“الخرق الفرنسي” سعودياً.. هذه وقائعه اللبنانية

كان اللافت للإنتباه في الساعات الأخيرة مبادرة بعض الصحافة الأجنبية إلى الكتابة عن وقائعنا العربية واللبنانية، من خارج سياق الوقائع والأحداث نفسها. فهل هناك ترتيب منهجي ما للأحداث يفضي إلى تفسير ما جرى من خرق جزئي في جدار الأزمة السعودية ـ اللبنانية؟

عندما إنتخب جو بايدن رئيساً في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، كان قد مضى 12 يوماً على تكليف سعد الحريري برئاسة الحكومة اللبنانية. وقتذاك، وفي خضم الإشتباك السياسي بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، طُرح سؤال بدا للوهلة الأولى أكثر من ساذج: هل فوز بايدن سيصب في مصلحة الحريري أم جبران باسيل؟

بعد ثلاثة أيام على صدور نتائج الإنتخابات الأميركية، إستفادت إدارة دونالد ترامب من “الوقت الضائع” الإنتقالي لفرض عقوباتها على باسيل، غير أن الأخير ظلّ موعوداً بـ”المن والسلوى” والإطاحة بالحريري، فور دخول بايدن إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير 2021.

بالمقابل، بدا رئيس الحكومة المكلف، حينذاك، مشدوداً إلى اللحظة البايدنية. محمد بن سلمان يبحث عمن يعيد فتح أبواب واشنطن أمامه ولن يجد أفضل من صديقه إيمانويل ماكرون لإعادة تطبيع علاقاته بالديموقراطيين. رئيس فرنسا يمثل حاجة مشتركة لكل من بايدن وبن سلمان لإعادة تجسير العلاقة بينهما. ماكرون نفسه هو الوكيل الأميركي المطلوب في المنطقة وبالتالي يخوّله ذلك فرصة إبرام عقود وتفاهمات تفيده في رحلته الثانية إلى قصر الإليزيه.

قيل للحريري “هذه لحظتك السعودية. هذا التخادم الثلاثي السعودي الفرنسي الأميركي سيعيد فتح أبواب المملكة أمامك”. وبالفعل شرعت باريس في محاولة فتح أبواب الرياض أمام الحريري بشتى الوسائل، لكن تبين أنها موصدة بأقفال فولاذية بوجهه، مثلها مثل أبواب القصر الجمهوري (باسيل عملياً)، إلى حد أن أكثر من شخصية لبنانية وعربية، إلتقت عند تقدير واحد منذ سنة تقريباً بأن لا حكومة لبنانية قبل أيلول/سبتمبر 2021. وبالفعل، طارت رئاسة الحكومة، بعد أقل من سنة من التكليف، من حضن الحريري، بعكس ما كان يشتهي، لتؤول إلى ميقاتي بحماسة فرنسية ترجمها الإستقبال المميز على شرفه في قصر الإليزيه، في 24 أيلول/سبتمبر الماضي.

في هذا اللقاء، كشف ماكرون أمام ميقاتي أن الهوامش الفرنسية أميركياً وسعودياً يمكن تجييرها لمصلحة لبنان، وأبلغه أنه ينوي زيارة الرياض في الخامس من كانون الأول/ديسمبر، وأن ملف لبنان سيكون في صلب جدول أعماله، متمنياً عليه التركيز على جدول أعمال ثلاثي الأبعاد: إنجاز مشروع الكهرباء المؤقت (زيادة التغذية) والإستراتيجي (تلزيم معامل الكهرباء)؛ إنجاز الإتفاق ـ الإطار مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية هذه السنة؛ إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها.

لم يكد ميقاتي يصل إلى مقر إقامته في أحد فنادق روما، حتى إنهمرت الإتصالات عليه، وأبرزها من الإليزيه والأزهر. قال له شيخ الأزهر  إن البابا فرنسيس تحدث معه شخصياً وأنهما تداولا في فكرة الدعوة إلى مؤتمر إنساني دولي يُعقد إما في بيروت أو في القاهرة، وردّ ميقاتي واعداً بمناقشة الإقتراح مع القيادة المصرية ومع الأزهر عندما يصل إلى القاهرة “قريباً”

فجأة، وجد ميقاتي نفسه في مواجهة لغمين متتاليين؛ إنسحاب الوزراء الشيعة بعد إنعقاد الجلسة الرابعة لحكومته ثم الشريط الذي تم بثه لوزير الإعلام جورج قرداحي بعد أيام قليلة. كان ميقاتي على موعد مع زيارة إلى غلاسكو (قمة المناخ). أوكل المعالجة في بيروت إلى خلية أزمة عاشت أقل من يوم واحد. أما في اسكتلندا، فقد تبلغ من الفرنسيين أن معالجة قضية قرداحي هي الممر الإلزامي لطرح ملف لبنان في القمة السعودية ـ الفرنسية.

