يروي الرئيس الفرنسي جاك شيراك انه هو من اختار الرئيس اللبناني السابق اميل لحود لرئاسة لبنان، وذلك بالتنسيق مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد قبل أن ينقلب على الاثنين في أعقاب التمديد للحود وتفاقم الضغوط على صديق شيراك اللبناني الأول الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
يقول شيراك في مذكراته “حرص حافظ الأسد على استشارتي في كانون الأول/ديسمبر 1998 حيال تعيين الرئيس اللبناني المقبل. وطلب مني أن أرسل له خمسة أسماء يختار من بينها، فوضعت بينها اسم الجنرال إميل لحود الذي كان يتمتع بسمعة طيبة وتم فرضه في نهاية الأمر من قبل دمشق”.
شيراك استقبل بشار الأسد إستقبال الرؤساء قبل عام من وصوله إلى سدة الرئاسة السورية، وكان الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر مراسم جنازة حافظ الاسد
بعد وفاة الأسد الأب، أعلن شيراك ما يشبه التبني السياسي لبشار الاسد، وهو يروي في مذكراته أن حافظ الأسد اوكله بذلك وطلب إليه مساعدة الرئيس المقبل لسوريا، وهو لم يقصر، فاستقبل بشار الأسد إستقبال الرؤساء قبل عام من وصوله إلى سدة الرئاسة السورية، وكان الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر مراسم جنازة حافظ الاسد، لكن شهر العسل الفرنسي ــ السوري، سرعان ما تحول إلى علقم بعد التجديد للحود في لبنان، ذلك أن شيراك كان يقف بقوة إلى جانب صديقه وحليفه العربي الأول رفيق الحريري الرافض للتمديد.
بلغت صداقة شيراك والحريري حدود قول الأول حرفيا لحافظ الأسد “أن موارنة لبنان خذلونا، وانا واياك نستطيع ان نقيم علاقة استراتيجية عالية ويمكن لدورينا أن يتكاملا في لبنان، حيث صديقنا رفيق الحريري أسس لتحالف جديد بين العرب المسلمين وبين فرنسا للمرة الأولى في تاريخ علاقتها بلبنان”.
لكن وقوف شيراك ضد الحرب الأميركية البريطانية على العراق، جعله لاحقا يبحث عن وسيلة لاستعادة علاقات متوترة وصعبة مع جورج بوش الإبن، فكان أن اتفق معه على إصدار القرار 1559 في النورماندي لإخراج الجيش السوري من لبنان وتطويق ما يصفه بـ “الهلال الشيعي”.
نجد الكثير من هذه التفاصيل في كتاب “سر الرؤساء” لمؤلفه الفرنسي فنسان نوزي. هذا الكاتب الواسع الإطلاع يروي كيف أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش أبلغ شيراك في أيلول /سبتمبر 2003 على هامش دورة اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة : “قل لبشار الأسد إني شرير أُحادي التصرف”، وكيف أن الخارجية الأميركية وصفت في حينه الرئيس السوري بأنه “يتصرف كناصري جديد، ويبحث عن موقع البطولة في العالم العربي”، ويجب الحد من طموحه.
ويكشف الكاتب أنه منذ الأشهر الأولى من العام 2004، راح قصر الاليزيه يعرب عن بواكير رغباته بالتقارب مع واشنطن حول الملف اللبناني ـ السوري، فيقول شيراك لأعضاء مجلس الشيوخ الأميركي في آذار/مارس 2004 : “يجب مساعدة لبنان على التخلص من الوصاية السورية”، ثم يقول لبوش في خلال العشاء الذي جمعهما في 5 حزيران/يونيو 2004 : “هناك انتخابات رئاسية ستجري في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر، وسيكون في الأمر انطلاقة جديدة للبنان لو أصبح رئيسه من دون وصاية سورية”. وطالب شيراك بفرض عقوبات على سوريا لدفعها للانسحاب من لبنان.
وفق الكاتب، فإن الحريري قرأ القرار 1559 قبل إصداره، وشيراك الذي وجد في الملف اللبناني فرصة للمصالحة مع أميركا بعد الشرخ الذي أحدثه رفض فرنسا حربها على العراق، راح يرسل مرارا مبعوثه موريس غوردو مونتانيو إلى واشنطن للقاء وزيرة الخارجية كوندليسا رايس وعدد من المسؤولين الأميركيين، وكانت اللقاءات الأبرز في 19 و20 آب/أغسطس 2004.
قال شيراك صراحة لرايس التي كان يتصل بها مرات عديدة في الأسبوع الواحد إن القرار 1559 “سيجعل المتشددين في دمشق في وضع هش ويعطي الذرائع للمعتدلين للتشكيك بقدرات النظام وتوجهاته، ولن تكون لنا أية مصلحة في أن نرى في الشرق الأوسط هلالا شيعيا من إيران إلى حزب الله مرورا بالعراق وسوريا “.
لم تمض ساعات على اغتيال الحريري، حتى قررت كل من واشنطن وباريس ومن خلال سفيريهما في بيروت جيفري فيلتمان وبرنار ايميه بأن سوريا “هي القاتلة”. وفي الوقت نفسه، كان الرئيس المصري حسني مبارك يتصل مرات عديدة بشيراك ليؤكد له أن الجريمة “تحمل توقيع سوريا”، ويجاريهم في الأمر مساعد وزير الدفاع الأميركي بول ولفوويتز أحد صقور المحافظين الجدد. في الإدارة الأميركية.
