مسيحيو سوريا ينقرضون.. مواطنون لا “ودائع غربية”!

للمسيحيين في محافظتي السويداء ودرعا كنائسهم التاريخية، مثلما للسريان والأشوريين جذورهم وحضورهم في منطقة الجزيرة السورية شرقاً. يسري ذلك على معظم المدن والقرى والبلدات على طول خط الساحل السوري، حيث يتوزع المسيحيون في القرى المختلطة مع إخوانهم المسلمين.

هذا الإنتشار المسيحي في كل أرجاء سوريا وليس في منطقة محددة “هو خيرُ دليل على دور مسيحيي سوريا، بأن يكونوا جسراً للحوار والتلاقي، وليس للانعزال والاستبعاد والتنميط السياسي”، كما تقول أوساط كنسية سورية، قبل أن تسأل وتُجيب: “لقد وقّعت الإدارة السورية الجديدة اتفاقاً مع الأكراد (قسد في الشرق السوري) واتفاقية مماثلة مع محافظة السويداء، لكن هل من أمر مماثل مع المسيحيين؟ إطلاقاً”.
وتبدي الأوساط الكنسية السورية انزعاجها من التوصيف الذي يتم تداوله منذ سقوط نظام بشار الاسد، بأن المسيحيين بالنسبة للغرب “خط أحمر”، لأن هذا الأمر يُظهرهم وكأنهم “وديعة غربية” في هذه المنطقة، وكل التصريحات الدولية التي تظهر حرصها على الأقليات، قد يكون لها رد فعل عكسي في المستقبل، كما حصل في العراق ولبنان.

المسيحيون ينقرضون!
النظرة إلى الوضع في العراق تُعدُ مصدر قلق كبير للأوساط الكنسية السورية. فبعد الغزو الأمريكي للعراق (2003)، لم تكن التطمينات الغربية للمسيحيين هناك كافية لحمايتهم من الهجمات المتتالية من قبل الجماعات المتطرفة. الهجمات التي استهدفت الكنائس والقرى المسيحية في العراق عجّلت بهجرتهم بشكل غير مسبوق، وزادت من قلقهم حيال مصيرهم في المنطقة. فقد تضاءل عدد المسيحيين في العراق بنسبة 83%، بعدما كانوا قبل الغزو العراقي حوالي مليون ونصف المليون نسمة، وأصبحوا حالياً لا يتجاوزون الربع مليون نسمة، حسب رئيس أساقفة أربيل للكلدان المطران بشّار وردة الذي يُحذّر من أن المسيحيين العراقيين “على وشك الإنقراض بعد 1400 سنة من الاضطهاد”.

في ضوء هذه التجربة العراقية، تخشى الأوساط الكنسية السورية من أن تكون الوعود الغربية للمسيحيين “مجرد كلمات فارغة. فكل الحديث الذي يقال عن حماية المسيحيين قد ينقلب في لحظة واحدة، وبالتالي يتحول المسيحيون إلى ورقة ضغط في صراع أكبر بين القوى الإقليمية والدولية فيكون مصير مسيحيي سوريا شبيهاً بما حلّ بمسيحيي العراق”!

وفي غياب أية أرقام رسمية دقيقة، تقول مصادر سورية إن الأرقام الرسمية السورية تُقدّر تعداد السوريين في العام 2011، تاريخ اندلاع الأزمة السورية بنحو 24 مليون نسمة، ومع تطور الموقف في سوريا، حروباً وتهجيراً ونزوحاً وتدميراً وقتلاً، أصاب المسيحيون ما أصاب غيرهم من السوريين، لكن بفوارق من نوع فتح السفارات في بلدان اللجوء أبوابها أمام المسيحيين السوريين الراغبين بالهجرة.

وإذا كانت إحصائيات المكتب المركزي للاحصاء (الحكومة السورية السابقة) في العام 2024 قدّرت السوريين بحوالي الثلاثين مليون نسمة، فإن تلك الزيادة لا تسري على المسيحيين الذين كانوا يُشكّلون في العام 2011 نحو 10% من المجتمع السوري (2.4 مليون نسمة)، بينما أصبحوا اليوم يُشكلون، حسب مصادر كنسية سورية، حوالي الـ 2% (600 ألف نسمة). وحسب تحقيق أجرته صحيفة “النهار” اللبنانية في العام الماضي، فإنّ ثالث المدن من حيث احتضان المسيحيين في الشرق الأوسط لطالما كانت حلب بعد القاهرة وبيروت، فقد كانت تضمّ نحو 500 ألف مسيحي في العام 2011، أما اليوم فلم يتبقَ فيها سوى 27 ألف مسيحي من ضمنهم الأرمن!

