واشنطن تُهادن بكين لأجل الفول.. والمعادن!

استقرت التوليفة الإعلامية للقاء القمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ، على معادلة لا غالب ولا مغلوب في ضوء توصل القطبين الكبيرين إلى هدنة مؤقتة لمدة سنة في حربهما التجارية.

ولدى التدقيق في نتائج اللقاء الأول بين ترامب وشي منذ العام 2019، يتبين أن الجانب الأميركي سجل في “الاتفاق – الإطار” تراجعاً أمام الصين التي استطاعت الحد من قدرة واشنطن على فرض شروطها، وعزّزت بالتالي صورتها كقوة موازية في ميزان القوى العالمي. وقد سارع ترامب عقب اللقاء الذي انعقد في كوريا الجنوبية ولم يتجاوز الساعة وأربعين دقيقة، إلى الحديث عن “نجاح كامل”، فيما اكتفى شي جين بينغ بالإشارة إلى “تفاهمات” بين الجانبين.

وجاءت محاولة واشنطن وبكين إظهار إرادة التهدئة لديهما في سياق جيوسياسي مضطرب شهد فرض رسوم جمركية تجاوزت نسبتها 100%، وهدنة أولى في أيار/مايو الماضي، إلى أن أطل الخريف ليضفي برودة على العلاقة بين القطبين. قرار البيت الأبيض القاضي بالحد من التبادل التجاري مع العديد من المؤسسات الصينية، دفع الحكومة الصينية إلى فرض رقابة مشددة على تصدير 12 نوعاً من المعادن النادرة من أصل 17 نوعاً تملكها الصين (نحو 60% من الاستخراج و93% من التكرير على النطاق العالمي). هذا الرد الصيني أغضب واشنطن التي تحتاج إلى هذه المواد في القطاع التكنولوجي والطاقات المتجددة والصناعة الدفاعية.

أي هدنة في تصوّر النخبة الحاكمة في واشنطن التي تنظر إلى القوة الصينية الصاعدة خطراً رئيسياً على موقعها الريادي في العالم، يجب أن تقود ليس إلى خفض التوتر أو التهدئة فحسب، بل إلى ردع مزدوج يكبح صعود الصين، ويساهم في توظيف الملف الأوكراني لتفكيك التحالف بين الصين وروسيا، من دون القبول بتسويات كبرى، وهذا يعني أن قضية تايوان سوف تبقى خطاً أحمر في الحسابات الأميركية

وتفيد الرواية الأميركية أن الصين أدركت أنها تملك رافعة استراتيجية في مجال استخراج المعادن النادرة وتكريرها، وهي لم تتردد في استخدامها. وهذا أمر غير مسبوق دفع واشنطن إلى فرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على الصين، إضافة إلى الضرائب التي كانت تُسدّدها. لكن هذا التصعيد الذي بلغ ذروته في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر، ما لبث أن تلاشى بفضل الجهود المضاعفة للدبلوماسيين من الجانبين، والتي هدفت إلى الإعداد للقاء بين ترامب وشي على هامش قمة مجموعة آسيا–الباسيفيك (أبيك) في كوريا الجنوبية. وهكذا أمكن لوزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت الحديث عن “مفاوضات بناءة، واسعة وعميقة”، تاركاً للناطق الصيني غوو جياكون أن يُحدّد أن هذه المفاوضات أفضت إلى “اتفاق إطار حول المسائل الاقتصادية والتجارية” بين الصين والولايات المتحدة.

يبقى أن جوهر الاتفاق هو المعادن النادرة التي وافقت بكين على رفع المراقبة المشددة على تصديرها طوال سنة واحدة، فيما التزمت واشنطن بتعديل التدابير المتخذة ضد المؤسسات الصينية، وخفض الرسوم الجمركية على الصين إلى النصف. من جهتها، قرّرت بكين استئناف مشتريات فول الصويا فضلاً عن التعهد بمكافحة تهريب بعض المكونات الخاصة بمخدر الفانتانيل الذي يتسبب بكارثة اجتماعية في الولايات المتحدة.

