“مُحمّدٌ نبيّ العرب”.. هل هو فعلاً شخصيّة “حقيقيّة”؟ (1)

يلاحظ اليوم، بسهولة، تنامي تيّارات علميّة-أكاديميّة، أو شبه علميّة-أكاديميّة أحياناً، حول العالم.. تُشكّك "بتاريخيّة" جوانب كثيرة من السّرديّة الاسلاميّة لا سيّما حول "السّيرة"، وصولاً إلى تشكيك بعضهم بتاريخيّة شخصيّة "محمّد نبيّ العرب" أو "محمّد رسول الله" أو "محمّد بن عبد الله الهاشميّ القُريشيّ التّهاميّ العدنانيّ" (كما نقول بالطّريقة العربيّة القديمة.. والجميلة).

في اعتقادي، على المثقّف المُسلم والعربيّ أن يكون مُهيّأً، وسريعاً، لمواجهة هذا النّوع من الأفكار الواصلة إليه عاجلاً – قبلَ آجلاً.. لا من خلال الهروب أو التّجاهل أو الغضب أو التّكفير: بل من خلال النّقاش العلميّ و”الموضوعيّ” الرّصين. ونحن سنقارب هذه القضيّة، في هذا المقال، كمتخصّصين في البحث الاجتماعيّ بشكل عامّ، لا كمتخصّصين في العلوم التّاريخيّة بشكل خاصّ. ولذلك، حيث يتوجّب أن نُحيل إلى أهل الاختصاص المناسِبين، سنقوم بذلك بكلّ أمانة علميّة وفكريّة إن شاء الله تعالى.

وأرجو من القارئ العزيز أن يأخذ هذه الورقة، ككلّ، على أنّها مُقدّمة مُوجَزة ومُبسَّطة.. أو على أنّها بابٌ موجز من أبواب العبور نحو بَحرٍ من الاكتشافات والنّقاشات الشّيقة جدّاً، والتي أتمنّى أن يدخلها القارئ والمثقّف المسلم والعربيّ بثقة وبموضوعيّة إذن.

حتّى الآن، لا زلت مقتنعاً، على المستوى الشّخصيّ: بالضّعف الشّديد لفرضيّة النّفي الكُلّيّ لتاريخيّة شخصيّة “النّبيّ محمّد” (أو بطريقة أكثر دقّة: لحقيقة وجودها التّاريخيّ بالمعنى العلميّ الحديث). ونحن هنا لا نتحدّث عن تاريخيّة بعض أو أغلب جوانب “السّيرة النّبويّة الشّريفة”: بل نتحدّث، تحديداً، عن تاريخيّة شخص “مُحمّد رسول الله” نفسه. وسنعود في ما يلي إلى بعض المعطيات التي تجعلني أُضعّف هذه الفرضيّة، إذن، على المستوى الشّخصيّ الذي لا أُلزم فيه إلّا نفسي بطبيعة الحال.

ولكن، قد يسأل القارئ العزيز، ببساطة:

-كيف يُمكن التّشكيك، أصلاً، بتاريخيّة شخصيّة “كمُحمّد رسول الله”؟ مُحمّدٌ “سيّد الكَونَين والثَّقَلين”، وزوجُ خديجة بنت خويلد الكبرى، وأبو فاطمة الزّهراء “سيّدة نساء العالمين”، وجدُّ الحسن والحسين “سيّدي شباب أهل الجنّة”، وصاحب أصحاب “خير النّاس والبريّة”، ونبيّ أمّة الإسلام برمّتها، ورمزها الأسمى والأعلى.. وإمام أئمّة جميع المُسلمين، إلى قيام السّاعة.. وإلى حين بلوغ اليوم الموعود العظيم؟

-كيف يُشكَّك بالوجود “التّاريخيّ” لشخصيّة كهذه، تعيش معه أمّة كاملة – بمئات ملايينها – بشكل يوميّ، بل وفي كلّ دقيقة من دقائق حياتها ومن حياة أفرادها؟ كيف يُشكَّك “بالوجود التّاريخيّ” لمن تدور دائرة العلوم القرآنيّة حول رسالته، ولمن هو محور العدد الذي لا يُحصى من كُتب الأحاديث والشّروح والتّجريح والتّعديل والتّأريخ وما إلى ذلك؟

-كيفَ يُشكَّكُ بالوجود التّاريخيّ “الحقيقيّ” لمن أنشدَ فيه الإمامُ الصّوفيُّ البوصيريُّ (ت. ١٢٩٤ م)، في قصيدة شبه أزليّة (وهي قصيدة البُردة الأسطوريّة)، وهو يصفُ زُهدَه في الدّنيا ضمن هذين البَيتَين:

وَكَيْفَ تَدْعُو إِلَى الدُّنْيَا ضَرُورَةُ مَنْ
لَوْلاَهُ لَمْ تُخْرَجِ الدُّنْيَا مِنَ العَدَمِ؟

مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْـ
ـنِ، وَالفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ!

