“ثرثرة فوق النيل”.. سمّارة على التيك توك وعزّوز وزيراً ونائباً في البرلمان

من منا لم يشاهد فيلم "ثرثرة فوق النيل" المأخوذ عن رواية الأديب العالمي نجيب محفوظ والتي حملت الإسم ذاته؛ هذا الفيلم يُعدُّ بمثابة رحلة ترفيهية ساحرة إلى أعماق اللامبالاة الوطنية، حيث تجتمع نخبة من المثقفين في عوّامة فاخرة بهدف انقاذ الوطن، لا بالمظاهرات ولا بخطط الإصلاح، إنما بالحشيش الذي تتماهي سحابات دخانه الكثيف مع بعض النقاشات الفلسفية التي تنتهي دائمًا عند نقطة الصفر.

يأخذك فيلم “ثرثرة فوق النيل” في جولة كوميدية سوداء داخل عقول هاربة من التفكير في أي شيء وكل شيء. شخصيات تتأمل خراب البلاد، وهي تحتسي الخمور وكأنها تحيا على كوكب آخر، في عملٍ فنيٍ متقن لا يُشاهَد بحثًا عن الترفيه فقط بل لفهم كيف كانت “الثرثرة” بديلاً عن الفعل، وكيف انقلبت العوّامة إلى ملاذ آمن للضياع الوطني.

وبعد ما يزيد عن الخمسين عاماً من إنتاج هذا الفيلم، ماذا لو استحضرنا أرواح مبدعيه وطلبنا منهم إعادة انتاجه من جديد ليتناسب مع واقعنا المعاصر، هل يتجه المخرج الراحل حسين كمال لإعادة تصوير الفيلم على كوبري أكتوبر القاهري وفي الخلفية ضجيج السيارات والتكاتك التي لا تنقطع، بينما يجلس أبطال الرواية على “قهوة بلدي” افتراضية في بث مباشر، يثرثرون بلا توقف في “لايفات” التيك توك.

طبعاً لم تعد عوّامة رجب القاضي، كما كانت في النسخة القديمة من الفيلم بعد أن تم تحويلها إلى “كافيتريا” مكتظة بالرواد، فيها يتحدث الجميع ولا يصغي أحد للآخر في جلسات تدور نقاشاتها حول الوطن والحرية تحت دخان السجائر الإلكترونية الكثيف وبصوت خافت لا يكاد يُسمَع بعد أن تضاعفت الرقابة الشُرطية مُدعمةً برقابة كاميرات المراقبة المزروعة في الجيوب على هيئة “لوكيشن مفعل”.

فإذا نظرنا الى أبطال العمل بقليل من التمحيص، ربما نجد أنيس زكي قد استقال من الوظيفة الحكومية، وتحوّل إلى العمل “الحر” على موقع “خمسات“، يُقدّم خدمة كتابة المقالات في مجال التنمية البشرية مُحققاً رواجاً كبيراً لمحتوى أبرزه “كيف تصبح سعيدًا في ثلاث خطوات وأنت جائع”، في حين هربت سمارة بهجت من بلاط صاحبة الجلالة إلى الغرف المكيفة التي تطل من خلالها “الإنفلونسرز” وتتحوّل من ناقدة فنية إلى “موديل” تُحدّث متابعيها عن روتين حياتها اليومي، وعن أفراحها تارة وأحزانها تارة أخرى والتي تُعبّر عنها في قصتها ولكن بـ”فلتر باريس”.

أما رجب القاضي الذي أدى دوره الفنان الراحل أحمد رمزي ولعب من خلاله دور “البطل السينمائي” بشكل ساخر فمن لا يتذكر مشهده الشهير ببدلة الرقص وهو يتمايل على أنغام أغنية الفنانة عايدة الشاعر “الطشت قللي”؛ ذلك المشهد الذي لن يتغير كثيراً في النسخة الحديثة للفيلم اللهم إلا أن رجب القاضي قد يمارس الغناء “برغم بشاعة صوته” بجانب الرقص مع استبدال بدلة الرقص بحمّالة صدر فضية برّاقة اللون.

