الحاضر الذي لا.. يغيب

حاضرُنا ليس استمراراً أو تتويجاً لماضينا الذي هو ليس بداية لمستقبل جديد نصنعه نحن أو غيرنا. هو حاضر أبدي تتكرر فيه التجارب والأفكار، سواء لدى اليمين، أو اليسار، أو الإسلام السياسي، أو العلمانيين، أو غيرهم ممن يتصدون لقضايا الفكر والفلسفة. فكأن كل واحد منهم يعكس الآخر في مسيرته.

نناطح جداراً برؤوسنا ولا نعرف كيف نُغيّر المفاهيم والأساليب لكسره. نعيد الكرة دون حساب موازين القوى بيننا وبين العدو، بالأحرى بيننا وبين العالم. ونادراً ما نبحث في أسباب الفشل أو الهزيمة. بل وبرغم ما حصل من تناطح وانهزام، نعتبر أو فلنقل يعتبر بعضنا أننا منتصرون برغم الكسور في رؤوسنا وبقاء الجدار سالماً. جيلٌ بعد جيل نُردّد الكلام نفسه أو الأفكار نفسها، وبضجيجٍ عالٍ حتى أصبح الكلام المقبول لا معنى له.

مهمة اللغة الإفصاح والتداول والتبادل في الأفكار، لكنها عندنا وسيلة للتعمية لدى أنظمة الاستبداد وحليفها الإسلام السياسي، السني والشيعي.

***

حاضرُنا ليس مما يستدعي الفخر. هو أشلاء ماض من التراجعات والهزائم والأفكار المتكررة والممارسات المنسوخة عما قبلها. لا يصلنا هذا الحاضر بماضي الأمجاد، والازدهار الثقافي والاقتصادي، والانفتاح على العالم بل ما تلاه من تراجع وانحطاط طويلين لا نعرف كيف نُحدّد مدتهما. حاضرٌ لا يختفي بمجرد أن يظهر لأن ليس فيه تجاوز لما مضى وصنع لمستقبل مفعم بالإنجاز والإبداع. قال الشاعر:

فإنك كالليل الذي هو مُدركي/ وإن خِلتُ أن المنتأى عنك واسعُ

يجتر الحاضر نفسه. نخبنا الثقافية والسياسية التي ترى التراث أشلاء بفعل تدمير الكولونيالية له لا تعرف كيف تتجاوزه بإعادة صياغة ما صلح منه وما يتناسب مع الثقافة العالمية التي يُمنَعُ علينا تبنيها. وما تبنّي الثقافة العالمية إلا ابتداع ما يضاهيها كي لا يكون الأمر تقليداً ببغائياً؛ فالإبداع يجب أن يكون سبيلنا لتجاوز الماضي والانخراط في العالم. أسوأ الخيارات هو ما يفعله اليمين الديني، السني والشيعي، الذي يظن أنه يُحيي الماضي بأمجاده بينما هو يؤبد الحاضر بهزائمه وتراجعاته. وهذا ما أدى إليه شعار “الإسلام هو الحل”. فتسلم العلم الديني مكانة العلم الحديث، وتقدم الملالي وأصحاب العمامات طبقات المجتمع. ورسّموا أنفسهم ورثة للأنبياء. فأصيب المجتمع بالعجز. وبات عاجزاً عن الخروج من التقليد، وعن صنع حداثته. ففُرضت عليه حداثة استهلاكية هي قاعدة ثقافة الأشلاء ومجتمع ممزق برغم ما يبدو من وحدة تتحكم بها السطحية والتقوقع حول الذات، وإنكار الواقع والعزوف عن السياسة، بل العزوف عن الإبداع وصنع مستقبل مشرق.

***

مراكز الأبحاث عند غيرنا مواقع للإبداع، وهي عندنا، إن وجدت، مستنقعات الاستنقاع الذاتي. الشعارات التي رفعها اليمين الديني والتي تعم المجتمع بعقائدها وطقوسها تزكم الأنوف وتسد العقول، وتصل بنا الى الوهن.

