

يُعتبر الخلاف الأيديولوجي بين إيران وإسرائيل أحد الأسباب الرئيسية للعداء بينهما. فإيران تعتبر زوال إسرائيل هدفاً استراتيجياً (من خلال رفعها شعار “إزالة اسرائيل من الوجود”)، بينما ترى إسرائيل أن عقيدة النظام الإيراني “تُشكل تهديداً وجودياً لها” (كما بيّن لنا خطاب رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في العام 2018 أمام الأمم المتحدة حين عرض خريطة التهديد النووي الإيراني). هذا العداء المتبادل يجعل المنطقة ساحة دائمة للتوتر ويعيق بناء نظام إقليمي مُستقر يُحقّق مصالح شعوبها. في هذا السياق، تطرح إسرائيل “خطة درع إبراهام”، سعياً إلى بناء تحالف شبيه بـ”حلف بغداد” في خمسينيات القرن الماضي والذي قادته أميركا في مواجهة النفوذ السوفياتي)، لكن العديد من عواصم المنطقة ولا سيما الدول ـ الركائز مثل السعودية ومصر، لا تبدو متحمسة للانخراط في مشروع لا يُراعي حساباتها ومصالحها بل من شأنه أن يُرسّخ زعامة إسرائيل للإقليم على حساب باقي الأنظمة والشعوب. يستدعي ذلك أن تبادر هذه الدول إلى صياغة رؤية عربية وإسلامية موحَّدة. وهنا تكمن مسؤولية إيران في المبادرة باتجاه جيرانها دول الخليج سعياً إلى ترجمة ما تنادي به دائماً لجهة قيام نظام أمني خليجي يُديره أهل منطقة الخليج. هذا التحوُّل – إن حصل – يجعل كل شعوب منطقة الخليج طرفاً فاعلاً في الصراع، ويُضعف قدرة الحسم العسكري التقليدي. يقود ذلك للقول إن الشعوب يجب أن تكون في صلب أية صياغات وتحالفات، مما يتطلب التركيز على إحتياجاتها الواقعية من أجل تحقيق استقرار إقليمي دائم.
معارك اليوم تُمهّد لحرب الغد
للمرة الأولى منذ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979، تحوَّل ما يُسمى “الصراع الوجودي” بين إسرائيل وإيران إلى مواجهة عسكرية مباشرة، بعدما كانت إيران، ومنذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في العام 1988 أبعدت حدودها عن النيران من خلال ما تُسمى “الحروب بالوكالة”، وهو الأمر الذي استوجب دعم الأذرع في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، إلى أن وقعت معركة “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما أعقبها من تداعيات وارتدادات في ساحات عديدة أبرزها في لبنان وسوريا واليمن.. وصولاً إلى ما شهده العالم في حزيران/يونيو 2025، وهو تاريخ فاصل تحول خلاله الصراع إلى مواجهة عسكرية مباشرة وغير مسبوقة بين إيران وإسرائيل برغم التباعد الجغرافي بين الإثنيتن وهذه ربما تكون حالة غير مسبوقة في الحروب. هذه المواجهة تتجاوز المساحة أو الساحة العسكرية التقليدية وتخضع لقواعد جديدة تشمل الأدوات الإقتصادية والتكنولوجية والدبلوماسية والإعلامية والنفوذ السياسي (على سبيل المثال تُشبه الحرب على إيران حصار الحلفاء لألمانيا في الحرب العالمية الأولى ما يُبرز تأثير العوامل غير العسكرية). هذا التحول يُؤشر لعجز الأدوات العسكرية التقليدية عن تحقيق حسم نهائي لأي معركة مع تراجع دور الأيديولوجيا ودخول مصالح الشعوب كعامل مؤثر في حسم الصراع. بالنتيجة لم تعد المعارك العسكرية والحلول الأمنية وحدها كفيلة بتحقيق الإستقرار الإقليمي في ظل تنامي دور عوامل أخرى لا سيما الاقتصادية والإجتماعية والدبلوماسية والإعلامية.
