الطبقة والهوية.. الثورةُ وانهيار حضارات!

كل علاقة بين الفرد والدولة خارج إطار المواطنة هي مما يدعو إلى الخجل، كذلك كل حديث عن الطوائف وحقوق كل منها وما يسمى مظلومية الأقليات. لكن المدهش هو أنه كلما جاء وفد من الديبلوماسيين إلى بلادنا، وبخاصة إلى سوريا في هذه الأيام، فهو يعزف على وتيرة الأقليات وحمايتها. كأن المجتمع لا يتشكّل إلا من طوائف لكل منها هوية. لكأنهم يريدون التأسيس على الهويات لا على المواطنة، وعلى التحليل الهوياتي لا الطبقي.

في التحليل الهوياتي يتشكّل كل مجتمع من طوائف تجمع كل منها مطالب، وكلما صغرت الطائفة عددياً، زادت مظلوميتها وارتفع حجم حقوقها المُطالب بها. وصار لها ما ليس لغيرها على الصعيد الأخلاقي، وعلى ذلك يترتب افتراض سياسي مبني على أن “الأكثرية عندما تحكم” فهي تتربّص بالآخرين. يبدو الأمر وكأنه” صراع الحضارات”، كما ورد عند صامويل هنتنغتون، الذي قسّم العالم إلى “حضارات”، يكون الصراع بينها. فكأن الصراع داخل كل حضارة لا يفوق مثيله بين كل حضارة وأخرى. وكأن الاختلافات والتعددية وفجوات الدخل والثروة داخل كل منها لا تأثير لها على وحدة الحضارة التي اعتبرها أساساً وحدة متجانسة.

يتهاوى التحليل الهوياتي أمام الطبقي. وما يعتقده أهل المظلوميات ومن يسمون أنفسهم بالأقليات أن لهم الحق ما ليس لغيرهم، وأنهم ذوو تفوق أخلاقي لكونهم لم يتلوثوا كما الأكثرية في ظلم الآخرين، وأن ما أصابهم عبر التاريخ يخوّلهم الثأر لأنفسهم لما لحق بهم منذ العثمانيين حتى اليوم. وقد نشأنا على كره الدولة العثمانية إذ كنا نرى فيها شيئاً من الاستعمار الذي سبق الاستعمار الغربي، وأخطأنا في اعتبار بلادنا العربية بعد استقلالها قد تحرّرت من الامبريالية التي لم نرَ فيها أشكالاً جديدة لا تفسر ولا تفهم بالقديم من المفاهيم التي تنطبق على الاستعمار المباشر والاحتلال، وما كان يرافق ذلك من تحكم وسيطرة، ونهب لموارد الأرض والمجتمع.

الآن نرى بلادنا العربية تخضع لأنواع النفوذ الأجنبي، وأحياناً الاحتلال، والتدخّل في شؤوننا الداخلية، بما يفوق الاستعمار التقليدي، وتمارسه إلى جانب دول الغرب، ما نُسميها “الدول العظيمى” في منطقتنا، مثل تركيا وإيران. سوريا، مثلاً، تخضع لعدة أنواع من الاحتلال وما يستتبعه ذلك من تحكّم وسيطرة.

الاستعمار والانفصال

يُحتّم علينا التحليل الطبقي أن نرى “الأكثرية” أكثريات (وبالتالي أقليات) تخضع لنخبة سياسية تسيطر عليها، وتمارس عليها ما يفترض أنه قد أصاب الأقليات؛ فالمظلومية تُصيب الأكثرية بأقلياتها طبقياً كما أصابت الأقليات الهوياتية، وذلك بسبب الفارق في الأعداد التي يؤدي احتسابها إلى اكتشاف أن مظلومية الأقليات الأكثروية تفوق مظلومية كل من الأقليات الأخرى. تحليل المظلوميات على أساس طبقي يُعطينا نتائج متناقضة للتحليل الهوياتي. وكل تحليل مبني على ظاهر الأمور يخالف الواقع. ولا يجوز لنا إلا التحليل، بل التفكير عامة، إلا على أساس المواطنة، كما أحسن الجواب أحد البطاركة المسيحيين الذي كان يخاطبه مقدم البرنامج على الشاشة واصفاً إياه أنه من الأقليات، فرفض ذلك غاضباً، قائلاً أنا مواطن ولا تحاورني إلا على هذا الأساس.

