

“لقد وُضِع هذا الكتاب لكي يقدِّم إطاراً نظريّاً وعمليّاً من شأنه أن يساهم في فهمٍ أفضل لكيفيّة اشتغال اللهجات العاميّة والفصحى التي تمكِّن الشعوب من التواصل فيما بينها”، هكذا يوطِّئ المؤلِّف هنري بوييه للترجمةِ العربيّة لكتابه. وهذا الكتاب، يوضح بوييه، صُمِّم ليكون أداة عمل مفتوحة تفي بما يمكن أن نتوقّعه من مقدّمة لمجالٍ واسع مثل علم اللغة الاجتماعي؛ الذي يهدف إلى دراسة حياة البشر داخل المجتمعات التي يساهمون في بنائها. ويُقرّ المؤلِّف بأنّ علم اللسانيّات الاجتماعيّة، الذي يقدّمه في كتابه، إنّما هو علم لغة اجتماعي “ملتزم” لا يكون الباحث فيه محايداً ولا غير مُبالٍ … بل هو عملٌ يدعو إلى التصحيح والتحرّر (ص 39). ولكن، ما هي اللسانيّات الاجتماعيّة؟
عندما نقل اللسانيّون اهتمامهم إلى ما يتعدّى الحدود الضيّقة التي كانوا قد وضعوها لعلمهم الخاصّ، وقرّروا الانكباب على درس العلاقات بين المنظومات والاستعمالات اللسانيّة والوقائع المجتمعيّة، تعيّن عليهم أن يتحفّظوا على البقايا الحيّة من فلسفةٍ معيّنة للّغة. وإذا كان علم اللسانيّات يدرس هذه اللغة من حيث بنيتها ووظائفها، بما في ذلك علم الأصوات والصرف والنحو والدلالة، تخطو اللسانيّات الاجتماعيّة خطوةً أبعد. بحيث، تستخدم مبادئ اللسانيّات لتحليل الظواهر اللغويّة في سياقها الاجتماعي (اللهجات، الازدواج اللغوي، التغيّر اللغوي،..إلخ)، بمعنى أنّها تُعنى بكيفيّة تأثير العوامل الاجتماعيّة على اللغة، وكيفيّة استخدام اللغة للتعبير عن الهويّة الاجتماعيّة، وكيفيّة تغيُّر اللغة مع مرور الوقت بسبب التغيّرات الاجتماعيّة.
يؤكد المترجم الدكتور نادر سراج على تواشج عنصريْ اللغة والاتصال، وعلى العلاقة العضويّة (والمصيريّة؟) التي تمنع أيّ فكاكٍ للّغات عن الهويّة
يقارب كاتب “مدخل إلى اللسانيّات الاجتماعيّة” هذه الأمور من خلال ستّة محاور– فصول (264 صفحة): يقدِّم الفصل الأول، نظرة مغايرة إلى اللغة والألسن في المجتمعات البشريّة؛ ويبحث الفصل الثاني، في التنوّع بوصفه أساساً لممارسة اللغة مع التركيز على ظروف الفعل التواصلي؛ أمّا محتوى الفصل الثالث، فيتمحور حول الجماعات اللغويّة والأسواق اللغويّة وتمثّلاتها؛ ويخصِّص بوييه الفصليْن الرابع والخامس للحديث عن الثنائيّة اللغويّة والازدواج اللغوي واحتكاك اللغات وتداخلها وتشاركها في التفاعلات اللفظيّة. وهو يعترف، بأنّ التنوّعات اللغويّة لطالما أثارت فضوله واهتمامه (ص 38)؛ هذا ويطرح في الفصل السادس والأخير، موضوع السياسات اللغويّة وأهميّة التخطيط والتطوير والتطبيع (التقعيد) اللغوي.
