عبد الرحيم التوراني.. مُواطن القُطرين (*)

الكاتب المغربي عبد الرحيم التوراني، المتعدد في توجهاته وثقافته، يكتب عن بيروت وعن أجوائها، وعن أهم شوارعها (الحمراء).. لا في الانتقائية، ولا حتى في الخواطر والملحوظات، بل كنوع من الانتماء، بما يسوقه من واقع وإحساس رهيف، ولغة هي إلى سلاستها وتعابيرها تخترق الظواهر إلى عمقها، أو ما وراءها وأسرارها.

عاش في لبنان طويلاً، من المدينة إلى الأطراف، كمن يعايش بلداً فيه روحه بتفاصيل واكتشافات، هي إلى أبعادها من صميمه ومن عيشه ومن شفافيته، فهي أكبر من موضوعات أنثروبولوجية، ببحثها، وأكثر من اكتشافات جزئية، وأكبر من ملاحظات وخواطر.. فقد كتب كأنه يفارقها، ويشعر بأنه من فصولها وسمائها وبلداتها وشوارعها.. إنه الباحث بلا اعتماد التمحيص، وإنما ككاتب يلمع في سلاسته، ويفتح ما وراء الظواهر والاكتشافات واليوميات.

ما كتبه في يومياته “تحت القصف”، هو سفر عميق ملتبس، بين ما يعتمله الواقع وما يدهشه الخبيئ، وذلك بلغة مفتوحة بدقائقها وانتظاراتها ودهشتها، وحتى خيباتها، تماماً ككل لبناني كابد في الأوقات الملتبسة ما يوحي بما تراكم من مثالب واهتزازات التاريخ وكسور الزمن.

التوراني، ينضم إلى كثيرين صاغوا بيروت، لا بالحلم ولا في الحقيقة، بل في أسطورة معلقة بين الأمس واليوم، بضربات مقتصدة ولحظات سائبة، جمعها كأنها مخطوطات من حيوات باتت على جدة بين الأمس واليوم والغد.

بول شاوول وعبد الرحيم التوراني في أحد مقاهي شارع الحمرا ببيروت

كتابته حفر بلغة تشبه بيروت في ذاكرتها المتوالية وحاضرها المشرع، على أشكال من غموض ما ينبشه الكاتب في إضاءات، هي إلى توهجها طالعة من ركامها بحيوات ولحظات تجتذب كاتباً لم يستخدمها كموضوع، بل كحياة طويلة، مجهولة الحاضر والمستقبل، أي يعيش لحظاتها بين الوقوع والانتصاب.

ما كتبه عن لبنان وبيروت جزء من صوت راويه، اختصر في دقائقه بلداً بأكمله..

عبد الرحيم أيقظ في دواخلي بيروت المعلقة بين ذاكرتها ومجهولها، بين أمسها وغدها، بين حلمها وكوابيسها، بين حروبها العديدة التي حاصرته بين الجدران كسائر اللبنانيين.

هذا ما عرف الكاتب كيف يصوغه، ليس كيوميات، بل كمآلات كابدها بأسف وخروج على الانكماش والبعد، حتى بات أليف بيروت في كسورها وجمالياتها وإن مقموعة ومكسورة.

الكاتب المغربي، عاش لبنانياً في كل حالات بيروت، دون أن ينسى أنه بين انتماءين، خاص في بيروت، ودائم في المغرب.. وهذا ما يجعلني أقول إنه مواطن القطرين.

(بيروت، 30 كانون الثاني/يناير 2025)

(*) مقدمة كتاب “تحت القصف، يوميات مغربي في حرب إسرائيل على لبنان (2024)” . 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  يوم في الساحة.. اللبنانيون يعيدون إكتشاف ذواتهم
بول شاوول

شاعر وناقد أدبي وكاتب مسرحي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": "إنرجيان باور" خارج المنطقة المتنازع عليها!