مجتمعٌ تحت الردم.. ودولةٌ بأبوابٍ مُغلقة!

يجلسُ بوّاب أمام القانون حارسًا. يأتيه رجلٌ من الأطراف طالبًا الدخول، فيُجيبه البوّاب: "ليس الآن". ينتظر الرجل. يسأله في النهاية: "هل سيُسمح لي بالدخول لاحقًا"؟ ردّ البواب: "ممكن.. لكن ليس الآن".

هكذا كتب فرانز كافكا في قصته القصيرة الشهيرة “أمام القانون”. وهكذا يبدو مشهد إعادة الإعمار في لبنان اليوم: انتظارٌ طويلٌ عند أبواب مغلقة، وخططٌ مؤجلةٌ، ومسؤولون يُكرّرون أنفسهم وكأنّنا في مشهد كافكاوي لا نهاية له.

فمنذ أن أعلن البنك الدولي أواخر العام الماضي عن نيّته دعم جهود إعادة الإعمار في لبنان عبر “مشروع الدعم الطارئ للتعافي”، لم يُسجّل أي تقدّم ملموس على الأرض. التصريحات تتكرّر، والاجتماعات تدور في حلقة مفرغة، والوعود تبقى وعودًا، وكأن الزمن عالق في دائرة من التعطيل وبأحسن الاحوال التمنّيات.

والمشروع الذي خُصّص له قرضٌ بقيمة 250 مليون دولار، يفترض أن يُلبّي بعض الحاجات الطارئة في المناطق المتضررة من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، من خلال إعادة تأهيل البنية التحتية الصحية والتعليمية ومنظومات المياه وغيرها من الخدمات الأساسية، وإجراء دراسات تقييمية تمهّد لمسارات أشمل لإعادة الإعمار والتعافي.

إن التأخير في إطلاق مسار الإعمار ليس مجرّد خلل إداري، بل هو تفريط بفرصة الإنقاذ والعبور نحو الدولة، وتكريس لفكرة أن الدولة غائبة حتى في أكثر لحظات الحاجة إليها. وما لم تُفتح أبواب التنفيذ، ستبقى الخطط معلّقة على الحبر، وستبقى المجتمعات تحت الردم، تنتظر إذن الدخول إلى دولة لا يبدو أن أبوّابها ستفتح قريبًا

وبرغم بدء التحضيرات الأولية لضمان التزام المعايير البيئية والاجتماعية التي يفرضها البنك الدولي، ما يزال المشروع ينتظر مصادقة مجلس إدارة البنك الدولي، وهي خطوة أساسية لم تُنجز بعد، ويُرجّح ألا يبدأ تنفيذه قبل أواخر العام الحالي، أي قبل ستة أشهر فقط من عمر انتهاء ولاية الحكومة الحالية؛ وهذا يثير أسئلة مشروعة حول جدّية الالتزام السياسي، وفعالية التخطيط، والقدرة على تنفيذ برنامج وطني لاعادة الإعمار.

كما أن القرض يحتاج إلى مصادقة مجلس النواب اللبناني، برغم أنه لن يُطرح على جدول أعماله كمشروع قانون قبل موافقة البنك الدولي. إلا أن هذه الخطوة، وإن بدت إجرائية، يمكن أن تُشكّل فرصة لمجلس النواب لممارسة دوره الرقابي، والمطالبة بخطة متكاملة لإعادة الإعمار: خطةٌ تقوم على رؤية وطنية واضحة، وضمانات مالية وقانونية، وآليات رقابة تضمن الشفافية وتمنع تكرار تجارب الهدر.

ومع أهمية مشروع البنك الدولي هذا، فإن الحاجة الفعلية تفوق بأضعاف هذا القرض. إذ تُقدّر تكلفة إعادة الإعمار بما يفوق 12 مليار دولار، حوالي نصفها لإعادة بناء نحو 83 ألف وحدة سكنية مدمّرة أو متضررة بشدة. وهو ما يجعل القرض المقترح أقرب إلى خطوة تمهيدية ضمن استراتيجية أوسع لم تتبلور بعد، ولم تعلن الحكومة عنها أو تضع لها إطارًا تنفيذيًا. فحتى الساعة، لا توجد خطة شاملة لإعادة الإعمار بمختلف جوانبها، ولا نقاش جدياً حول آليات التمويل، ولا وحدة أو فريقاً في رئاسة الحكومة لتنسيق الجهود كما بعد عدوان تموز/يوليو 2006، ولا إطار مؤسسياً يُحدّد مسؤوليات الجهات المعنية، ولا شراكة فعلية مع السلطات المحلية أو المجتمعات المتضررة، ولا حتى اطلاق مسح مفصل للأضرار.

في ظل هذا الفراغ، تصبح الخطابات والمواقف حول إعادة الإعمار وعودة الأهالي النازحين مجرد شعارات تجميلية. فإعادة الأمل تتطلّب وضوح الرؤية، والتزامًا سياسيًا حقيقيًا، وقدرة تنفيذية فعلية.

إن التأخير في إطلاق مسار الإعمار ليس مجرّد خلل إداري، بل هو تفريط بفرصة الإنقاذ والعبور نحو الدولة، وتكريس لفكرة أن الدولة غائبة حتى في أكثر لحظات الحاجة إليها. وما لم تُفتح أبواب التنفيذ، ستبقى الخطط معلّقة على الحبر، وستبقى المجتمعات تحت الردم، تنتظر إذن الدخول إلى دولة لا يبدو أن أبوّابها ستفتح قريبًا.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إغتيال فخري زاده.. بصمة إسرائيلية في وقت أميركي مستقطع
ناصر ياسين

وزير البيئة اللبناني السابق؛ أستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت.

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  اللبنانيون إلى نظام.. الزنادقة والعبيد!