والمهم، في هذا السياق، أن نُدرك أن المعادن النادرة وفول الصويا هما ورقتان رئيسيتان يتحكم بهما الرئيس الصيني؛ فالمعادن تمثل تهديداً مستمراً ويصعب على الأميركيين التوصل إلى استقلال ذاتي استراتيجي في هذا المجال قبل مرور سنوات طويلة. في المقابل، إن توقف الصين عن استيراد الصويا يُمكن أن يتسبب بأزمة وجودية للمزارعين الأميركيين.

وإذا كان “الاتفاق – الإطار” أظهر أن أميركا والصين لا مصلحة لهما في خوض حرب تجارية لا هوادة فيها تُهدّد النمو الداخلي للبلدين، فإن التنافس الاستراتيجي بين القطبين لا يُمكن تجاوزه عندما يكون محور الصراع بينهم هو السباق على التفوق التكنولوجي. وبرغم فرض رسوم جمركية تفوق ما كانت تفرضه أميركا قبل ترامب، فإن المعركة انتقلت من القطاع التجاري إلى القطاع الرقمي حيث تريد الولايات المتحدة الحفاظ على موقعها المهيمن لكنها تعاني ضعفاً يتمثل في المواد الأولية. لذلك فرضت عقوبات على أشباه الموصلات الأكثر تقدماً التي تريدها الصين، في حين لجأت هذه الأخيرة إلى تقليص شديد لصادراتها من الموارد الاستراتيجية مثل المعادن النادرة.

وثمة إجماع لدى المراقبين على أن الصين باتت اليوم لاعباً محورياً في الاقتصاد العالمي بفضل طاقتها الصناعية الهائلة ومبادرة “الحزام والطريق” أو “طريق الحرير الجديدة”، ما يفرض على أميركا اعتماد سياسة احتواء تحافظ على قدر من المرونة، ذلك أن مواجهة شاملة مع الصين من شأنها أن تضر بالاقتصاد الأميركي والعالمي على حد سواء، وتقود إلى اضطراب واسع في أسواق المال العالمية وارتفاع أسواق الذهب وتباطؤ النمو الاقتصادي.

غير أن هدنة محدودة قوامها تعديل بعض الشروط المُقيّدة لتصدير المعادن الصينية النادرة، والتراجع عن تهديدات جمركية من الجانب الأميركي، لا يُمكن أن تُعالج في العمق التناقضات الممتدة من السيطرة على سلاسل التوريد إلى التنافس الجيوسياسي في أوراسيا.

إقرأ على موقع 180  رئيس لبنان أميركي ـ إيراني.. ومن لاعبي "الإحتياط"؟

ويبدو أن أي هدنة في تصوّر النخبة الحاكمة في واشنطن التي تنظر إلى القوة الصينية الصاعدة خطراً رئيسياً على موقعها الريادي في العالم، يجب أن تقود ليس إلى خفض التوتر أو التهدئة فحسب، بل إلى ردع مزدوج يكبح صعود الصين، ويساهم في توظيف الملف الأوكراني لتفكيك التحالف بين الصين وروسيا، من دون القبول بتسويات كبرى، وهذا يعني أن قضية تايوان سوف تبقى خطاً أحمر في الحسابات الأميركية كون عودتها إلى الصين من شأنها أن تؤدي إلى تبدل ميزان القوة لغير مصلحة واشنطن.

أما التفاهمات من النوع الذي وافق عليه ترامب وشي في بوسان في كوريا الجنوبية، فتظل أدوات لإدارة الأزمة بين العملاقين، وللحيلولة دون انزلاقهما إلى “فخ ثوسيديديس”، نسبةً إلى المؤرخ والقائد الإغريقي، مُؤسس المدرسة الواقعية الذي رافق “حرب البيلوبونيز” بين أثينا وإسبرطة، وأبرز من كتب عن الحرب التي تنشأ من التهديد الذي تشعر به قوة مسيطرة إزاء قوة صاعدة، ما يؤدي لا محالةً إلى الإشتباك والنزاع الذي يؤدي إلى تدمير القوتين معاً.

(*) راجع مقالة للكاتب بعنوان: عالم ما بعد حرب أميركا وحرب أوكرانيا.. إنه “فخ ثوسيديديس”

 

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  التقارب الهندي المصري.. تعلق بروح الحياد الإيجابي