وبما أن الاتهام الأميركي ـ الفرنسي ـ المصري صدر قبل أن تظهر أية معلومات حول الجهة القاتلة، فإن آلة تكريس التهمة تبدأ سريعا بالعمل، فها هو شيراك، المشتعل غضبا ضد سوريا، يقول لبوش في خلال العشاء بينهما في 21 شباط/ فبراير في بروكسل: “من الضروري، إطلاق لجنة تحقيق دولية للكشف عن المخططين والمنفذين”.
هنا تحديدا، بدأ الرئيس الفرنسي السابق يعتقد بأن النظام السوري آيلٌ إلى السقوط، فيكتب بخط يده وبقلم أسود وتحته سطر بالأحمر: “حين ندفع النظام السوري إلى الفشل حول القضية اللبنانية، يمكننا أن نصيبه في المقتل، وقد بدأنا فعلا هذا المسار، ويقيني أن سوريا لن تتراجع إلا إذا أخفناها وسببنا لها الأذى”، مضيفا “من يعرف كيفية عمل النظام الطائفي في سوريا لا يشك مطلقا بأن قرار (اغتيال الحريري) قد اتخذ من قبل بشار الأسد، وكل فرضية أخرى ليس لها أي معنى”.
يقين شيراك بقرب انهيار النظام السوري، اقترن بخشيته من أن أي مواجهة مباشرة مع الأسد “ستؤدي إلى تضامن عربي مع دمشق”، فيجيبه بوش قائلا “أنا موافق معك، يجب عدم مواجهة سوريا مباشرة، وعلينا المرور عبر لبنان، ولكن كيف يمكننا الوصول إلى هذا الهدف”. يكرر شيراك ضرورة قيام لجنة تحقيق دولية، معتبرا أن ذلك يقوي شوكة المعارضة اللبنانية لسوريا، ويشدد على وجوب عدم مزج الملف اللبناني ـ السوري مع مسيرة سلام الشرق الأوسط “لأننا بذلك نخسر الشيعة الذين سينضمون إلى العلويين”.
هنا، يجيبه بوش بأنه سيمرر رسالته هذه إلى الإسرائيليين ويسأل عما إذا كان من الممكن خروج السوريين من لبنان من دون أن يؤدي الأمر إلى حرب أهلية لبنانية، فيطمئنه شيراك بأن الحل يكمن في تطبيق القرار 1559 قائلا “سيكون القرار قاتلا للنظام السوري، خصوصا إذا ما أضيفت إليه عقوبات قاسية على هذا النظام”.
وتقترح رايس التي كانت حاضرة في ذاك الاجتماع أن يكون للمبعوث الدولي تيري رود لارسن دور في ذلك (لاحقاً صار ناظر القرار 1559).
فرنسا أوفدت سفيرها في لبنان برنار ايميه سرا للقاء الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، فتلقى جوابا مفاده أن المقاومة مستمرة وأنــه يجب عـدم المساس بسوريا.
ويكشف الكاتب الفرنسي كيف أن باريس وبالتشاور مع واشنطن سعت لإبعاد حزب الله عن دمشق، لا بل إن فرنسا أوفدت سفيرها في لبنان برنار ايميه سرا للقاء الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، فتلقى جوابا مفاده أن المقاومة مستمرة وأنــه يجب عـدم المساس بسوريا.
والغريب أن شيراك أظهر تشددا ضد سوريا أكثر بمرات مما كان عليه أمر جورج بوش، فما أن يعلن الرئيس الأسد الرغبة بالانسحاب من لبــــنان، حتى يســـارع سيد الاليزيه للقول لبوش “إن هذا غير كاف فالأسد سيحتفظ بنـــقاط إستراتيجية في لبنان”، ويجب مواصلة الضغط عليه وإقناع حزب الله بالابتعاد عنه، ويقول شيراك صراحة “إذا حصلنا على انسحاب السوريين وعلى فقدان سيطرة سوريا على لبنان سينهار النظام السوري، وستقود الديموقراطية في سوريا الغد إلى وصول السنة والمسيحيين إلى السلطة، وهو ما سيدق مسمارا في الهلال الشيعي”..
وحين يستقبل الرئيس الفرنسي ضيفته الأميركية رايس في 14 تشرين الأول/اكتوبر 2005 يؤكد لها بيقين مطلق أن “النظام السوري يتحلل، ولن يستطيع مقاومة الضغط المزدوج، والمتمثل من جهة باستقلال لبنان المناهض لمشروع إقامة سوريا الكبرى، ومن جهة ثانية بالتناقضات داخل الأقليات… وإن فرض عقوبات على سوريا سيؤدي حكما إلى إسقاط النظام”.
وفي اللقاء نفسه، تنضج الطبخة الفرنسية الأميركية لإنشاء المحكمة الدولية بغية ملاحقة قتلة الحريري، وذلك بعد أن تؤكد رايس على ضرورة استصدار قرارين ضد سوريا، الأول، يشدد على عدم تعاونها مع لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس، والثاني، على تصرفاتها بعد تقرير تيري رود لارسن، ولم تمض أسابيع قليلة حتى طلبت حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة من الأمم المتحدة إنشاء تلك المحكمة، متجاوزة مجلس النواب وكذلك اللجنة الثنائية المشتركة التي تم تشكيلها بين حزب الله (الحاج حسين خليل) وتيار المستقبل (الوزير السابق بهيج طبارة)، من أجل التوصل إلى صيغة مقبولة من الطرفين.