وعلى الرغم من تراجع أعداد المسيحيين في سوريا بشكل كبير خلال العقد الماضي، ترى الأوساط الكنسية أن المسيحيين مدعوون للعب “الدور الأخير”، بأن يكونوا “جسر الحوار” بين مختلف الطوائف والفئات الاجتماعية، حيث يمكن أن تشكل الكنائس أماكن التلاقي والنقاش بين الجميع.

التطمينات.. والتناقضات!

وبالفعل، منذ العام 2011، كانت فكرة فتح أبواب الكنائس للحوار بين السوريين محور اهتمام الأوساط الكنسية السورية. وقد نفّذت بعض الأديرة والرهبانيات والمطرانيات هذه الفكرة في بداية الحرب، إلا أن الظروف الأمنية لم تسمح بتعميمها أو استمرارها بالشكل المطلوب.
وتشير الاوساط الكنسية بأنه من خلال اجتماعاتها مع الإدارة السورية الجديدة، منذ لحظة سيطرتها على السلطة، قبل أكثر من ثلاثة أشهر، كانت تعتمد على مبدأ “التطمينات” وارتكازها على ثوابت تاريخية ودينية مثل التغني بالدور المسيحي الريادي في زمن الدولة الأموية، وبأن المسيحيين جزء لا يتجزأ من المجتمع السوري وهم “إخوتنا”. ولكن هذه التطمينات وحدها لا تكفي، تضيف الاوساط الكنيسة، “فما حدث في الساحل السوري مؤخراً يُشير إلى وجود فصائل ظلامية متشددة، لها تفكيرها وعقيدتها الرافضة لكل مختلف عنها، حتى المسلم السنّي الذي لا يتبع نفس نظرتها للدين والإنسان”.

تختم الأوساط الكنسية، بتقديم “نصيحة للرئيس السوري أحمد الشرع”، أنه مع اقتراب موعد الاحتفالات بعيد الفصح المجيد يُمكنه أن يتخذ خطوة باتجاه البطريركيات الثلاث الرئيسية في دمشق (الكاثوليك – السريان – الأرثوذكس)، حيث ستشكل، ولو بالشكل، مبادرة في لحظة مناسبة، وهو الذي عرف عن قرب ما بقي من مسيحيين في إدلب وكيف تعاملوا معه “بالاحسان وحسن الجوار”