نحن مجتمعات قديمة، تُصاب فيها المذاهب أو الطوائف مع الزمن بانشقاقات، تتكاثر مع تقادم الأيام، ومع تراكم الأحداث. ليس ذلك فقط، بل هناك إثنيات لم تعد ترى في الاندماج ضمن الدولة العربية أمراً مرغوباً كما كان الأمر أيام صلاح الدين الأيوبي مثلاً. كذلك البربر في أيام طارق بن زياد. وذلك أمر تنامى مع صعود القوميات. وهناك شواهد تاريخية على أن التدخلات الاستعمارية وجّهتها صوب الانفصال. وما زاد الطين بلة أن عهود الاستبداد الاستقلالية أمعنت في التطرف القومي لتوليد شعور بالمغايرة عند هذه الإثنيات. فاشتد نزوعها نحو الانفراد بهوياتها.

الاستعمار.. والطبقات

التعددية في بلادنا العربية أمر محتوم، لكن سياسات الحكام الخاطئة والاستبدادية ما أعلت شأن الدولة على ما عداها وحسب، بل وطّدت لدى “الأقليات” مشاعر النفور مما اعتبرتها الأكثرية، وتزايدت أوهام الخوف منها، وكأن الأكثرية العددية  أكثرية هوياتية تتربص بالهويات الأخرى. إن حرص الوافدين الغربيين على ما يعتبرونه “أقليات” يخفي إمعاناً في الرغبة بتشتيت المنطقة، كي لا تبقى العروبة ملجأ للعرب كما لغيرهم. معظم العرب، وبينهم السنة، عانوا الكثير من القهر على يد الاستبداد. ألغى الاستبداد السياسة وسحق المجتمع بكل ما يتكوّن منه، ورفع منسوب المظلومية على أساس الهويات. خاف الاستعمار من التحليل الطبقي والسلوك على أساسه. وإذا كانت النيوليبرالية تعم العالم، وهي الرأسمالية في مرحلتها الأخيرة، فإن أكثر ما تخشاه هي تحركات الطبقات الدنيا. وهي أكثرية كل مجتمع، على أساس أن لها حقوقاً منهوبة، ونفوساً مقهورة، وبطوناً خاوية. الجماهير العربية كانت تطالب في ميادين التحرير، أيام ثورة عام 2011، بالكرامة والعيش. وكانت تطالب بحقوقها المعنوية والمادية، علماً بأنه يصعب بل يستحيل الفصل بينهما.

لا بدّ أن تتلو الثورة ثورات. ومن يعتقد أنه يستطيع التنبؤ بفوران الثورة وموعد ذلك فهو واهم وهماً يُعاني منه الجيولوجيون الذين يحاولون توقع زمن الزلازل. الثورة حدث تفوق نتائجه على المدى الطويل ما يتحقق على المدى القصير. وقد تعوّدت نخبنا الثقافية والسياسية وأصحاب التفكير الاقتصادي منها أن لا تفكّر إلا بالنتائج المباشرة.

إنّ شعار “أميركا أولاً” وما يصاحبه من شعارات أميركية عن نية ضم مناطق ودول أخرى لا يؤدي إلا إلى طريق مسدود. ولا يستبعد أن تكون النهاية أبوكاليبتية (يوم القيامة) تصيب كل البشرية. وانهيار حضارات بأكلمها من داخلها وبعوامل ذاتية هو أمر تكرّر عبر التاريخ، وإن كان هذه المرة وبالاً يصيب كل البشرية، يقود إليه التفوق العسكري والتقني

