قادةٌ مقاومون.. عَرِفتَهم

تحيا ذاكرتي في نتوءات «ذاكرتها».. وتتغذى من حبل سري آت من عمر مليء بتراصف الحكايات، ومطرزات الحروف المكتوبة. حكايات مع دموع تسابقت مراراً مع حبر القلم، ومع عناد - قناعة لا تليق به سوى صعاب سنوات الحرب الأهلية وحواجز الاحتلال الإسرائيلي.. فالظلم الذي لا أطيقه، هو محرك قناعاتي ومشاعري وأفكاري.
هي ذاكرتي المنسوجة من تعب وصدق وسجلات يومية تعدّت ساعات العمل والخوف وأي قرار جواّني ساورني مطالباً إياي بالراحة وبشيء من الهدوء.. وعليه، فإن لي مع يوميات امتدت من سنوات بداية عملي في تشرين الثاني/نوفمبر 1981 إلى ما بعد قيام الطائف وحكوماته وتبدل قواعد اللعبة السياسية، الكثير مما يمكنني روايته، أو التحفظ عليه.
وعليه أيضاً، يمكنني أن أقوى على خجلي الداخلي، وشيء من التواضع غير الضعيف، وإنما العابق بأخلاقيات إنسانية، لأقول إن لي في بعض المحطات في مهنتي المكتوبة شواهد أفتخر بها تثبتتها أرشيفات صحف تلك السنوات، وشهودها الأحياء أطال الله في أعمارهم.
تسكنني لحظات وصولي إلى بلدة «جبشيت» في ثاني صباحات اعتقال شيخ شبابها الشهيد راغب حرب.. تسكنني لحظات العزة بالتجرؤ على اجتياز حواجز العدو الإسرائيلي المحتل لتلك الأرض، وكلـي قنـاعة أن الموت لا يأتـي بغير أوانه أو لأقول إننــي لا أتـــذكر من المـوت إلا شعوري برفضه في ذاك اليوم من أيام الاجتياح الإســرائيلي للبـــنان في العام 1982.
سكون تلك القرية لفحه هواء بارد، القرية التي لم تك قد فتحت أعين ضجيجها اللاحق. لحظات، وامتلأت حسينيتها، وارتفعت مكبرات الدعوات إلى التجمّع في ساحتها «اعتصاماً ضد اعتقال الشيخ راغب حرب».. سألت عن عائلته، والتقيت والدته وزوجته والأطفال، وكتبت ما قالوا، وعبّيت من كرامتهم قوتي، وقرارهم.. ونقلت حديث الشيخ عبد الكريم عبيد الذي حلّ موقتاً مكان شيخ القرية راغب حرب إلى حين عودته من الأسر الإسرائيلي.
تسكنني أيضاً تلك الصدفة اللائقة بتعب المهمة، وما حملته من شعور بالفوز، الشخصي والمهني.. في ذاك البيت الذي ما يزال في بعلبك، كانت زيارة بيت السيد عباس الموسوي (1984)، والتعرف إلى «الشابين الهاربين حديثاً من صور». قالها السيد الموسوي تعلوه بسمة الثقة والحنان على هذين الشابين، ولم يكونا سوى السيد حسن نصرالله والشيخ محمد خاتون.. كانا شابين في مقتبل السنة الأولى بعد العشرين، وكانا صغيرين بعمامة ومقاومة.. في ذاك البيت فرشت لنا الشهيدة أم ياسر الموسوي زوجة السيد عباس الموسوي طعام العشاء، حول مدفأة المازوت في ذاك الليل المثلج، تساعدها السيدة أم زهراء.
بيت السيد عباس الموسوي، استعادته ذاكرتي النابضة، يوم زرت طهران وبدعوة منهم للمشاركة في تغطية ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة الإمام الخميني في العام (1989).. في بيت هذا القائد، الثائر، في قم، صعقني الزهد في محتويات البيت، غير المملوك له أولاً، وتلك الصوفا – الكنبة المغطاة بشرشف أبيض اللون.. والتي كانت منبراً للنهوض بالثورة ما بعد انتصارها.. تشابه البساطة في محتويات المنزلين، لن يمحى من ذاكرتي.
ما لم يمحَ أيضاً، ذاك اللقاء مع الشهيد عماد مغنية إلى طاولة طعام الغداء في «فندق الاستقلال» في تلك الزيارة لطهران، والأحاديث التي جرت، وعبرت، وبقيت.
انتخب السيد عباس الموسوي أميناً عاماً لـ«حزب الله» (1991)، وكان ذلك مفاجئاً للتوقعات الصحافية.. ولم يكن مفاجئاً لي نيل أول مقابلة إعلامية تجرى مع السيد الموسوي بعد الإعلان عن انتخابه بدقائق.. حوار قرأ فيه الســـيد رؤيته الاستراتيجية لأوضاع المنطقة.. لا بل رسمها، وأوصى بحفظ المقاومة، وتنبأ بهزيمة الأميركي فيها.
اغتيل الأمين العام، وبقيت المقاومة وصيته، وحفظت له الوصية، ونفّذت بنود الوصية بأشفار العيون.. وكان التحرير في العام 2000 وكان لقائي الثاني مع الأمين العام السيد حسن نصرالله في مقابلة صحافية مطوّلة.. لقاء ثقة ينعش الذاكرة.
(*) نص منشور في جريدة “السفير” بتاريخ 18 شباط/فبراير 2012
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الصحافة العبرية: الحرارة ترتفع مع لبنان.. لكن الحرب لم تقترب
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  حرب نجوم سيبرانية.. بين "الكيانين"!