عرّف أكثر من عالمٍ لغوي علم اللغة الاجتماعي بأنّه فرعٌ من فروع اللسانيّات، يهتمّ بالعلاقة ما بين اللغة والمجتمع وبالأسباب والظروف الاجتماعيّة التي تحيط بالحدث اللغوي. لكنّ بوييه يفتتح في كتابه مساراً يربط بين اللسان والمجتمع، انطلاقاً من حياة الإنسان داخل المكان والزمان. وجديده، أنّه يرفد المعارف اللسانيّة الكلاسيكيّة بإضافاتٍ نوعيّة، نظريّة وتطبيقيّة، تهمّ البحث اللساني العربي، وعمادها مروحة واسعة من الشواهد والتجارب. فبرأي مُعرِّب الكتاب، الدكتور نادر سراج، فإنّ “مدخل إلى اللسانيّات الاجتماعيّة” يجتهد لدراسة الهجين اللغوي في تمظهراته وتأثيراته وإسقاطاته، اللغوي منها والهُويّاتي والإيديولوجي. وهو أخضع جرده اللغوي (الألفاظ والتعابير والمقترضات اللغويّة في الكلام المتداول) الذي يعكس بمجمله وجوه استراتيجيّة التواصل اليومي – والميديائي (من ميديا) – لمبضع الباحث اللساني الاجتماعي المتمكّن والمتجرّد.
كباحثة في سوسيولوجيا الاتصال والإعلام، تكمن أهميّة الكتاب، بنظري، في مسألتيْن؛ المسألة الأولى، هي مقاربة بوييه الخاصّة (وعلى طريقته) لنظريّة التواصل اللغوي لرومان جاكبسون أحد روّاد اللسانيّات البنيويّة. فمع هذه النظريّة، التي تُعتبَر من أهمّ النظريّات اللسانيّة الحديثة، ولج الدرس اللساني مرحلة جديدة أُعيد فيها الاعتبار للعناصر المُشكِّلة للخطاب ووظيفة كلّ عنصرٍ وعلاقته ببقيّة العناصر. حيث بيّنت النظريّة، أنّ اللغة تقوم على وظائف أساسيّة في العمليّة التواصليّة، وأنّ معاني الكلمات لا تتجلّى إلاّ من خلال فعل التواصل بمجمله، ويشدّد جاكبسون في هذا المجال على أهميّة السياق. بوييه، وفي تناوله لظروف الفعل التواصلي، يؤكّد بدوره على أهميّة “سياق الكلام/الكتابة، أي المكان والوقت والأهداف التواصليّة والمنزلة/الوضعيّة العائدة للمتخاطبين.. ذلك أنّ التبادلات ضمن الجماعة اللغويّة (وهي طقوسيّة إلى حدٍّ ما)، تحمل تغيّرات في الاستعمالات اللغويّة نسمّيها في بعض الأحيان باسم “نسق الكلام [سجّل الكلام]” (ص 101).
إذا كان موت اللغات موضوعاً يتكرّر في اللسانيّات (الاجتماعيّة) ويُنتِج الفرضيّات والمناقشات المختلفة، غير أنّ هنري بوييه يُعرّج عليه من خلال التشديد على أولويّة أن يُؤخَذ العامل النفسي الاجتماعي بقوّة على محمل الجدّ، لأنّه يمكن أن يكون حاسماً في بقاء اللغة أو موتها. فهذا العامل النفسي الاجتماعي هو “المكانة (الرقيّ)” التي تتمتّع بها “لغةٌ ما” فيما يتعلّق باللغات التي قد تشكّل تهديداً لها
أمّا المسألة الثانية المهمّة، بنظري أيضاً، فتتمثّل في توسّع بوييه في موضوع ارتباط اللغة بالهويّة التي يعتبرها أداة التواصل والوعي، إذْ إنّه “في جميع أنحاء العالم يحشد الرجال والنساء جهودهم للدفاع عن لغةٍ مهدَّدة بالانقراض و/أو للنهوض بالتعدديّة اللغويّة” (ص 202). ويتوقّف المترجم الدكتور سراج بشكلٍ أوضح عند هذه النقطة، مستنداً إلى رأي أكثر من عالم لغوي، للتأكيد على تواشج عنصريْ اللغة والاتصال، وعلى العلاقة العضويّة (والمصيريّة؟) التي تمنع أيّ فكاكٍ للّغات عن الهويّة. ويمهّد هذا الكلام، في الواقع، لأجمل ما طرحه الكتاب وتوسّع فيه، ألا وهو مفهوم “موت اللغة”. فإذا كان موت اللغات موضوعاً يتكرّر في اللسانيّات (الاجتماعيّة) ويُنتِج الفرضيّات والمناقشات المختلفة، غير أنّ بوييه يعرّج عليه من خلال التشديد على أولويّة أن يُؤخَذ العامل النفسي الاجتماعي بقوّة على محمل الجدّ، لأنّه يمكن أن يكون حاسماً في بقاء اللغة أو موتها. فهذا العامل النفسي الاجتماعي هو “المكانة (الرقيّ)” التي تتمتّع بها “لغةٌ ما” فيما يتعلّق باللغات التي قد تشكّل تهديداً لها (ص 186).