المواطنة أولاً

لا تُبنى السياسة على المظلومية، ذلك أن هذه مرتبطة بالهوية، وهي نقيض الإرادة التي لا سياسة بدونها. المظلومية كالهوية تعلّقٌ بالماضي، وهي إلقاء التاريخ بمعنى أن التاريخ هو الماضي في تطوره وفي جوهره التخلي عن الثبات والجمود. السياسة عكس ذلك تماماً. لذلك كان لزاماً على ادعياء المظلومية إلغاء السياسة واللجوء إلى الاستبداد. بالإضافة إلى ذلك، وهذا هو الأهم، أن المجتمعات تفقد تماسكها باعتماد سياسات المظلومية، وما يستتبعها من اعتماد الهوية والركون إلى ثبات الماضي وجمود التاريخ وزواله. لا أمل في مجتمع يحكمه أصحاب المظلومية، ولا في مجتمع تحكمه الهوياتية الأكثروية. فكل منهما قائم على أوهام قاتلة.

إقرأ على موقع 180  بوتين بين بطرس الأكبر وهنري كيسنجر

الأمل لا يكون إلا بالمواطنة للجميع في إطار دولة تزول فيها اعتبارات الأقليات والأكثريات المزعومة. فالمواطنة بطبيعتها وبالتعريف مساواة أمام القانون، ومشاركة في الدولة، ورسوخ في المجتمع، وانطلاق في الإبداع، وحرية تنفك معها وفيها القيود. المواطنة هي انصراف إلى المستقبل، وخروج من الماضي، وإغناء للتراث بإحياء ما يستحق فيه البقاء. والسياسات الهوياتية نقيض كل ذلك. وفيها إماتة للمجتمع، وطمس للدولة، وتجهيل للأفراد، وزرع للفتنة، وتفكيك للمجتمع. والفرق بينهما هو ما بين المعرفة والجهل، والكرامة وسوء النية، والكبر وحطة الأخلاق.

الوعي الطبقي

النضال ثورة على المظلومية، لا على الظلم وحسب، بل إزالة الوعي المرتبط به هوياتياً. هناك ظلم وحيد يستوجب مقارعته وهو الظلم الطبقي. وهو وحده الظلم الحقيقي، وأنواعه الأخرى تبنى عليها الأوهام. فالعامل أو الفلاح وكل ذوي الأجور يظلمون أولاً، وقبل كل شيء لهذه الصفات، لا لهوياتهم. والرأسمالية لا تعرف الهوية أو لا تهمها، ولا مبدأ لها إلا الربح، وربح المال الذي لا هوية له بمقدار ما هو قيمة مستلبة. لا تستفيد الرأسمالية من سنية العامل أو شيعيته بل من كونه عاملاً وحسب. وإذا استخدمت الهويات في أمر ما، فإنها تفعل ذلك لتفرّق بين أفراد الطبقة العاملة، وهذا ما فعله الاستبداد في زمن رأسمالية النيوليبرالية. لم تكن الهوياتية من الوعي السائد، إلا في زمن الاستبداد، وتحالفه مع النيوليبرالية الرأسمالية. صاحب الرأسمال، عندما يستخدم أحداً، لا تهمه هويته بل قوة عمله.

مع صعود النيوليبرالية الرأسمالية في أواخر السبعينيات الماضية في عهد رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، تراجعت الحركات النقابية التي كانت التنظيمات الطبقية للعمال وتصاعدت السياسة الهوياتية. وظن أصحاب المظلوميات أن في ذلك دواء لهم، لكنها كانت وبالاً عليهم. لا يخرج أصحاب المظلومية من شرنقتهم المحبوسين فيها إلا بالنضال الطبقي، وذلك عندما يعتبرون أن فقرهم ناتج عن كونهم عمالاً وفلاحين وأصحاب دخل محدود متراجع، لا عن كونهم أصحاب هذا المذهب الديني أو ذاك.

لا عيب في أن تدرّس الأنثروبولوجيا مذاهب وأديان القادمين المهاجرين من الريف الى المدينة، لكن العيب في أن يبني هؤلاء مواقفهم السياسية على أساس هوياتهم، لا على تصنيفهم الطبقي. وذلك ليس إلا لأن الطبقة والاعتراف بها طريق الخلاص. فالوعي يضيق أفقه مع الهويات ويتسع أفقه مع الطبقات، أو مع الوعي بكل منها، والثورة حدث كالزلزال، لكن مادته التي تشعله هي الوعي الطبقي.

