إنّه هو هو.. السيد نصرالله

لا الزمان هو الزمان، ولا المكان هو المكان، ولا المناخ المحيط هو المناخ ، لكن السيد هو السيد: بوسامته المشرقة من تحت العمّة السوداء واللحية الكثة التي تزايد الشيب فيها؛ بتواضعه الذي أضاف إليه النصر وإن تكثفت معه المرارة التي لا تفتأ تدرها المحاولات الخبيثة لإنكاره، أصلاً، أو لتزوير دلالاته ليغدو سبباً للفرقة بدلا من أن يكون رافعة للوحدة والاعتزاز بالإنجاز التاريخي لهذا الوطن الصغير الذي كاد يصير الأكبر في عيون أهله العرب، والأخطر في عيون عدوه ومن معه. 
وحين انفتح الباب واندفعنا نحو السيد معانقين باللهفة، لمحنا كمثل الوميض شيئاً من الحزن في عينيه الذي سرعان ما جبَّه، مع أسئلة الاطمئنان عن الجميع، إحساسه المرهف بوطأة المسؤولية الشاملة، وحضوره الذهني الباهر الذي يغريك بأن تطرح كل ما يقلق أو يحرج، فلا شيء عند السيد يخفيه أو يخاف التصريح به.
إنه هو هو، السيد حسن نصرالله، الذي صار مَعْلَماً من معالم دنيانا وأحد الرموز المضيئة في الأفق المعتم لهذه المرحلة من زماننا.. لكن ذلك الحزن في عينيه، ظل يرف علينا، ثم صار يتكاثف مع التوغل في الحديث عن مجاميع الشهداء، في مجازر الأطفال خصوصاً، ثم عن حجم التدمير الإسرائيلي المنهجي الهائل لبيوت الناس البسطاء في ضواحي بيروت الجنوبية، كما في المدن والبلدات والقرى والدساكر في الجنوب والبقاع وبعض الشمال.
شعوره بأن بعض القيادات قد خذل وطنه، ومن ثم المقاومة، في ساعة الخطر، يُثقل عليه ويزيد من تخوّفه على لبنان ونظامه الطوائفي الذي قد تشفع له تلك الغلالة من الديموقراطية التي تسمح بتعايش المجاهد والمساند والمحايد والمعترض والمخاصم جنباً إلى جنب، بلا إشكالات، إلا ما يدبّره المتعيّشون من الفتنة
أما مع حديث المواجهات وبطولات المجاهدين الذين صمدوا لثلاثة وثلاثين يوماً على الحد تماماً، وكانوا يطلعون على جند العدو من كل فج عميق فيتصيّدون دباباته وآلياته، ويرفضون الانسحاب أو الانكفاء إلى الخلف، فقد كان وجه الأمين العام لحزب الله يستعيد إشراقته ويلتمع في عينيه فرح غامر: لقد تجاوزوا أنفسهم فصنعوا معجزة النصر.
***
قلنا للسيد حسن نصرالله إننا نحمل هواجس الناس على شكل أسئلة عن الغد: عن مستقبل المقاومة، عن هذه العلاقة المأزومة بين السنة والشيعة في الداخل بينما صار الحزب في نظر أهل السنة، العرب أساساً وسائر المسلمين، رمزاً للجهاد وحامل راية النصر.. ثم عن الحزب والشيعة، ممّن لا يرون رأيه ولا يقبلون منهجه. وسنسأل أيضاً عن علاقاتكم العربية التي تبدّت، مع احتدام المواجهات، كأنها قد تهاوت، بل انقلب الود فيها إلى مساءلة بلغت حدود الاتهام بالمغامرة.
هزّ السيد رأسه موافقاً فأضفنا: وسنسأل عن سلاحكم ومستقبله، وعن علاقاتكم بالجيش، بعد كل الذي كان، ثم عن علاقتكم بقوات اليونيفيل. ولا بد من التوقف أخيراً أمام علاقاتكم مع مختلف القوى السياسية الأساسية في البلاد، لا سيما مع زملائكم إلى طاولة الحوار.