في بيروت، باءت كل محاولات إقالة أو إستقالة قرداحي بالفشل، كنسياً وسياسياً ودبلوماسياً، إلى أن تحدد موعد الرحلة الميقاتية  إلى روما. في الفاتيكان، وبرغم اللقاء الذي حرصت دوائر الفاتيكان على إعطائه طابعاً خاصاً وعائلياً، إلا أن نتيجته المباشرة تمثلت بـ”كبس أزرار” الكنيسة الكاثوليكية، شرقاً وغرباً. لم يكد ميقاتي يصل إلى مقر إقامته في أحد فنادق روما، حتى إنهمرت الإتصالات عليه، وأبرزها من قصر الإليزيه والأزهر. قال له شيخ الأزهر أحمد الطيب إن البابا فرنسيس تحدث معه شخصياً وأنهما تداولا في فكرة الدعوة إلى مؤتمر إنساني دولي يُعقد إما في بيروت أو في القاهرة، وردّ ميقاتي واعداً بمناقشة الإقتراح مع القيادة المصرية ومع الأزهر عندما يصل إلى القاهرة “قريباً”.

في موازاة ذلك، تبلغت المفرزة الدبلوماسية الفرنسية السبّاقة التي تولت التحضير لرحلة ماكرون السعودية، أنه لا بد من “مبادرة حسن نية” قوامها إستقالة قرداحي “بوصفها ألف باء طرح ملف لبنان في قمة جدة المرتقبة”. سارع الفرنسيون بالتنسيق مع ميقاتي إلى تكثيف إتصالاتهم لبنانياً، وشملت هذه المرة قيادة حزب الله على وجه الخصوص، وتزامنت مع إتصال ماكرون بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، ربطاً بموعد الجولة السابعة من مفاوضات فيينا. سرعان ما تم تذليل “عقدة قرداحي” من خلال “تفهم” سليمان فرنجية من جهة وإنتقال حزب الله من ضفة الرفض إلى ضفة “سنقف إلى جانب القرار المناسب الذي يتخذه وزير الإعلام” من جهة ثانية.

أراد ميقاتي أن يضرب عصفورين بحجر واحد: إستقالة قرداحي وإلتئام عقد حكومته المعتكفة، غير أن الرياح سارت بغير ما يشتهي، فكانت إستقالة قرداحي “لأسبابها الفرنسية”، وذلك قبل ساعات قليلة من وصول طائرة ماكرون إلى دولة الإمارات.

وعندما قال قرداحي في مؤتمره الصحافي إنه حصل على ضمانات من رئيس الحكومة لم تكن متوفرة عندما طالبه بطريرك الموارنة بشارة الراعي بالإستقالة، إنما كان يحاول إحراج ميقاتي الذي تصرف مع الإستقالة بوصفها “مقدمة حتمية لأمر فرنسي ما” لم يكن قادراً على تحديده.

إقرأ على موقع 180  بايدن والخليج.. وداعاً لـ"مبدأ كارتر"  

ومع إنطلاق القمة الفرنسية السعودية، في جدة، كان الفريق الفرنسي الممسك بالملف اللبناني يتقدمه باتريك دوريل، على تواصل مستمر مع رئيس الحكومة اللبنانية، قبل أن يأتي الإتصال من الهاتف الخلوي الخاص برئيس فرنسا الذي قال مُخاطباً رئيس حكومة لبنان إنه يُحدّثه (باللغة الإنكليزية) بحضور ولي العهد السعودي، وبعد مجاملة سريعة، أعطى ماكرون هاتفه إلى بن سلمان، فبادر ميقاتي (بالعربية طبعاً) إلى شكره على تجاوبه، وإلى شكر رئيس فرنسا على مبادرته، مؤكداً إلتزامه بعودة العلاقات إلى سابق عهدها وحرص لبنان على إستمرار وتطوير علاقاته التاريخية الثابتة بالسعودية، مبدياً تقديره لوقوف المملكة الدائم إلى جانب لبنان. وردّ ولي العهد السعودي بأنه ينوي فتح صفحة جديدة مع لبنان، تمنى ميقاتي أن تكون “ناصعة البياض”.

وما أن سّربت دوائر الرئاسة الفرنسية خبر الإتصال الثلاثي، وعمّمت البيان الفرنسي السعودي المشترك، حتى تزاحمت الأسئلة في كل الإتجاهات.

