

أعتقد، بصراحة وبجدّيّة، أنّه حان الوقت لنحاول تقديم جواب عقلانيّ وواقعيّ معاً على هذا السّؤال.. خصوصاً لمن بات في جعبتهم، ككاتب هذا المقال، قَدَر مُعيّن من الخبرة الفكريّة والنّظريّة والعمليّة – وحتّى التّطبيقيّة – في مجال ما يُسمّى عادةً بالاقتصاد الاسلاميّ و/أو بالصّيرفة الاسلاميّة و/أو بالماليّة الاسلاميّة إلى ما هنالك من تسميات تصبّ في خانة ما أشرنا إليه من خلال “مفهوم الاقتصاد الماليّ الاسلاميّ”.
السّؤال المركزيّ إذن، كما أشرنا، وانطلاقاً من مصطلحات تمّ بناؤها و/أو تطويرها مفاهيميّاً في كتابات سابقة ولا مجال لتفصيلها في هذا المقام طبعاً:
- انطلاقاً من تجربتي البحثيّة النظريّة والعمليّة والتّطبيقيّة معاً: هل أعتقد، اليوم وبعد هذه السّنين.. أنّه يُمكننا – حقّاً – استقراء وبناء مفهوم جدّيّ وعمليّ-براغماتيّ “لاقتصاد ماليّ اسلاميّ”، من خلال كُتُب وقواعد وأحكام وآراء وأعراف التّراث النّقليّ الاسلاميّ (وعلى رأسه، التّراث الفقهيّ الاسلاميّ)؟
كذلك انطلاقاً من أبحاثي وكتاباتي السّابقة نفسها، كما ومن بعض أهمّ المراجع المؤسِّسة لهذا المجال البحثيّ، وعلى رأسها كتاب” إقتصادنا” للشّهيد العراقيّ المرجع السّيّد محمّد باقر الصّدر.. علينا التّذكير بأنّنا، هنا، تحديداً: في صدد بحث “الأيديولوجيّة أو العقيدة الإسلاميّة في الاقتصاد والأسواق الماليّة” لا بحث “علم الاقتصاد أو العلم الماليّ” بالمعنى المعاصر. الهدف هو استقراء (Induction) الأيديولوجيا أو العقيدة.. لا العلم بالمعنى التّجريبيّ-الأمبيريقيّ الحديث.. ولكلّ من هذه المفاهيم أصولها وآثارها العميقة، ولا مجال هنا إلّا للإحالة إلى ما سبق من قَولٍ ومن مَقال.
إذن، كيف يُمكنني، اليوم، اختصار اجابتي على هذا السّؤال، خصوصاً من زاوية العمل والمؤسّسات والأدوات المصرفيّة والماليّة، وهي عماد الاقتصاد في عصرنا هذا – ذي الهَيمَنة الرّأسماليّة-النّقديّة أو ذي الهَيمنة الرّأسماليّة-الماليّة كما يُقال على الدّوام (والأحسن برأيي أن نقول: ذي الهَيمنة الرّأسماليّة-النّقديّة-الماليّة)؟
هل نحن أمام “سرّ إلهيّ” استودَعَه الرّحمنُ سبحانَه – بشكل أو بآخر – ظاهرَ أو باطنَ أبوابِ الفقهِ الاسلاميّ.. ولكنّنا لم نكتشفه و/أو لم نطبّقه بعد؟ أم أنّنا أمام وَهمٍ مُبين، وأمام أضغاثِ أحلامٍ تَدورُ في ذهنِ بعض المتحمّسين من الاسلاميّين؟
***
في الحقيقة، لا شكّ في أنّ اجابتي العامّة ستفاجئ الكثيرين، خصوصاً في هذا التّوقيت، ولكنّني أعتقد – بالفعل، وبأمانة فكريّة – وبناءً على تجربة نظريّة وتفكّريّة (وتأمّليّة) وتطبيقيّة مُعيّنة:
- أنّه يُمكن، من خلال عمل استقرائيّ (Inductionnel) مدروس ورصين على قواعد وأحكام وآراء ونصوص التّراث الاسلاميّ (لا سيّما منه الفقهيّ): أنّه يُمكن بناء مفهوم (أو تصوّر أو نموذج-مثاليّ[1]) مُهيمِن بشكل واضح.. لما يُمكن تسميتُهُ بدقّة أكبر إذن “بالنّموذج الاسلاميّ (الفقهيّ) للاقتصاد الماليّ”.. يكون متّسقاً، ومتماسكاً، وعقلانيّاً، وقابلاً للتّجربة بل وللتّطبيق (حتّى من وجهة نظر المفاهيم والنّشاطات المُعاصرة)؛