ينتهي الكتاب بفصلٍ مخصَّصٍ للحديث عن السياسات اللغويّة التي يرى صاحب النصّ أنّها، هي، مَن له الفضل في إكساب اللسانيّات الاجتماعيّة شرعيّتها الكبيرة، وذلك من خلال الطبيعة “العلاجيّة” لتدخّلاتها. ويشير، إلى وجوب ألاّ “تقف سياسةٌ لغويّة ما، عند مرحلة التصريحات، شأنها شأن أيّ سياسةٍ اقتصاديّة وتربويّة وصحيّة و…غيرها، بل عليها أن تضع موضع التنفيذ نظاماً، وأن تتّخذ عدداً من التدابير. بذلك، ننتقل إلى مستوى آخر، هو مستوى التدخّل السياسي اللغوي الملموس: من ثمّ نتحدّث عن التخطيط اللغوي أو عن التطوير (أو حتى التقييس) اللغوي” (ص 203).
لكنّ تطبيق السياسات اللغويّة دونه صعوبات. فما من شكّ، أنّ الظروف التاريخيّة والاجتماعيّة والعرقيّة والاقتصاديّة والديموغرافيّة…إلخ، تعمل في اتجاه التمايز القوي في الإدارة المؤسّساتيّة اللغويّة. فالدول الأفريقيّة التي رغبت في إقامة ترتيباتٍ لغويّة بعد فترة إنهاء الاستعمار، على سبيل المثال، لم تكن تمتلك دائماً الوسائل الكفيلة بتلبية طموحاتها (بخاصّة الوسائل الماليّة). كما أنّ بعض حالات التعدّديّة اللغويّة التي تعيشها أفريقيا، حيث يتوافق تعدّد المجموعات العرقيّة مع تعدّد اللغات المحليّة، لا تسهّل بتاتاً تنفيذ سياسةٍ لغويّةٍ أصيلة. ويخطر على البال هنا، مثلاً، يقول الكاتب “الكاميرون التي تضمّ مجموعةً من أكثر من مئتيْ لغة، والتي يوجد فيها لغتان رسميّتان هما لغتان رئيسيّتان للتواصل الدولي (الفرنسيّة والإنكليزيّة) وقد جاءتا من الإرث الاستعماري. ومن الملاحظ، في هذا الإطار، الجهود المبذولة، في بعض البلدان، للنهوض بلغةٍ أو أكثر، من لغات السكّان الأصليّين، إلى مرتبة اللغة (أو اللغات الوطنيّة) وإدخالها في ميدان التدريس. وهي لغاتٌ تضطلع، في بعض الأحيان، بوظائف اللغة أو اللغات المحليّة [الدارجة]، أي تلك التي يحصل التواصل بها بين المجموعات السكّانيّة.
كلمة أخيرة. يُقرّ الكاتب الفرنسي هنري بوييه بحقيقة أنّ الوضع اللساني الاجتماعي في الدول العربيّة، قد ألهم العديد من الأبحاث في مجال “اللسانيّات العامّة” و”اللسانيّات الاجتماعيّة”، ومنها بحثه الذي بين دفّتيْ هذا الكتاب. ويضيف مُردِفاً، أنّه اغتبط لدى معرفته بنيّة ترجمة مؤلَّفه إلى العربيّة، لأنّ هذه الترجمة تفتح، برأيه، آفاقاً إثنو– لسانيّة جديدة في اتجاه مجتمعاتٍ لغويّة [عربيّة] متنوّعة، وإن كانت مرتبطة فيما بينها ثقافيّاً. يبقى أنّ “مدخل إلى اللسانيّات الاجتماعيّة” كتابٌ مكثَّفٌ جدّاً، إلى حدٍّ يصعب على أيّ باحثٍ مقتدر اختصاره (كما يقول الطاهر لبيب في تصديره). وعلى الرغم من ذلك، فهو كتابٌ ذو أسلوب سلس وواضح وغير مُعقَّد، ويُفيد، بلا ريب، أهل الاختصاص والطلبة والباحثين في مجالات اللغة والألسنيّة والاتصال والإعلام وعلم الاجتماع.