(…)

هُوَ الحَبِيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ
لِكُلِّ هَوْلٍ مِنَ الأَهْوَالِ مُقْتَحَمِ!

“مُحمّدٌ رسولُ الله” الوارد اسمه على نقوش وقطع نقديّة قديمة معروفة.. أيُُشكّك بوجوده التّاريخيّ؟

كيف؟

***

هنا، يرى القارئ العزيز، عن قرب في اعتقادي: أهمّيّة أحاديثنا القديمة والطّويلة حول منهجيّة البحث في العلوم الاجتماعيّة. ذلك أنّه لا يُمكننا فهم القضيّة والأسئلة والتّساؤلات السّابقة مثلاً، من دون فهمٍ للنّقاشات المنهجيّة-الفلسفيّة الكامنة خلفها. يُخطئ، قارئي العزيز، من يُهمل النّقاشات هذه، برغم صعوبتها (الظّاهرة فقط).

نُكرّر باختصار: لا يُمكنك أن تصل إلى “نتائج علميّة” يُمكنك أن تُدافع عن “قيمتها العلميّة”.. إذا لم تُمَوضِع بحثَك ضمن إطار تفكير: (١) أنطولوجيّ (أي “وجوديّ”؛ مع التّبسيط: حول طبيعة الوجود والموجود)؛ (٢) وأبستمولوجيّ (أي “معرفيّ”؛ مع التّبسيط: ماذا يُمكن أن نَعرف من خلال ذهننا الانسانيّ بشكل أساسيّ؟)؛ (٣) ومنهجيّ-تطبيقيّ (مع التّبسيط: كيف يُمكن أن نصل، عمليّاً، إلى هذه المعرفة التي يُعوّل عليها؟).

ولذلك، بالعودة إلى تساؤلاتنا أو أسئلتنا السّابقة، فيمكننا أن نلاحظ وجود عدّة مدارس مُعاصرة في ما يخصّ “الوجود التّاريخيّ” لمحمّدٍ نبيّ الإسلام. وكما المتوقّع، فوراء كلّ مدرسة توجّه معرفيّ-منهجيّ سهل الاستنباط كما سيلاحظ معي القارئ العزيز، على ما أرجو، في ما يلي:

  • المدرسة الإسلاميّة التّقليديّة: وهي مدرسةُ علومِنا الإسلاميّة التّقليديّة بشكل عامّ، المُعتمَدة من قِبل علمائنا وفقهائنا وأئمّة مذاهبنا.. في الجامعات وفي الحوزات العلميّة-الدّينيّة بشكل خاصّ. كما هو معلوم، تنطلق هذه المدرسة عموماً من مُسلّمة النّصّ الدّينيّ، لا سيّما القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة المباركة. وباختصار: لا ترى هذه المدرسة أيّ مُشكلة، في الأعمّ الأغلب، في الاعتماد على الكُتُب الأساسيّة المُتناوِلة للسّيرة النّبويّة المُباركة، خصوصاً إذا ما استخدمنا الأدوات المتعارف عليها بهدف تصحيح الرّوايات والأحاديث.. لا سيّما وأنّنا، في نهاية الأمر، سنقابلها على الدّوام – في المبدأ – بالكتاب وبالسّنّة، وهما من مصدر إلهيّ تؤمن به هذه المدرسة (لاحظ ثلاثيّة: الحقيقة – المعرفة – المنهجيّة).
  • المدارس أو التّوجّهات النّقديّة التّقليديّة: وهي مدارس أو توجّهات لا تخرج، في خطوطها العريضة، عن المسلّمات الأساسيّة للمدرسة الأولى. باختصار: هي تتقبّل “التّراث النّقليّ الإسلاميّ” على أنّه مُعطىً يُعوّل عليه بهدف البحث، خصوصاً – هنا – في ما يعني موضوعنا أي موضوع السّيرة النّبويّة.. ولكنّها تنتقد بعض النّتائج التّفصيليّة – لا المُسلّمات الأساسيّة إذا صحّ التّعبير.
  • المدرسة الاجتماعيّة الفهميّة-التّأويليّة: وهدفها، على غرار مدرسة عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر وتلامذته.. ليس نقاش صحّة النّصوص في ذاتها، ولا نقاش حقيقة المُعطى النّصّي-الدّينيّ في ذاتها، وإنّما محاولة تأويل كيف يَفهم الفردُ المُسلمُ النّموذجيّ السّرديّة التّاريخيّة التّقليديّة. وبالتّالي، يهمّ هذه المدرسة أيضاً أن تدرس تأثيرات هذا الفَهم – المُعبّر عنه بالمفاهيم (Concepts) – على السّلوك الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ (إلخ..) للفرد المُسلم (لاحظ ارتباط هذه المدرسة بطريقة تفكير ماكس فيبر كما رأينا، وبالتّالي بالتّموضع الأبستمولوجيّ – أي المعرفيّ – العامّ للفيلسوف الألمانيّ الأكبر عمانوئيل كانط).
  • المدارس المتأثّرة، عموماً، بالتيّار ما-بعد-الحداثيّ: ولا لزوم للإطالة حولها في ورقة كهذه، ولكن، لنُشِر فقط إلى أنّها مدارس تذهب بعيداً في مقاربتها لوجود “واقع موضوعيّ خارجيّ” من أساسه. وبالتّالي، في ما يخصّ موضوعاً كموضوعنا، هي قد تهتمّ حصراً بتحليل محتوى النّصوص التّقليديّة بهدف الوصول إلى فهم ذاتيّ، مُعاصر، لما يُمكن أن تعنيه هذه النّصوص لبعض الأفراد ولبعض الجماعات. على سبيل المثال لا الحصر: إذا ما ذهب بعض الباحثين إلى نفي أهمّيّة بحث الحقائق التّاريخيّة في ذواتها (على الطّريقة “الكانطيّة” عموماً إن شئت)، وشدّدوا بالمقابل على أهميّة فهم تأويل الفرد المؤمن والجماعة المؤمنة للأحداث التّاريخيّة.. فإنّ بعض ما بعد-الحداثيّين قد يدّعي عدم وجود “حقائق تاريخيّة” من أساسه! ليست المشكلة عند بعض هؤلاء في تمكّننا أو عدم تمكّننا من الوصول إلى الحقائق في ذواتها.. بل في وجود هذه الحقائق من أساسه! (لاحظ، مجدّداً، أهمّيّة التّفكير الأنطولوجيّ-الأبستيمولوجيّ-الميتودولوجيّ في البحث).
  • المدارس المُعاصِرة المُسمّاة بالتّصحيحيّة أو بالتّنقيحيّة (Revisionnistes): وهي التي تهمّنا بشكل خاصّ ضمن هذه الورقة. وهي مدارس تُحاول، بشكل عامّ، مراجعة و/أو حتّى تصحيح الرّواية الإسلاميّة التّقليديّة، بناء على نظرة نقديّة لمُعطى البحث التّقليديّ – بشكل رئيس – وهو التّراث النّصّي أو النّقليّ كما رأينا. في اعتقادي، يُمكن تمييز توجّهَين رئيسيَّين ضمن هذه المدارس واقعاً وحسب المراقبة:
  •  التّوجّه النّقديّ-التّصحيحيّ المُعتدل نسبيّاً، وأحد أبرز مؤسّسيه هو كتاب “الهاجريّة” الصّادر لأوّل مرّة عام ١٩٧٧[1]. في ما يخصّ موضوعنا بالذّات: هو توجّه ينقد التّراث التّاريخيّ النّصّي التّقليديّ بالتّأكيد، وينقد سرديّة السّيرة النّبويّة التّقليديّة بالتّأكيد.. ولكنّه – في المبدأ – لم يَعُد يرفض الأخذ بالتّراث النّصيّ التّقليديّ ولو جزئيّاً.. ولا يتّخذ موقفاً مُتطرّفاً – أو راديكاليّاً – في ما يخصّ نفي الوجود التّاريخيّ لنبيّ الإسلام محمّد بن عبد الله من أساسه؛
  • التّوجّه النّقديّ-التّصحيحيّ الأكثر تطرّفاً – أو راديكاليّةً – إذا صحّ التّعبير، والذي لطالما يظهر في موقع الرّافض كُلّيّاً – أو أقلّه النّاقد لدرجة عالية جدّاً – لأيّ قيمة علميّة-تاريخيّة للكتب التّقليديّة المتناولة للسّيرة النّبويّة. ينفي، أو يُبدّل، أو يُصحّح، أو يُنقّح، أو يراجع هذا التّيّار: أسس السّرديّة التّاريخيّة المحمّديّة-الإسلاميّة إذن.. ويذهب، في أحيان كثيرة، إلى نفي الوجود التّاريخيّ لمحمّد بن عبد الله من أساسه. وقد يكون عددٌ من باحثي مركز “إنارة INARAH[2]” الألمانيّ المعروف لدى المتخصّصين: يشكّلون النّموذج الأقرب لهذا التّوجّه الرّاديكاليّ (إن صحّ التّعبير إذن).
إقرأ على موقع 180  بعض النقاش حول الحجاب.. عنفٌ مضاعفٌ ضد النساء