- وباللّغة العلميّة لعصرنا، فإنّ أهم معالم هذا النّموذج-المثاليّ (Ideal-type) بالتّالي، لا سيّما من زاوية المبادلات والأدوات والمؤسّسات والأسواق المصرفيّة والماليّة، يمكن اختصارها كما يلي مع التّبسيط غير المضرّ للمقصد:
- أنّ الأصل في المعاملات والنّشاطات التّجاريّة والماليّة هو الاباحة، طالما لم “يَثبُت” العكس بالنّصّ و/أو بالعقل (ولا داعيَ للولوج هنا في تفاصيل هذا الجانب ذي البُعد الفقهيّ المعروف، مع التّشديد على أهمّيّته المفاهيميّة-الاقتصاديّة)؛
- أنّ الأصل هو الاعتراف – إلى حدّ بعيد نسبيّاً، وبشكل أو بآخر – بمفهوم (مشروعيّة ومقبوليّة) المُلكيّة الخاصّة، أو “الحقّ الخاصّ في المُلكيّة” (دون دخول هنا في نقاش التّسميات التّفصيليّة): طالما أنّ هذه “المُلكيّة” قد اكتُسبت بطريقة مشروعة (أيضاً، لا داعيَ للولوج هنا في تفاصيل هذا الجانب ذي البُعد الفقهيّ، ولكن ذي النّتائج الاقتصاديّة المحوريّة[2])؛
- وبالتّالي فإنّ الأصل أيضاً هو القبول – في المبدأ – بأنواع الأجر (Revenu) والعائد (Rendement) على هذه “المُلكيّة الخاصّة” (وعلى “العمل” بطبيعة الحال؛ وكذلك على الأرض وعلى الماكينة.. إلى ما هنالك من وسائل انتاج معروفة).. ولكن ضمن اطار احترام شروط عامّة صارمة، تُدخلنا في الزّوايا الجوهريّة التي يتميّز من خلالها هذا “المفهوم الإسلاميّ” شديد الحساسيّة تجاه مفهوم العدل – بل حتّى التّوازن – في المعاملات والمبادلات. وأهمّ هذه الشّروط، أيضاً باختصار وضمن نفس الطّريقة في التّبسيط:
- أنّه لا أجر (Revenu) ولا عائد (Rendement)، ولا ربح (Profit) بشكل عامّ، بلا وجود لمُلكيّة مشروعة و/أو لعمل مشروع. وبالتّالي، لا يُمكن تخيّل أن يقبل تصوّر عامّ كهذا أن يربَح أحدهم بغير مُلكيّة ملموسة وحقيقيّة و/أو بغير عمل ملموس وحقيقيّ (وهذا ما يضرب نظريّة الفائدة النّقديّة-المصرفيّة-الماليّة إلى حدّ بعيد، مهما حاولنا تجميل الصّورة أو تمويهَها، خصوصاً إذا ما اعتبرنا أنّ النّقد Monnaie لا يُمثّل في ذاته مُلكيّة حقيقيّة لعينٍ أو لوسيلة انتاج.. وهذه قضيّة فلسفيّة وقانونيّة كبيرة لا مجال لتفصيلها هنا. وهذا ما يصطدم بعمق كذلك بعدد كبير من زوايا النّشاط الماليّ “الرّأس-ماليّ” المُعاصر القائم على المبادلات الاعتباريّة والرّقميّة وما إلى ذلك)؛
- أنّه لا أجر ولا عائد ولا ربح (أو لا “خَراجَ”) لأيّ من وسائل الإنتاج من غير مخاطرة تجاريّة حقيقيّة (وقد ناقشنا، مع عدد من الباحثين قبلنا وبعدنا، أعمال الشّهيد الصّدر نفسه حول المسألة، ومن أبواب الفقه الشّيعيّ نفسه، مع التّشديد على أنّ وجود المخاطرة الحقيقيّة المُرتبطة بالمُلكيّة وبالعَمل هو ضمان لتثبيت وجود هذين المَفهومين أي المُلكيّة الحقيقيّة و/أو العمل الحقيقيّ. وهذا الرّكن يضرب أيضاً ومجدّداً نظريّة الفائدة على النّقد من أساسها، ويصطدم بأيّ عقليّة ريعيّة و/أو استغلاليّة في الاقتصاد والمبادلات)؛