إذا كانت مصلحة “الدولة العميقة” في فرنسا جلية من خلال هذه الصفقات التاريخية مع الإمارات والسعودية، فإنها لم تكن لتحصل لولا الضوء الأخضر الأميركي، بما يعوّض صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا ويفتح الباب أمام جعل الفرنسي وكيلاً لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء القرار الإستراتيجي الأميركي بجعل إحتواء “التهديد الصيني” أولوية لا تتقدم عليها أولوية أخرى

يمكن القول إن الصفقات التي أبرمها ماكرون في الإمارات والسعودية كان متفقاً عليها منذ شباط/فبراير الماضي، ومن إختار التوقيت هو ماكرون نفسه، ربطاً بموعد الإنتخابات الرئاسية الفرنسية في نيسان/أبريل المقبل. وهذه هي الخلاصة الأولى، أي أن السعوديين والإماراتيين وقبلهم إبرام صفقة “توتال” مع العراق بقيمة (27 مليار دولار) أعطوا الرئيس الفرنسي هدية كبيرة بقيمة حوالي مائة مليار دولار، برغم أنه لم تظهر بعد إلى العلن سوى أرقام صفقة طائرات “الرافال” ومروحيات “الكاراكال” مع الإماراتيين (23 مليار دولار)، فيما لم يكشف السعوديون عن أرقام صفقتهم مع فرنسا وهي بعشرات المليارات من الدولارات.

وإذا كانت مصلحة “الدولة العميقة” في فرنسا جلية من خلال هذه الصفقات التاريخية بكل معنى الكلمة، فإنها لم تكن لتحصل لولا الضوء الأخضر الأميركي، بما يعوّض صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا ويفتح الباب أمام جعل الفرنسي وكيلاً لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء القرار الإستراتيجي الأميركي بجعل إحتواء “التهديد الصيني” أولوية لا تتقدم عليها أولوية أخرى، وهذا الأمر يمكن تفسيره من خلال قرار باريس بتزويد السعوديين أسلحة وذخائر لمصلحة حرب اليمن وتسيير دوريات بحرية فرنسية دائمة في مياه الخليج العربي والإستعداد لفتح صفحة جديدة مع سوريا (بدأت عملية تأهيل السفارة الفرنسية في دمشق في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بالترافق مع زيارات قامت بها وفود أمنية فرنسية)، تمهيداً لدخول فرنسا على خط الأزمة السورية بأبعادها المختلفة، من دون إغفال الحضور الفرنسي اللافت للإنتباه في الملف العراقي (لا سيما غداة قمة بغداد). زدْ على ذلك حرص الفرنسيين على التدفق الدائم للنفط إلى أوروبا، في ضوء ما تشهده الأسواق العالمية من تقلبات في السنوات الأخيرة. هذه الوقائع سيُتوّجها الفرنسيون ـ في حال فوز ماكرون بولاية ثانية ـ بالدعوة إلى مؤتمر سياسي تأسيسي شبيه بمؤتمر الطائف قبل نهاية العام المقبل، على حد قول شخصية لبنانية قريبة جداً من الفرنسيين.

بدا التخادم واضحاً أميركياً وفرنسياً وخليجياً، وإستطاع ميقاتي أن يكسب بالنقاط. ردّد أمامه كل من ماكرون والبابا فرنسيس جملة مفتاحية: لبنان نموذج ممنوع سقوطه نهائياً.

يبقى السؤال كيف سيترجم الخرق الفرنسي في جدار أزمة العلاقات السعودية اللبنانية في المرحلة المقبلة؟

أولاً، يجب إهمال البيان السياسي الفرنسي السعودي المشترك في شقه اللبناني، لأنه يحتاج إلى شريك ثالث غير موجود على الطاولة (المقصود هنا إيران). ثانياً، يمكن القول أن ما جرى يُطمئن اللبنانيين في بلدهم أو في دول الخليج بأن الإجراءات العقابية باتت مجمدة حتى إشعار آخر. ثالثاً، يجب رصد كيفية تعامل السعوديين مع ملفين حيويين، أولهما ملف المساعدات الإنسانية للبنان (وعدوا الفرنسيين بمشاركة نوعية لا سيما في المؤتمر الإنساني الدولي المزمع عقده خلال الأسابيع المقبلة) وثانيهما إرتدادات الخرق الفرنسي على قرار سعد الحريري بالمشاركة في الإنتخابات النيابية أو عدمها. إذا مضى الحريري في قراره بالعزوف، فإن ماكرون تنطبق عليه مقولة شارل ديغول في معرض نقد الذات عندما قال إنه لطالما قارب قضايا الشرق الأوسط “بأفكار مبسطة جداً”.

كل ما نشهده حالياً هو مجرد فتح نوافذ هنا وهناك، أما باب التسويات الكبرى الموصد بإحكام، فإن مفتاحه في طهران وواشنطن (مفاوضات فيينا). لكن لا بد من صنعاء ولو طال السفر، فأي مقاربة جدية لملف العلاقات اللبنانية السعودية من خارج ملف حرب اليمن تبقى ناقصة.. وللبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "مباط عال": تفكُّك لبنان سيء أم جيد لإسرائيل؟