القيامة الأبوكاليبتية

أن يعتبر أحدنا المظلومية وما يبنى عليها طريق الخلاص والنصر، هذا شيء يدعو للهزء والسخرية. المظلومية هي وسيلة للانغلاق والاستغلال عند أكباش الطوائف. وقد كان لبنان أكثر انفتاحا عندما كانت الإضرابات فيه مطلبية، كما في إضراب عمال التبغ ومعمل غندور وسكة الحديد، حيث كانت المطالب الإجتماعية تجمع ولا تفرق. وكانت الإضرابات تعم كل لبنان. وقد فشلت ثورة 2019 وقضي عليها في المهد عندما انشقت عنها وعارضتها هوية ما. لقد خلقت تلك الثورة هوية وطنية جامعة فوق جميع الهويات المذهبية والطائفية. وكانت مطالبها مادية للجميع، إلى أن انشقّ عنها من ادعى مذهبية معينة، وأن في تحقق الثورة زوالاً لسلطة تبيّن عشعشة الأوهام فيها خلال الحرب الأخيرة.

إن إسرائيل دولة مذهبية طائفية تداوي عللها بالتقدم المستورد من الغرب ودعمه لها، لكنها سوف تسقط ولو بعد حين بسبب البناء على الهوية المذهبية الطائفية الدينية. وهذا التناقض الأساسي هو ما يُزعزع إسرائيل دولةً ومجتمعاً وجيشاً، برغم تقدم التكنولوجيا فيها، ولو بعد حين مهما طال هذا الحين. سوف تذوب إسرائيل كما ذاب غيرها من أنظمة الاستبداد الهوياتية عندنا؛ وما يعتقده يهود إسرائيل الصهاينة من استثنائية وضعهم سوف يتلاشى مع زوال استثنائية المجتمعات الامبريالية الكبرى، التي هي أيضاً تعتبر الخلاص بالهوية لا بتطوّر الرأسمالية النيوليبرالية إلى شيء آخر تتفوّق فيه الطبقات المسحوقة على من يحكمونها ويتحكمون بها. الوعي الطبقي يُوسّع الأفق الثقافي والمادي تبعاً لذلك، بينما الوعي الهوياتي يُضيّقه ويرجع به إلى الوراء. ألا تراهم يتحدثون عن فيودالية رأسمالية شعوراً من هؤلاء المبدعين بقرب نهاية الليبرالية الرأسمالية وانهيار نظامها بالكامل. دعوهم يرقصون في حفل تنصيب دونالد ترامب ويرفعون قبضاتهم كما النازية من قبل، وكلنا يعرف نهاية هذه.

إنّ شعار “أميركا أولاً” وما يصاحبه من شعارات أميركية عن نية ضم مناطق ودول أخرى لا يؤدي إلا إلى طريق مسدود تكون النهاية ناتجة عن انسداده وضيق أفق أصحابه. ولا يستبعد أن تكون النهاية أبوكاليبتية (يوم القيامة) تصيب كل البشرية. وانهيار حضارات بأكلمها من داخلها وبعوامل ذاتية هو أمر تكرّر عبر التاريخ، وإن كان هذه المرة وبالاً يصيب كل البشرية، يقود إليه التفوق العسكري والتقني. فسلاح الدمار الشامل النووي يُستخدم بكبسة زر. وما يتحدثون عنه من ذكاء اصطناعي لا يعني أكثر من التوسع في استخدام الإنسان الآلي ليحل مكان الإنسان الطبيعي. وهل في ذلك إلا الاستغناء عن الناس بطبقاتهم واقتراب يوم القيامة الأبوكاليبتية؟

إن ابداع السينما الهوليودية في الإكثار من الأفلام حول الأبوكاليبس لهو تحذير آخير.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  بلينكن يختلف مع إسرائيل.. ولا يسحب منها إجازة القتل!