الثورة العربية للعام 2011 تبعها استبداد أشد مما قبله، وتدمير عُرى مجتمعاتنا، وتشليع ثقافتها، وإغلاق الوعي السائد. فبتنا نمارس القمع الذاتي. لم تخرج الكولونيالية من بلادنا كي تعود بل جدّدت نفسها بإنتاج وعي زائف مصاب بالعجز. فبات استقلالنا هو حكم أنفسنا بواسطة حكومات لها السلطة دون السيادة. ما تغيّر هو امبراطوريات جديدة واجهتها إسرائيل والرأسمالية الغربية من ورائها. استفادت هذه الكولونيالية الامبراطورية من ابن خلدون، بعد أن زيّفته بتكرار مقولته بأن نهوض العرب لا يكون إلا بعصبية دينية فكانت الاتفاقات الإبراهيمية التي يُزمع أن تُعمّم على دولنا فيعود الدين السياسي بعد أن عزفنا عن الخروج إلى العالم، واستنكفنا عن بناء مجتمعات إنتاجية، واكتفينا بأن نكون مجالات استهلاكية، لا تنتج ما تحتاجه بل تستهلك ما ينتجه الغير من أشياء مادية وسلع فكرية. فبات الحاضر هو ما كنا عليه، ويضاف إليه عربدة مقاولات تستنزف مواردنا الطبيعية والبشرية. ليس مقبولاً أن يكون الإنسان سلعة كما صرنا، بل أن يكون ذاتاً فاعلة مفكرة عقلانية، تطلق مستقبلها الى حيث تكون هي مركز العالم لا طرفاً لمراكزه الرأسمالية.

***

يُفترض بالحاضر أن يكون لحظة بين الماضي والمستقبل، فإذا به يمتد أجيالاً من خلال رؤية تاريخية ترى في الإبداع تجذيفاً أو هو مما لا يلزم، نظراً لضخامة مردودات النفط والمعادن التي يستخرجها غيرنا، أو ما ترميه علينا الشركات الكبرى من فتات المائدة، بعد أن استثمرت في مواردنا التي لا نستطيع استخراجها والتمتّع بها، لأننا استنكفنا عن العلم الحديث واعتبرنا العلم هو ما ورثناه في بطون كتب علمائنا القدماء، الذين كانوا قدوة في عصرهم (العباسي والأموي)، لكنها لا تفيدنا من أجل العبر بل من أجل ما يجب الإقلاع عنه.

الكولونيالية جدّدت نفسها وفرضت علينا ما قبلنا به لأننا لم نقم بواجبنا الذي يتطلّب إقداماً حيال الموروث للخروج منه والاندماج في عالم جديد. ليس أن نكون كسلع استهلاكية بل كذوات فاعلة يكون العالم موضوعها. صرنا نقبل من الامبراطورية الإسرائيلية ما كنا نرفضه في السابق، أي في أيام الامبراطوريات الكبرى.

الحاضر المهزوم يجعل الماضي عبئاً، والتاريخ منقطعاً، والعزيمة مشلولة، والمستقبل بعيد المنال. ويبقى الحاضر بهزائمه وويلاته هو مستقبلنا. ما دام المصير يُقرّره لنا أركان الامبريالية، وإسرائيل بالنيابة عنها، فالحاضر مستمر مستقر في أنظمة استبدادية سياسياً ودينياً، والسلطة تحكم دون سيادة، ووهم الاستقلال مستحكم. فنحن وسادتُنا نحتاج الى خرافات تغطي الحاضر المتّهم، وتحجب أسباب الهزيمة، فيتحول ما لدينا من قدرة على المقاومة إلى عقل مستريح

***

الدين السياسي هو أحد أوجه الحاضر الذي يغيب. لا ينتشر الدين السياسي إلا في بيئة قابلة لذلك. لكن هذه بدورها تقبل أنواعاً شتى منه، ومن غير الدين السياسي. ففي الجوانب الاجتماعية هناك أنواع من العلوم التراثية والمهن التي تبقى برغم أنه لم يعد لها لزوم أو لم تعد رائجة سوقياً في سبيل الربح؛ الوعي بالتاريخ يغيب عن أصحاب الدين السياسي. هم مضطرون الى إعادة تكرار ما يقولون في كل أسبوع أو مناسبة؛ فيضطرون الى إعادة الأفكار في طقوس تتكرر، وبذلك تتكلس عقولهم وتتجمد أفكارهم، ويدورون حيث هم دون تقدم، ويغيب عنهم تماماً أن التاريخ ليس فقط للاعتبار وأخذ العبر، بل هو من أجل تجاوز الماضي والإبداع في صنع المستقبل. كل إبداع عندهم ضلالة، وهذه مصيرها الجحيم في الآخرة.

