

هذا الصراع بين البقاء و”هندسة الفوضى” التي تُدار باسم المساعدات والإنسانية، يعكس واقعًا أكثر تعقيدًا من مجرد حرب أو مأساة إنسانية. لا يُمكن اختزال المعركة في غزة على الأرض أو في الملاجئ، بل في منهجيتها الهادفة نحو التغلغل عميقاً في تكوين الوعي والنسيج الاجتماعي. التجويع هنا ليس غاية بحد ذاته، كوسيلة مُتعمدة لهدم أسس الحياة الكريمة وهدم أي شكل من أشكال الأمن الذاتي “حيث لا وجود لدولة أو مؤسسات، ولا قدرة على التماسك الجماعي”، ليتحول المجتمع مع ذلك كُله من كيان مترابط إلى أفراد يتنافسون على البقاء.
يتعاظم أثر الجوع ليتغلغل ليس في الجسد فحسب، بل في البنية المجتمعية. حين تنهار منظومة الغذاء يتحوّل الفرد إلى كائنٍ يعيش لحظة “أنا” الجائعة فقط. التجويع إذًا هو سلاح نفسي وسياسي يُحطّم تماسك الذات ويُجبر الناس على قبول حلول كانت مرفوضة قبل الأزمة؛ حلولٌ تُكرِّس التبعية وتسحق المشروع الوطني. ذلك أن الإنسان يعود إلى حالة صراع البقاء وهي مساحة تُمكّن سوق الاغاثة من سلخ الإنسان عن ذاته السياسية الفاعلة بسهولة.
الفوضى التي تشهدها شوارع غزة ليست نتاج انهيار عفوي، بل هي بيئة مُصممة بدقة عبر الحصار والتدمير الممنهج. الأوروبيون يدعون إلى لجم العملية العسكرية في هذه المرحلة عمدًا، لتبدأ عملية هندسة الانهيار المجتمعي، فتتحول الفصائل من “حماة” إلى عاجزين مُتهمين بالتقصير، بينما ينتقل مفهوم السلطة من القيادة السياسية إلى من يملك الغذاء والماء. وليس هذا بجديد، فأول من تكلم عن هذا البعد من الحوكمة الاستعمارية كان فلسطينيو لبنان في 1971 عندما ثاروا ضد سياسات وكالة “الأونروا” المائية في مخيمات جنوب لبنان ورفضوا أن تكون وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، هيئةً تحتوي الشعب الفلسطيني مؤكدين أن منظمة التحرير، ككيان سياسي بفصائلها كافة، هي من يُمثّل وجودهم السياسي الحر بعيداً عن أسواق العوز والتبعية.
إنّ الأسلوب الوحيد للقيام بفعل قادر على وضع حد لهذه المجازر يكمن في فتح جبهات نضاليةٍ جديدةٍ، هناك حيث تنبض البنية الاجتماعية الصهيونية، أي في أوروبا.. وفتح الجبهة يعني خوض نقاش جاد حول الهوية السياسية لتلك الجبهة، لأن الجبهة كالبندقية لا بد من فهم أقسامها وتفكيكها قبل إعادة تركيبها والتأكّد من تلقيمها قُبيل الضغط على الزناد؛ فكما يقول الشهيد غسان كنفاني “البندقية التي لا تفكر تطلق الرصاص من الجهتين”
نعود إلى الإبادة في غزة. هذا التدمير لا يتوقف عند البنية المادية فحسب، بل يتعداه إلى المكوّن النفسي والاجتماعي، ليصل إلى ما يمكن وصفه بـ”اللاعودة” في مسار الإبادة. في كل عملية إبادة يتم استهداف الجسدين البيولوجي والبيئي لشعب ما، تظهر مرحلة حرجة تفقد فيها البنية الحيوية قدرتها على التعافي، وتبدأ رحلة “التداعي الذاتي المتسارع” الذي يصعب كبحه. هذه اللحظة المفصلية تشكل مفترقًا حاسمًا تُعاد فيها عملية بناء البنية الاجتماعية ليس على قواعد العدل أو التعافي، بل وفق توازنات القوى التي يفرضها الاحتلال.
وحين أدركت القوى الأوروبية أن الجسد الفلسطيني بلغ هذه المرحلة من الانهيار، لم تُطلق أصواتًا تطالب بالعدالة أو الإغاثة، بل أعلنت بداية مرحلة “التدخل الإنساني” التي لم تكن سوى بوابة جديدة للسيطرة على ما تبقى من بنية الحياة في غزة.
وعندما يُمنع الطعام عن الناس وتدفعهم قوى الجوع إلى نهب ما تبقى، لا يواجهون مجرد جوعٍ مادي فحسب، بل يُجرّدون من صورتهم الإنسانية في أعين العالم، ويُصوَّرون كمجموعات فاقدة القدرة على إدارة نفسها، لتُفتح بذلك الأبواب أمام مشروع استعمار جديد، لا يُمارس بالاحتلال العسكري المباشر، بل عبر إدارة دولية أو إقليمية تفرض شروطها السياسية والأمنية على الشعب الفلسطيني.
هذا الاستعمار الجديد لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، إنما على أدوات ناعمة مثل التحكم بالغذاء والمساعدات، وخلق الفوضى التي تُترك لتتفاقم إلى أن تأتي العروض بـ”الوصاية” على أهل القطاع كخلاص إنساني مزعوم، في حين أن جوهر الوصاية تلك ما هي إلا عملية استكمال لسياسات الاحتلال في تفكيك المجتمع وإعادة تشكيله على نحو هش بحيث لا يستطيع المقاومة أو إعادة التماسك إلا ضمن شروط ذاك الاحتلال الذي يفرض الحصار ويُمعن في القتل.
إن ما يجري في غزة اليوم هو لحظة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني، وربما في تاريخ الشعوب المضطهدة عمومًا، حيث تجرى أكبر تجربة من نوعها في “الهندسة الاجتماعية العنفية” التي تستهدف كسر الروح المجتمعية، وتحويل شعب بأكمله إلى جسد بلا هوية سياسية، أو شعب انتُزعت إرادة التمرد من آفاق مُستقبله.
وعليه، وفي ظل مأثرة المقاومة الفلسطينية، والطبيعة البيولوجية للحرب، والتمرحلية العنيدة للفكر الأوروبي من سياسة الصدمة إلى سياسة مكافحة التمرد المتمثلة في اقتصاد الإغاثة الذي استعرضناه بإسهاب، لا مهرب لنا إلا التفكير في جبهة أخرى.. إنّ الأسلوب الوحيد للقيام بفعل قادر على وضع حد لهذه المجازر يكمن في فتح جبهات نضاليةٍ جديدةٍ، هناك حيث تنبض البنية الاجتماعية الصهيونية، أي في أوروبا.. وفتح الجبهة يعني خوض نقاش جاد حول الهوية السياسية لتلك الجبهة، لأن الجبهة كالبندقية لا بد من فهم أقسامها وتفكيكها قبل إعادة تركيبها والتأكّد من تلقيمها قُبيل الضغط على الزناد؛ فكما يقول الشهيد غسان كنفاني “البندقية التي لا تفكر تطلق الرصاص من الجهتين”.