- وهنا نصل إلى النّقطة الأكثر جوهريّة بالتّأكيد بالنّسبة إلى تقنيّة التّبادل والهندسة المصرفيّة والماليّة المعاصرة: وهي مفهوم أنّ بَيْع الخَطَر[3] (Vente du risque) كما يحدث نموذجيّاً اليَوم من خلال أدوات التّأمين (Assurance) التّجاريّ أو من خلال أدوات التّحوّط (Couverture) الماليّ.. هو غير مقبول في أصل الأمور وجوهرها. في حين أنّ المقبول – بل المستحبّ المطلوب، المقصود – هو: مُشاركة الخطر أو التّعاون عليه (Partage ou cooperation). وكما بَيّنتُ في أبحاث سابقة، فإنّ التّصوّر نفسه يذهب إلى أنّ مقبوليّة – أو مشروعيّة – بيع الخطر لا تحصل.. إلّا في حال غيابٍ مُثبَت لأيّ بديل تشاركيّ أو تعاونيّ في عصر مُعيّن – يكون متماسكاً وقابلاً للتّطبيق (ومُجدياً أيضاً).
هذه هي الأركان المفاهيميّة الأساسيّة لهذا النّموذج، والتي يتوجّب ذكرها في مادّة كهذه برأيي.
والآثار والنّتائج والعواقب المنبثقة منها والمترتّبة عليها: عميقة جدّاً، وبنيويّة، كما يعلم الباحثون والعاملون في المؤسّسات المصرفيّة والماليّة، وكما بيّنّا في السّابق. مفاهيميّاً، ليست مسألة شكليّة أبداً، بمعزل عن تجربة “المصارف الاسلاميّة” الحاليّة (أحيل إلى ما يلي أيضاً).
بالمعنى المعاصر: نحن في سياق فلسفيّ ومفاهيميّ ونظريّ وتقنيّ.. يُريد دفع الاقتصاد والمبادلات الماليّة والأسواق في اتّجاه تشاركيّ-تعاونيّ راديكاليّ، وإلى أقصى حدّ مُمكن.
في المبدأ: يتوجّب على المصارف أن تلبس لباس التّمويل التّشاركيّ-التّعاونيّ الرّاديكاليّ حيث استطاعت ومتى استطاعت.. وكذلك المؤسّسات الماليّة والصّناديق الاستثماريّة وجميع أدوات التّمويل والتّحوّط.. إلى آخر القائمة. الآثار المقصودة.. جذريّة وثوريّة أكثر بكثير ممّا يُمكن أن نتخيّله تلقائيّاً كما أشرت. وهذا “المقصد” أو “المعنى” هو ما يتمّ استقراؤه جوهريّاً.. من خلال دراسة نصوص وأبواب التّراث الاسلاميّ التّقليديّ.
كما أسلفنا، فمنهجيّة “المفهوم الكانطيّ” (أو “النّموذج المثاليّ الفيبريّ”) – ضمن هذا السّياق البحثيّ تحديداً، ومع التّكييف الملائم والتّطوير المدروس – تهدف إلى الوصول لتأويل المعنى/المقصد وراء النّصوص والقواعد والأحكام، قبل ترجمتها بالمعنى المفاهيميّ المعاصر.
***
ليست هذه الأركان المفاهيميّة سهلة وشكليّة العواقب إذن، ولا هي ساذجة أبداً بالمعنى المفاهيميّ-النّظريّ. بالعكس: هي، باختصار، تدفع نحو تبنٍّ مُعمّمٍ – حيث أمكن – لأدواتٍ ولمؤسّساتٍ ولأسواقٍ ولنشاطاتٍ – بل ولخطابٍ ولفلسفة ٍمصرفيّة-ماليّة.. تقوم جوهريّاً على المُشاركة والتّعاون // لا على بيع الخطر (مع التّبسيط المدروس وباختصار). وبالتّالي: هي تريد بناء واعتماد أدوات وتقنيّات ومؤسّسات وأسواق.. لا تقوم على ما يُقرّب العمل المصرفيّ والماليّ من المُقامرة (وبالتّالي أيضاً: لا تقوم على ما يُقرّبه من التّنافس العدائيّ، ومن المعادلات الصّفريّة التي “لا أربَحُ فيها أنا، إلّا إذا خسرتَ أنت، والعكس صحيح”[4]).