لا يقل أهمية عن ذلك أن الاستقلال لدولة من دولنا لم يقطع الصلة بالسلطة الخارجية التي كانت تفرض استعمارها علينا. ما حدث لاحقاً هو أن العلاقات ذاتها مع المركز الامبريالي أعيد تكريرها أو تدويرها، كما يقول آدم متسيان في كتابه The Modern Arab Kingship الصادر حديثاً (إعادة تكرير ما تُسمى عادة “علاقات تاريخية” كما بين لبنان وفرنسا). فما زلنا نقيم سنوياً قداساً على نية فرنسا. هذا لا يمنع قيام علاقات أخرى مع بلدان أخرى في المركز الامبريالي، وبخاصة عندما يكون هناك تنافس بين دوله، فتنشأ “علاقات تاريخية” جديدة. وهي في حقيقتها علاقات الأطراف بالمراكز الامبريالية، أي أنها علاقات كولونيالية متجددة من دون جيوش احتلال.

إقرأ على موقع 180  ماذا فعلتَ يا سماح؟

الاستعمار يتحوّل الى تبعية، وهذه إلى خضوع بينما دول المركز تمارس هيمنتها الثقافية والاقتصادية والسياسية. حاضر مضى يصير حاضراً راهناً. حتى لو تغيّرت الدولة المهيمنة، يبقى حاضر الاستعمار ولو بشكل جديد. حاضر التبعية راهناً. وهو ما يطلق عليه تسمية الاستعمار الجديد أو الامبريالية الجديدة. الغرب يتقدم في شتى المجالات ونحن ندور حول أنفسنا. فهل يظلمنا من يصف حاضرنا بالتاريخ ذي الحركة الدائرية لا ما يتقدم الى الأمام؟

***

ليس لدينا مخطط توجيهي للمستقبل؛ ما زالت أفعالنا لا تتجاوز ردود الفعل تجاه ما يبادر به غيرنا. الاستبداد يمنع حس المبادرة عند مواطنيه. إذ يحبسهم في قفص الراهن. لكن سلطاته نفسها لا تبادر. إذ هي تخاف أن يقود الأمر الى خلخلة التوازن الهش الذي أسّست عليه. الأجهزة البيروقراطية لا تبادر خوفاً من الاتهام. الأجهزة الأمنية لا يهمها إلا ما يخدم سادتها. يبقى الحاضر كما هو ويمتد عبر الزمن. وكل تطوّر فيها يعتبر إخلالاً بالنظام.

الحاضر هو لحظة وما أن تظهر حتى تختفي. وكل واحدة سبب لأخرى أو نتيجة لها. والإبداع هو السعي لمراكمة اللحظات. في كليات كل واحدة إبهار. اللحظات مثل الالكترونات التي قال عنها إينشتاين في مؤتمر علماء الفيزياء عام 1932 أنه ما إن تمسك بالواحدة حتى يحدث الخلل حولها. فعلّق إينشتاين أن الله لا يلعب النرد. لكن الإنسان يسعى ويلعب ويراكم اللحظات. ويتجاوز كل بناء منها ما سبقه، فيتشكّل المسار ويتعدد ويختار العقل في لعبة نرد دائمة من الأسئلة والشكوك والتواترات الناتجة عن الخوف مما يلي على ما سبق.

يقتضي الإبداع أن لا نندم على زوال ما سبق، وأن لا نتمسك بما يليه. فالحركة دائمة، وما يبدو ثابتاً جامداً هو كتلة من الحركات والمنازعات والتناقضات مؤدية الى نفس متعبة، لا تجد قراراً وتبقى تتوقعه في اللحظة التالية دون تحقيقه. حاضرنا غير ذلك. فالعقل مستريح والنفس مطمئنة والخلاص بيد الخالق، والإنسان عديم الإرادة أمامه كما قال الأشعري، أمام من يزعم تمثيله على الأرض من أنظمة الاستبداد والعلماء ورثة الأنبياء والدين السياسي ومن يديرهم من قوى امبريالية. ما زالت التبعية تنخر عظامنا، والخضوع يشل قوانا، والوعي الزائف يؤدي بنا الى حيث لا نجد سبيلاً للتقدم والنهوض. ويحسب الذين منا لم تأت حوادث الماضي لصالح أفكارهم أن معركتهم مع التاريخ. وهي في حقيقتها مع الحاضر الذي يُنظر من خلاله الى الماضي. فالحاضر المهزوم يؤدي الى رؤية عوجاء للماضي. وإذا كانت لنا أمجاد فهي ممسوخة عن هذا البعض.