كان السيد حاضر الذهن، كعادته، وإن كان واضحاً أنه يبذل جهدا، في لحظات معينة، لتخطي حاجز المرارة، أو الشعور بالخذلان، لا سيما عند من ينكرون النصر العظيم الذي تحقق، وبكلفة هائلة لكنها لا يمكن أن تحجبه بتأثيراته الخطيرة على الكيان الإسرائيلي أولاً، ثم على صورة الغد العربي.
وكان واضحاً أن كثيراً من الأسئلة التي حملناها لم تباغت السيد، بل هي كانت موضع نقاش أولي لدى قيادة حزب الله، وهو نقاش سيُستكمل في مستقبل قريب.
***
نعم، السيد قَلِق. وهو لا يخفي قلقه على الوضع في لبنان، بل يحدد مصادره وأسبابه.
نعم، السيد خائف أن يصبح النصر جريمة، وأن يصبح بطلها المقاوم، حزب الله، موضع حصار يشترك في ضربه من حوله أصدقاء قدامى مع خصوم دائمين، بما يخدم مصالح من يسعى لترسيخ هيمنة أجنبية على لبنان.
نعم، السيد غير مرتاح إلى اهتزاز كثير من التحالفات السابقة، نتيجة ضغوط دولية، أو نكايات محلية، أو تخوّف من حجم الحزب وصورته التي تداخلت في بعض جوانبها مع الأسطورة.
نعم، السيد يعيش مرارة مفارقة غير مسبوقة: المنتصِر محاصَر بأعباء نصره، وهي ثقيلة، تطارده إضافة إلى إسرائيل مخابرات حلفاء إسرائيل جميعاً (وبينهم عرب)، في حين أن كل الذين يتمنون انتصار إسرائيل، وينحازون ضد شعبهم، يسرحون ويمرحون آمنين، ويطلقون التصريحات الكيدية ويحقّرون النصر ويغذون الحساسيات المذهبية والطائفية.
ولقد عشنا معه هذه المرارة ونحن ننتقل إلى مقابلته في ما يشبه الخطة البوليسية. وعدنا من لدنه بالطريقة نفسها، بينما الآخرون جميعاً يعيشون في بيوتهم، آمنين على أنفسهم وعائلاتهم، يحصدون مكاسب المرحلة التي صنعتها بطولات المقاومين وتضحيات مجمل الشعب في لبنان، كل بحسب موقعه في عين عدوه الإسرائيلي.
***
السيد بخير. لكن شعوره بأن بعض القيادات قد خذل وطنه، ومن ثم المقاومة، في ساعة الخطر، يُثقل عليه ويزيد من تخوّفه على لبنان ونظامه الطوائفي الذي قد تشفع له تلك الغلالة من الديموقراطية التي تسمح بتعايش المجاهد والمساند والمحايد والمعترض والمخاصم جنباً إلى جنب، بلا إشكالات، إلا ما يدبّره المتعيّشون من الفتنة، وهم هم الذين يحاولون الآن طمس النصر أو تقزيمه مع وعيهم بأن ذلك مستحيل، وبأن المستفيد سيكون العدو الإسرائيلي.
وعن هذا العدو تحدث السيد حسن نصرالله حديث العارف والمتابع الدقيق والمهتم بكل التفاصيل حتى لا يخطئ التقدير ولا يتوه عن الطريق التي تأخذ إلى النصر.. وهو يعرفها، كما أكدت التجارب العظيمة، حق المعرفة.
(*) نشرت هذه المقالة (الإفتتاحية) بتاريخ الخامس من أيلول/سبتمبر 2006، في جريدة “السفير”.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الأخلاقيات الطبية.. وتحدي كورونا
طلال سلمان

رئيس تحرير جريدة السفير

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تحليل إسرائيلي: خطر الحرب في الجبهة الشمالية.. متدنٍ