أعطينا مثال كتاب “الهاجريّة” لكرون وكوك من جهة، ومثال مركز “إنارة” من جهة ثانية: كنموذَجَين عن هذين التّوجّهين طبعاً. ولكنّ الأمثلة مُتعدّدة ولا مجال لذكرها جميعاً في ورقة كهذه، خصوصاً أنّه يسهل الوصول إليها عبر الشّبكة العنكبوتيّة، وعددها يتزايد بشكل كبير واقعاً (دون حاجة هنا إلى الولوج في قضيّة قيمتها العلميّة جميعاً، بطبيعة الحال).

قبل أن نختم هذا الجزء، لنتذكّر إذن أنّ المدارس النّقديّة-التّصحيحيّة المعاصرة ترتكز بشكل عامّ على فكرَتَين رئيسيّتين في ما يخصّ موضوعنا تحديداً:

  • الفكرة الأولى؛ وهي أنّ كُتُب السّيرة النّبويّة التّقليديّة تعاني من نوع من الـ(Great Gap) كما يُمكن تسميتها، أي من “الفجوة العظمى”. لماذا؟ لأنّ الخبراء يتحدّثون عموماً عن فجوة زمنيّة كبيرة نسبيّاً بين التّاريخ المعتمد عادةً لوفاة النّبيّ محمّد (صوب ٦٣٢ م) وبين أوّل مخطوطات متوفّرة للسّيرة النّبويّة (النّصف الأوّل من القرن التّاسع الميلادي). تُقدّر “الفجوة” هذه، بحسب الباحث المختصّ، ما بين ١٥٠ إلى ٢١٠ سنة أو حتّى إلى ما يقارب ال٢٥٠ سنة عند بعضهم.. وهذه التّقديرات مرتبطة طبعاً بالتّواريخ المُقدّرة لكتابة سيرَتَي ابن إسحاق (ت. صوب ٧٦٨ م) وابن هشام (ت. صوب ٨٣٣ م).
  • الفكرة الثّانية؛ وهي النّقص الشّديد في الأدلّة الأركيولوجيّة وما يماثلها (من نقوش ومن مخطوطات وما إلى ذلك): الأدلّة “العلميّة” إذن على “وجود مُحمّد”، بحسب هؤلاء، وعلى الكثير من التّفاصيل حول حياته. كما تُعبّر كرون في مقابلاتها وكتاباتها: فمن العجيب، بالنّسبة إليها، أن يصمت هذا النّوع من الأدلّة، أو يكاد، عن تناول شخصيّة كمحمّد وسيرة كسيرة كمحمّد. ونلاحظ هنا، برأيي، الشّبه بين هذا التّفكير وبين بعض التّفكير “الوضعيّ” المُتطرّف، إذ أنّ هؤلاء الباحثين يُضعّفون، إلى حدّ بعيد، ما تقوله أُمّةٌ بأكملها عن قصّتها وعن قصّة منشئها.. ولو تواترت الخطوط الرّئيسيّة للسّرديّة.

(يتبع)

1] مصدر معتمد: rone P., Cook M.A. and Cook M., 1977, Hagarism: The making of the Islamic world, CUP Archive.

[2] رابط موقع المركز المثير للجدل: https://inarah.net/publications

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  بوتين في الكرملين، لينين في الضريح.. لا أحد يُزعج الآخر!