***
خلاصة القول هي أنّ في الأركان – أو لنقلْ في البذور – المفاهيميّة السّابقة الذّكر.. ما يكفي لبناء ولتطوير ولتطبيق نموذج جدّيّ “بديل” عن النّموذج الرّأسماليّ-الماليّ (Capitalisme financier) الرّاهن، وذلك من زوايا متعدّدة أساسيّة. وقد بيّنتُ في السّابق كيف استعنت، معرفيّاً ومنهجيّاً، بالفلسفة الكانطيّة إذن (خصوصاً في ما يعني نظريّة “المفهوم”) وبالمدرسة الاجتماعيّة التّأويليّة المتأثّرة بها، خصوصاً المدرسة الفيبِرِيّة (وخصوصاً في ما يعني نظريّة “بناء المفهوم” في علوم الاجتماع، وفي ما يعني الدّور المحوريّ للمعتقدات الدّينيّة وللقِيَم الأخلاقيّة وغيرها في بناء النّظم الاقتصاديّة والماليّة).
السّؤال الجوهريّ التّالي يُصبح هنا (مع التّذكير بأنّنا أمام مفاهيم يُمكن استقراؤها من التّراث الاسلاميّ ولكنّها عالميّة في جوهرها): هل هناك من يقوم اليوم بعمل جدّيّ في سبيل تطبيق هذا الاطار المفاهيميّ المُغري في المبدأ.. في عالمنا الرّاهن؟ الحديث طويل، ولكنّني سبق أن أعطيت أمثلة كثيرة حول أنّ أغلب “التّطبيقيّين” المعاصرين لا يزالون يذهبون في اتّجاه “الحيلة” – أو لنقل “الاستنساخ” حتّى لا نتعدّى على من هم صادقو النّيّة. أعني طبعاً: استنساخ المفاهيم والأدوات الرّأسماليّة.. بشكل مُخالف للخطاب النّظريّ الغالب.
أمّا الـ – لماذا، فلها قولٌ ومقالٌ لاحق إن شاء الله.. ولكن لنقلْ اليوم، باختصار، إنّنا أمام مزيج من كَسَلٍ للعقل التّأويليّ الاسلاميّ، ومن انبطاحٍ واعٍ – و/أو لا-واعٍ – أمام مفاهيم القوّة المُستعمِرة المُهَيمنة (عداك عن مفاعيل قوّة البروباغاندا التي تقوم بها هذه الأخيرة، بهدف تسخيف أيّ عمل – ولو كان ذا طابع كونيّ – على استبدال مفاهيمهما وطُرُقها العمليّة).
[1] هذه مصطلحات محوريّة ذات أبعاد فلسفيّة ومنهجيّة وتقنيّة عميقة، فصّلتها في أبحاثي وكتاباتي السّابقة.
[2] في العلوم الاقتصاديّة، وفي مجال الفلسفة الاقتصاديّة، فإنّ مسألة “الملكيّة الخاصّة” أكثر من محوريّة كما تعلم.. بل قد يقول قائل إنّها هي المسألة الجوهريّة. وهذا، بالمناسبة، جانب يجعل الكثيرين ينظرون إلى العقيدة الاسلاميّة على أنّها أحد العقائد “اللّيبراليّة” وربّما “الرّأسماليّة” في الاقتصاد والماليّة.. وهذا بحث آخر.
[3] لكاتب هذا المقال بحث مُطوّل وكتاب حول نظريّة “بيع الخطر” هذه، وشبيهتها “الاسلاميّة”: نظريّة “بيع الغَرَر” بتعبير فقهاء الإسلام.
[4] ينبغي التّشديد على فضل الدّكتورين محمود الجمل وسامي السّويلم في ادخال هذه المفاهيم العصريّة إلى عالم الأبحاث الاقتصاديّة والمصرفيّة والماليّة “الاسلاميّة”.