط الظّاهرة.

بحسب هؤلاء وبشكل عامّ: إنّ نسبة ما يُمكن أن يُدركه الذّهن من العالم الحقيقيّ.. ضئيلة جدّاً. يتحدّث بعض المعاصرين، من أمثال البروفيسور المغربيّ عزيز العمرانيّ الجوطيّ، عن ٠.٠١٪ أو ٠.١٪ أو ١٪ في أحسن تقدير ربّما. ويذهب آخرون طبعاً إلى أقلّ من ذلك بكثير، مستعينين على غرار الجوطيّ بأدوات واكتشافات العلوم الحديثة.

أمّا الوعي ضمن البُعد الآخر (الحقيقيّ، أو الباطنيّ، أو الحدسيّ-الرّوحيّ، أو المتعالي إلخ.): فهو الذي يُمكنّك، حسب هذه المدارس، من ادراك أغلب الحقائق. هو الذي يُدنيك من معرفة الأشياء “على حقيقتها”.. إن صحّ التّعبير.

ولكنّ المعضلة أو الاشكاليّة تكمن في هذه النّقطة تحديداً: إنّ هذا البُعد من الوعي، والذي وصل إليه الانسان من خلال تجارب ألفيّة قديمة جدّاً، وقد بدأ بالوصول إليه أيضاً من خلال عدد من التّجارب العلميّة الحديثة.. لا يَعمل كالبُعد “الذّهنيّ” من الوعي (أو كالذّهن). الاشكاليّة الرّئيسيّة تكمن في أنّه، أي هذا البُعد المقصود من الوعي، لا يَعمل من خلال الأدوات التي سمّيناها آنفاً: كالحدّ والتّمييز والمقابلة والمقارنة والتّحليل الخ.

إنّه بُعدٌ من الوَعي لا “يرى” أو لا “يُدرك” إلّا من خلال.. الوحدة أو الواحديّة. الأدوات المذكورة كلّها تقتضي الاثنينيّة والضّدّيّة والكثرة كما رأينا. أمّا “هذا الوعي”، فهو يرى الأشياء والحقائق من زاوية الواحديّة: أي، إن شئت، من زاوية أنّها مجرّد جزء.. من الواحد.

يرى هذا الوعي مثلاً: الطّاولة الفلانيّة، لا على أنّها “ماهيّة” مُنفصلة عن غيرها من “الماهيّات”.. بل على أنّها جزء من الوجود ككلّ، على أنّها تجلّ للوجود الواحد. كذلك بالنّسبة إلى كلّ الأشياء، وإلى كلّ الأفراد، وإلى كلّ الحقائق.

ومن هنا، يُمكننا أن نفهم بسهولة، كيف أنّ القوّة الأساسيّة التي تتحرّك من خلال هذا البُعد من الوعي.. هي تلك القوّة التي تسير بعكس قوى الحدّ والعدّ والضّدّ. إنّها القوّة التي نُسمّيها عادةً.. بالحُبّ (Amour). لا يحكم الحُبّ المتعالي على الأشياء والحقائق، ولا يُميّز بينها، ولا يجهد في سبيل فصلها وتمييزها وتحليلها.. إلى ما هنالك. بل إنّه القوّة العُظمى التي تجهد للتّقريب بينها، بل للتّوحيد المُطلق بينها.

***

بحسب هذه النّظرة قيد النّقاش إذن، وفي حدود قدرة التَّعابير على إيصال المعنى حقيقةً: الأهمّ، لا “أن تكون على حقّ” في حُكمك على هذا الأمر أو ذاك، على هذا الشّيء أو ذاك، على هذه الظّاهرة أو تلك، على مفاهيم هذا الفرد أو ذاك (إلى ما هنالك)..

الأهمّ هو أن تستطيع “رؤية” هؤلاء جميعاً، “إدراك” هؤلاء جميعاً: من زاوية/على أنّهم واحدٌ معك، أي من زاوية الواحديّة. وعندما ترى الموجودات، والوجود ككلّ، من هذه الزّاوية.. تصل إلى ما يجب الوصول إليه من خلال وعيك.

أي: تصل إلى حقائقها جميعاً، وتصلك “الرّسالة” التي يجب أن تصلك حول كلّ شيء.

من هذا المصدر وحده عمليّاً، بحسب هذه النّظرة: تصل “الرّسائل” التي يجب أن تصل إلى وعينا الفرديّ، وربّما الجماعيّ، وبلا جهد ذهنيّ وتَفكّر.. و”تحليل” لا يُعوَّل عليه غالباً.

***

نحن بالتّأكيد أمام نظرة مُختلفة بشكل راديكاليّ عن نظراتنا المُعتادة والمُهيمنة.. خصوصاً في هذا العصر. ولكن، كما يقول حكماؤهم وعرفاؤهم: قد يكون الأصل في هذه الأمور.. تذوّقها.

لذلك، أدعوك قارئي العزيز، إذا أردت، أن تُحاول في يومٍ من الأيّام.. أن تجلس، وتأخذ فترة قصيرة من الرّاحة والتّأمّل خلال نهارك. حاول فيها أن تتخلّى عن معارك ذهنك، لا سيّما المتعلّقة بإثبات “أنّك على حقّ” في هذه المسألة أو تلك.

حاول هجر هذه الأفكار لبُرهة من الزّمن. قل لنفسك: ليس من الضّروريّ أن أكون على حقّ مع مفاهيمي وتصوّراتي “أنا”، ولا مع زوجي، ولا مع أولادي، ولا مع رفاقي، ولا مع زملائي، ولا مع حلفائي، ولا مع أعدائي.. إلى آخر القائمة.

حاول، لبُرهة، أن تهجر هذا الصّراع. وألّا تركّز على الأفكار التي تنتج عنه بشكل خاصّ.

ثمّ حاول التّركيز على أيّ شيء آخر، ليس من عالم الأفكار: تنفّسك مثلاً؛ جسدك؛ ما تشعر به من أحاسيس.. أو ربّما ذكرك “للّه” أو لأحد “الأسماء” الإلهيّة.

امضِ في هذا الطّريق غير المُعتاد لبُرهة.. لا شكّ في أنّك سوف تبدأ بالشّعور بتواجد بُعدٍ آخر من الوجود معك. وقد تبدأ بعض الإشارات و”الرّسائل” تصلك من غير جهد ولا توقّع.. لافتة نظرك إلى أنّ “الأهمّ” هو في مَكان “آخر”، ليس كالمَكان:

خارج مضمار كلّ الأفكار، كلّ مفاهيم الخير والشّر، الفضيلة والخطيئة.. هناك سهلٌ واسعٌ بلا نهاية..

سألقاك هناك.

(منسوب في المشهور إلى سلطان العاشقين، البلخيّ الرّوميّ “مولانا” جلال الدّين).

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الرّد على سبينوزا.. الإنسان حُرٌّ لأنّ الله "حُرّ"! (٤)