لكن دعنا نكون أكثر إنصافاً، فثرثرة النخبة اليوم أكثر جرأة أو قل “بجاحة”، إذ لم تعد جلسات رجب ورفاقه سرية، كما كانت قديماً في إحدى العوّامات، بل أصبحت تقام في أكبر قاعات الفنادق تحت مسمى المؤتمرات والتي تحمل لافتات من نوعية “معاً من أجل مكافحة الفساد”، بتمويل أحد كبار تجار السلاح والمخدرات، ولا مانع من حديث البعض “المُكرّر” عن ضرورة تحمل المواطن للظروف الإقتصادية الصعبة والانسحاق من أجل العبور من عنق زجاجة “البيرة” التي نحاول العبور منها منذ ما يزيد عن العقود السبعة بقليل، فيما يغمرهم الفخر بنجاح زراعة البطيخ العضوي في مصر والذي بات يمثل نوعاً من “ترف الوعي الزائف”، بعد أن أصبح استخدام كل شيء حتى الفواكه شعارات للتظاهر بالتقدم، في حين أن الأساسيات غائبة، ثم تنتهي السهرة بتوصية أخلاقية: “علينا أن نحب مصر الجديدة بكل ما أوتينا من قوة خلف هذا الخط الهمايوني المرسوم بعناية شديدة”.

أما سياسيًا فالمشهد عبثي بامتياز، فخالد عزّوز الذي قام بأداء دور “الروائي” في الفيلم قد ترك كتابة القصص القصيرة، وأصبح في السيناريو الجديد وزيراً للثقافة لا لكونه مثقفاً أو حتى نصف فاسد، بل لأنه يمتلك شركة دعاية ويتابعه ملايين المتابعين عبر منصات التواصل الاجتماعي، وربما يُمكنه الجمع بين الوزارة وعضوية مجلس الشعب في “الجمهورية الجديدة” ولا تتعجب إن رأيته وهو يتحدث بإسهاب عن مكافحة الفساد وفي الوقت نفسه يُعلن رفضه بشدة لمشروع قانون الشفافية لأنّه – بحسب زعمه – لا يليق بهوية الدولة، والدولة في هذا السيناريو الجديد هي ذلك الكائن الغامض الذي لا نراه إلا في الإعلانات الممولة وتعليقات اللجان الإلكترونية.

وعلى الرغم من أن العلاقة بين الأنظمة الديكتاتورية والمثقفين دائماً ما كان يشوبها توترٌ مصحوبٌ بالقمع، إلا أن تقارباً مريباً أصبح يلقي بظلاله على تلك العلاقة غير السوية بين الطرفين الآن على حساب الشعب بشكلٍ مثير للغثيان، فالنظام يُغريهم بالجوائز والمناصب فيما تجمّع المثقفون حول ديوان “أبيع نفسي” يُرتلونه في صلواتهم لرأس النظام ترتيلا، فلا ريب إن رأيت شاعرًا يتولى رئاسة الشركة القابضة للمياه والصرف الصحي، أو كاتبًا صحفياً يطلق منصة رقمية لتمجيد إنجازات الحكومة باقتباس بعض الآيات القرآنية “بها الكثير من الأخطاء الإملائية”.

إقرأ على موقع 180  عوْدٌ على بَدْء.. كلّن يعني كلّن! (1)

الشاهد أن أبطال العمل وإن كانوا في السابق قد واجهوا مصيراً مجهولاً بداخل العوّامة في مشهد النهاية، فإن الوطن كله اليوم يواجه المجهول بلا مبالاة منقطعة النظير وأصبح مصيره المحتوم الغرق في الديون وفي الفساد، وفي النفايات التي يتم التخلص منها في مياه النيل، وهكذا نعود دومًا إلى عوّاماتنا الافتراضية نتأرجح فوق النيل أو ما تبقى منه، نثرثر ونُسكِر أرواحنا بالأمل، ثم يدركنا الصباح بقرار جديد لرفع الأسعار دائمًا يصب في “مصلحة المواطن”، كما تقول الحكومة، أو قد نصحو على حادث قطار متكرر، أو حملة لإزالة منطقة سكنية بأكملها ونزع ملكيتها، أما أنيس زكي “الساكن بداخلنا” فقد تم حجبه!

Print Friendly, PDF & Email
بدر الدين عطية

كاتب ساخر، مصر

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ..ورحلت رفيقة المهدي بن بركة من دون الكشف عن حقيقة المُجرم!