وتتابع الأوساط الكنسية، “هؤلاء لا يشبهون المسلمين الذين عشنا معهم طوال عقود وقرون من الزمن، ولكن علينا جميعاً أن نعترف بأن هناك لحظات في التاريخ كانت قاسية علينا، مثل أحداث 1860. نعم، علينا عدم تجاهل الشوائب والمشاكل في مجتمعنا والتعامل معها كأنها غير موجودة، أو كما كان النظام السابق يتعامل معها من منطلق أمني فقط، حتى انفجرت كل التناقضات المجتمعية وفقد الجميع قدرة السيطرة عليها”.
المواطنة.. والدستور
المسيحيون في سوريا لا ينضوون في أحزاب سياسية كما هو الحال في لبنان (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والمردة والكتائب إلخ..)، “هنا، ليس لدينا زعيم يُمثّلنا وهذا من عناصر قوتنا وليس ضعفنا”، تقول الأوساط الكنيسة، فمنذ الاستقلال وحتى “عهد الأسدين”، “كان المسيحيون يتجهون في معظمهم نحو الانضمام إلى ثلاثة تيارات رئيسية في الساحة السياسية السورية: حزب البعث، الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي السوري. فلا يوجد تجربة مسيحية بالمعنى السياسي في سوريا، ذلك أن معظم مؤسسي الأحزاب والتيارات السياسية كانوا من المسيحيين، واختاروا الهوية “العروبية” أو “القومية” لإدراكهم أن حمايتهم تكون بالفضاء القومي الكبير وليس بالفضاء الطائفي الضيق، كون العامل الديموغرافي ليس لمصلحتهم”.
وتؤكد الأوساط الكنسية أن “الكنيسة ليست دولة ولا يمكنها أن تؤدي دور المؤسسات الرسمية”؛ دور الكنيسة يكمن في تعزيز الوحدة الاجتماعية، حيث يُمكن أن تسهم في التقارب بين مختلف أطياف المجتمع السوري، “فلا يجب أن يكون الحديث مع السوريين عبر المرجعيات الدينية إنما عبر القنوات الدستورية، ومن الخطر الاعتقاد أن الجلوس مع المسؤولين الروحيين هو هدف للوصول إلى المسيحيين أو غيرهم من الطوائف، فالدستور هو الرابط بين المواطن والدولة وليس رجل الدين أياً كان دينه أو طائفته أو مذهبه”.
وبالنظر إلى السنوات السابقة، باتت الكنيسة (الشعب والإكليروس) بحاجة إلى إعادة تقييم دورها في المجتمع، وبخاصة في ظل الأوضاع السياسية المعقدة. كانت هناك حالات عديدة أظهرت التباين بين مواقف رجال الدين. فبعض الكهنة، على سبيل المثال، كان لهم دور في “تلميع صورة النظام السوري”، بينما تعرّض آخرون من الرهبان للمضايقات حتى التصفية الجسدية، ليس نتيجة دعمهم للمعارضة، بل لتمسكهم بالانفتاح على الجميع ومحاولتهم لعب دور “همزة وصل” بين مختلف مكونات الشعب السوري، فكانوا مرفوضين من الطرفين، وقد سعى هؤلاء إلى إبقاء الكنيسة مفتوحة للجميع، بغض النظر عن الانتماءات السياسية، وهو ما كان مفقودًا في معظم الأحيان في ظروف الحرب السورية.
همزة وصل 
تفاقم الخوف أكثر مع تنامي الخطاب المتشدد والهتافات التي انتشرت في الشوارع، وهو مشهد لم يألفه الناس، الذين اعتادوا على التعايش السلمي بين مختلف الطوائف. وفي هذا السياق، طرحت الأوساط الكنسية التساؤل: “هل يمكننا العيش مع هذه الفئة المتشددة في المستقبل؟ وهل سيكون من الممكن التوصل إلى صيغة للتعايش السلمي في ظل هذا الصعود المستمر للفكر المتطرف؟”.
وفي خضم هذه التحديات، تدعو الأوساط الكنسية إلى ضرورة أن يكون لدى الإدارة السورية الجديدة رؤية حقيقية لبناء دولة قوية ومستقرة؛ دولة تحتضن الجميع من دون تمييز. لكن يبقى السؤال المفتوح: هل ستتمكن الحكومة السورية من بناء دولة قادرة على ضمان الحريات الدينية والسياسية لجميع مكونات الشعب السوري؟.
صحيح أن الرئيس السوري أحمد الشرع تسلم، أمس (الأربعاء)، مسودة الإعلان الدستوري السوري الجديد، لكن تبقى العبرة في المرحلة الانتقالية التي يخشى الجميع أن تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت، ومنها فشل ضبط الفصائل المسلحة المتشددة، واستمرار الحصار الدولي على سوريا وبالتالي أن تزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءاً، وهذا يعني أن الخوف والقلق سيستمران ليس فقط لدى المسيحيين، بل لدى جميع السوريين. إلا أن المسيحيين، كونهم أقلية، فإن “الكارثة” ستظهر بشكل أكثر وضوحًا لديهم، في حال عدم تحسن الأوضاع، ما يضعهم أمام تحديات وجودية حقيقية.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": حدثٌ واحدٌ يكفي لإشعال المنطقة

مبادرة عيد الفصح
ترفض الأوساط الكنيسة وصف المسيحيين بأنهم كانوا “تابعين للنظام السابق”، وتقول: “لا ننفي وجود أعداد كبيرة كانت مستفيدة من النظام أو تابعة له وحتى مؤمنة به، لكن لا يمكن وضع المسيحيين ككتلة وحدة في سلة واحدة، فقد كان العديد منهم من المعارضين ودفعوا أثمانا داخل مجتمعهم ما دفعهم للهجرة”. المشكلة الاساسية تمثلت في الخوف من الخطاب الديني المتشدد لدى فصائل مسلحة متشددة حاولت فرض نفسها ضمن الأحياء المسيحية بشكل “مستفز” لسكانها، وهذا ما شهدنا بعض فصوله في أيامنا هذه سواء في دمشق أو في محافظات ومدن سورية أخرى.

وتختم الأوساط الكنسية، بتقديم “نصيحة للرئيس السوري أحمد الشرع”، أنه مع اقتراب موعد الاحتفالات بعيد الفصح المجيد يُمكنه أن يتخذ خطوة باتجاه البطريركيات الثلاث الرئيسية في دمشق (الكاثوليك – السريان – الأرثوذكس)، حيث ستشكل، ولو بالشكل، مبادرة في لحظة مناسبة، وهو الذي عرف عن قرب ما بقي من مسيحيين في إدلب وكيف تعاملوا معه “بالاحسان وحسن الجوار”، وبخاصة أبناء الطوائف الأرمنية.. وعلى الرئيس الشرع أن يُدرك أن هذه المؤسسات البطريركية لا تشمل فقط سوريا، إنما رعاياها أيضاً خارج الحدود السورية”.

Print Friendly, PDF & Email
وسام عبدالله

كاتب وصحافي، سوريا

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان: مجزرة عكار ـ التليل مسؤولية من.. وماذا بعد؟