***

الحاضر المهزوم يجعل الماضي عبئاً، والتاريخ منقطعاً، والعزيمة مشلولة، والمستقبل بعيد المنال. ويبقى الحاضر بهزائمه وويلاته هو مستقبلنا. ما دام المصير يُقرّره لنا أركان الامبريالية، وإسرائيل بالنيابة عنها، فالحاضر مستمر مستقر في أنظمة استبدادية سياسياً ودينياً، والسلطة تحكم دون سيادة، ووهم الاستقلال مستحكم. فنحن وسادتُنا نحتاج الى خرافات تغطي الحاضر المتّهم، وتحجب أسباب الهزيمة، فيتحول ما لدينا من قدرة على المقاومة إلى عقل مستريح، ينخر في دماغنا ولا دواء له. فكأنه سرطان ينتشر في أجزاء المجتمع.

ليس الحاضر ممتداً، وقد كان يتوجب أن يكون لحظة هاربة، لكن طالما نحن نُكرّر أفكارنا ونجتر أساليبنا، ويمتنع علينا الإبداع، فإننا نبتهل إلى الله كي ينقذنا. فالعقل المستريح يؤدي بصاحبه إلى الاستقالة من التاريخ والإقلاع عن التجاوز والإبداع والاستنكاف عن الخروج إلى العالم واستنكار الحداثة، وهو لا يعلم، أو يتجاهل، أنها (أي الحداثة) مقيمة فينا ومفروضة علينا ما دمنا مجتمعاً استهلاكياً لا منتجاً. هي حداثة متخلفة والفرق بين ما عندنا منها وما عندهم هو أنهم ينتجون الأفكار والسلع، ونحن نعجز عن الإبداع وتجديد الفكر، فنتحول إلى سلع في مجتمع استهلاكي. السلع التي ترد إلينا نلتهمها فنصير حاصلاً لها. تتغلغل السلعة الواردة فينا وتحولنا إلى سلعة ثقافية ومادية. هي في أحشائنا وما نحن إلا مظهراً لها.

الجيوستراتيجية تطغى على التحليل عندنا لأننا نخجل من حاضرنا الممتد. وهذا هو الفساد الأكبر. ميّز الفقهاء بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، وعلينا أن نميّز بين الفساد الأكبر والفساد الأصغر. حاضرنا عصر ببغاوات تقول ترديداً ما درجت عليه أجيالنا السابقة، وأعلاها صوتاً أو أصواتاً هي النخب التي تنكبت “المقاومة” منذ أحمد الشقيري مروراً بالحركة الوطنية اللبنانية إلى المقاومة، والتي حوّلها العجز إلى استسلام كان يمكن الخلاص منه بالسعي، سواء كان على صواب أو على خطأ. فالسعي يقتضي خروج الحاضر من الماضي، وتحويل الماضي إلى تاريخ.

ليست “مقاومة” تلك التي تتحوّل إلى قداسة تستعلي على الدنيا وتفقد فاعليتها فيها، لا لشيء إلا لأن الحاضر مستنكر عندها. تمعن المقاومة في صنع نفسها، وتكون صدى لذاتها، وقد حسبت أن لها عدواً، فإذا به هو الكامن في أصحابها من حقد على التاريخ وعلى أصحابه.

صار واجباً الانتقال من المقاومة، وفيها تكرار ما سبق وصنمية القداسة، إلى الإبداع، وفيه إقلاع عن الماضي والتكرار؛ والنخب عندنا تستحق جائزة نوبل على الاجترار والاختباء وراء التحليلات الجيوستراتيجية. شعار “الموت لأميركا” يجب أن يتحول أو يقترن بنقد للذات غير الخائفة من السؤال، والتي غاب عنها ما ردّده فقهاؤنا أن اليقين غلبة الظن.

إذا أمعنا النظر في حاضرنا وما أصابنا من دمار في غزة والضفة وجنوب لبنان وبقاعه، إلى سوريا والعراق واليمن وبقية المشرق، نراه كامناً في لا وعينا للتاريخ ورؤيتنا المريضة للحاضر الذي لا يكاد يكون إلا ماضياً، جاء تأبيده محمولاً على العقل المستريح الذي يُكرّر نفسه.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أعتذر من كلِّ يائسٍ.. لُبنانك الجميل قد توارى!