حكاياتي مع معشوقتي.. السيجارة!

قضيت سنوات طفولتي وفجر مراهقتي في بيت يُدخّن فيه الأب فيه بحرص وحسب توقيتات لا تتبدل؛ أما الأم فتكره رائحة الدخان. الوالد يدخن في مواعيد تكاد لا تتغير. سيجارة مع قهوة الصباح وأخرى بعد استراحة القيلولة، ولا تدخين بينهما. سنوات قضيتها أيضا رفقة "شلة" لا أحد فيها يدخن. إن حدث وشوهد واحد منها يدخن على ناصية من نواصي اللقاء تردد الخبر لدى الأمهات في كل البيوت وانهالت على المدخن ويلات الأمهات كافة.

كنت في السادسة عشرة أو حواليها عندما فتحت بالصدفة المحضة “مراية” الدولاب الكبير في غرفة نوم أهلي بتكليف من والدتي. امتدت يدي في جوف الدولاب الضخم بحثاً عن شيء لا أذكره الآن لترتطم بعلبة ناعمة الملمس الخارجي، سحبتها فإذا بي أسحب “كروزة” حمراء اللون ثقيلة الوزن تجمع كما خمنت ثم تأكدت عشر علب سجاير “دانهيل”، الماركة الإنجليزية الشهيرة. دفعني إلى تمزيق غلافها الخارجي الناعم شهرتها “الاستعمارية” وشعبيتها بين ممثلات الأفلام الإنجليزية، وإن لم تكن في شهرة سجاير “لاكي سترايك”، الماركة المتميزة في أفلام الحرب الأمريكية. سحبت علبة من العلب العشر وخرجت مع الشلة أتباهى وسط مظاهر الاحتجاج والاستنكار. عدت ليلتها إلى البيت بدونها.

***

تخرجت وقد احتلت السيجارة مكانة مرموقة في مظهري قبل أن يتمدد نفوذها ليحتل موقعاً متميزاً في مكونات شخصيتي. أذكر بدون تفاخر أنها نجحت أيضاً في أن تصبح طرفا في حياتي العاطفية، تسجل فوزاً بعد فوز وتتلاعب بحرية في رغبات القلب وشهوات الجسد. أعترف الآن أنها استمكنت حتى تمكنت. بدت في مطلع علاقتنا ناعمة وضعيفة ورقيقة. لا يتحمل جسدها لحظة رطوبة أو موجة قيظ وجفاف. ارتاحت إلى حمايتي فتعلقت وإلى ضرورتها في حياتي فازدادت تعلقا.

***

أظن أنني ارتحت إلى نعومة ملمسها ومظهرها فتعلقت بها.. وإلى صلابة إرادتها فازددت تعلقاً. لم نحسب حساب يوم فراق. الاثنان لا يفترقان إلا عند النوم وليس كل النوم على كل حال. إذا دعاني داع للتعرف على سيجارة جديدة المحتوى والمظهر ثارت سجائري وشنت حرباً عادت بالضرر الجسيم على عضو أو آخر من أعضاء جسدي. أنسحب قليلاً من ساحة القتال ولكن عائد حتماً. السيجارة تعرف وأنا أعرف.

***

كثيراً ما دعاني الأستاذ محمد حسنين هيكل، وبخاصة خلال رحلاتنا في أوروبا وآسيا، إلى أن أجرّب تدخين سيجار من سجائره الفاخرة. اعتذرت في كل مرة وهو غير مصدق، كيف وأنا أعشق التدخين أرفض الارتقاء من تدخين سيجارة أمريكية الأصل إلى تدخين سيجار كوبي لا يقوى على ثمنه إلا أقل المدخنين. كانت حجتي أمامه، وأمام محفوظ الأنصاري الذي لم يتوقف عن دعوتي للانضمام إلى جماعة السيجار، أن سيجارتي لن تفارقني. امتنع كبريائي عن عذري الصحيح وهو أنني أنا الذي لن يفارق وسيجارتي أول من أدرك هذه الحقيقة.

***

كنتُ في تونس عندما أصابتني حمى تسببت في تضخم هائل في اللوزتين وإلى خشية حقيقية من جانب أفضل أطباء مستشفى التوفيق من أن تنسد مجاري التنفس والبلع واستقر أمرهم إلى حقني بالكورتيزون فوراً بعد تلقيني درساً في أخلاقيات التدخين. قالوا لزوجتي، بصوت الواثقين والمتحيزين للبشر على حساب ما عداهم، “لا عودة إلى التدخين. فما حدث له أو معه ليس أقل من إنذار أول ولعله الأخير. هو حي الآن لأنكما تسكنان قريباً من المستشفى وإلا كنت الآن تخرجين من المستشفى وتعودين إلى بيتكما بدونه”.

***

قضيت بمنزلي من فترة النقاهة أربعة أيام، كنت خلالها جالساً في غرفة الموسيقى وعلى أريكتي المفضلة وعيناي معلقتان بشاشة التلفزيون وأصابعي ملتصقة بعلبة سجائري التي وجدتها في مكانها تنتظر عودتي ولساني ملتهب من سخونة عبارات الإدانة وصرخات العتاب الموجهة إلى سيجارة خرجت، لست أدري كيف ومتى خرجت، من علبتها والتصقت ببعض أصابعي.

لم تستقر ساكنة، أظن أنها كانت تتحرك متألمة تحاول التفلت من قبضة أصابعي عندما سمعت اتهامي الصريح لها بخيانة العهد. أذكر أنني قلت لها إنني لم أبخل عليها يوماً بحب أو غيرة أو حضن. عشت أيامي معها إن غابت أو غبت أعرب لها عن شوقي، خصّصت لها أقرب موقع جغرافي من قلبي وهو الجيب في جميع قمصاني الإفرنجية ويسميها التوانسة بالسورية، نسبة إلى القمصان التي كان يرتديها المترجمون السوريون واللبنانيون في الجيش الفرنسي المحتل، بينما ارتدى رجال تونس الملابس العربية العثمانية. خانت العهد لأنها تسببت عن علم وخبرة في إصابتي بمرض استدعى نقلي إلى المستشفى.

توقف العتاب بعودتنا إلى علاقة أوثق انتهت بعد عشرين سنة بنقلي إلى مستشفى مصطفى محمود في قلب إمبابة وأنا بين الحياة والموت. هذه المرة أصيب القلب إصابة مباشرة. هناك وفي وجود حشد من أفراد عائلة وأصدقاء وزملاء وزميلات عمل مبللة عيونهم بالدموع أفقت على نية قطيعة لا مفر منها.

***

أنعي لنفسي طول الوقت وإلى يومنا هذا نهاية علاقة لعلها الأطول والأقرب إلى قلبي وعقلي بين غيرها من علاقات أقمتها مع أغراب أو أقرباء. لا أنكر أنني أحلم بما دار بيننا على انفراد أو في حضور آخرين. أعيش وفياً لها برغم كل ما تسببت فيه. أحن إليها إن رأيتها بين أصابع غريب. أختار في المطعم أو المقهى مكاناً لمائدتي بين موائد المدخنين علّ هواء المكان يحمل لي زفرة دخان أطلقها أحد المدخنين.

إقرأ على موقع 180  موازنة لبنان 2022: حماية المال العام أم مافيا التعويضات؟

***

لن أعود يا معشوقتي. لن أعود.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أفول مملكة جديدة.. مكتبات بيع الكتب تموت