تعاظم دور القوى الكبرى إقليمياً
لا يُمكن اعتبار الصراع بين إسرائيل وإيران مجرد صراع إقليمي محدود، بل مواجهة شاملة تتداخل فيها العوامل العسكرية والسياسية والإقتصادية بما لا ينفصل عن صراع القوى الكبرى على النفوذ الإقليمي وإعادة صياغة نظام دولي جديد. وبينما تقف إسرائيل كحليف استراتيجي للغرب، تسعى إيران إلى أن تكون جزءاً من منظومة دولية وإقليمية تسعى إلى تكريس النظام الدولي متعدد القطبية، بحيث تتقدم أدوار دول مثل روسيا والصين فضلاً عن أدوار عواصم إقليمية مثل السعودية وتركيا وباكستان، وهذا الأمر يُحوّل المنطقة إلى ساحة للتنافس الدولي (ما يتماهى على مستوى الأثر مع دور تركيا في حلف الناتو خلال الحرب الباردة وتحالف مصر مع الإتحاد السوفياتي في المرحلة نفسها. وتُعتبر مصر وتركيا من الدول المركزية تاريخاً وحضارةً وهو ما ينطبق على إيران تاريخياً وراهناً).
يحصل كل ذلك في ظل سعي أميركي إلى إحداث تحوُّل جوهري في الشرق الأوسط لمصلحة ضمان أمن إسرائيل والتطبيع الكامل مع معظم دول المنطقة، وهذا الأمر يتطلب بناء نظام إقليمي جديد يتناسب مع هذه المهمة وبما يضمن إحتواء دور أية دولة أو قوة تتحدى المصالح الأميركية والإسرائيلية، فضلاً عن ملء أي فراغ يُمكن أن ينشأ تستطيع أن تتسلل من خلاله الصين أو روسيا. هذه التغيُّرات تفرض على القوى الإقليمية والدولية إعادة النظر في استراتيجياتها تجاه المنطقة، والانتقال من منطق المواجهة الأيديولوجية إلى البحث عن مصالح مشتركة تستجيب لتطلعات الشعوب وتُحقق الإستقرار السياسي. على سبيل المثال، تحولت أوروبا من ساحة حرب (الحرب العالمية الثانية) إلى اتحاد اقتصادي وسياسي عبر “معاهدة روما” (1957) التي كرّست التعاون على أساس المصالح المشتركة (الفحم والصلب إلخ..).
من الأيديولوجيا إلى المصلحة الشعبية
لم تعد الأيديولوجيا كافيةً لضمان استمرار القوى الإقليمية في أدوارها، بل أصبحت المقبولية الشعبية هي المعيار الأساس لنجاح أي مشروع سياسي. وفيما تحاول إسرائيل إغراء دول المنطقة بضمانات الحماية (“خطة درع إبراهام” نموذجاً)، تواجه قوى الإسلام السياسي تحديات في المواءمة بين خطابها الأيديولوجي واحتياجات الشعوب التي تتطور بحسب متطلبات العصر؛ وبالتالي يتعيّن على هذه القوى صياغة رؤى ومشاريع أكثر واقعية تدمج بين مبادئها وأفكارها السياسية والدينية وتطلعات واحتياجات الشعوب لضمان الاستمرارية في الدور السياسي. بالنتيجة، كل المشاريع التي تُهمل المصالح الإقتصادية للشعوب محكوم عليها بالفشل. على سبيل المثال، فشل التقسيم الاستعماري (سايكس بيكو) لأنه تجاهل مصالح الشعوب، بينما نجح “مشروع مارشال” في أوروبا لأنه ركّز على إعادة الإعمار الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية.
القوة الشاملة بديلاً للنموذج التقليدي
تُظهر التحولات الدولية والإقليمية أن الأدوات العسكرية وحدها عاجزة عن تحقيق انتصارات حاسمة، ما يستدعي تبني مفهوم “القوة الشاملة” الذي يجمع بين العوامل السياسية والإقتصادية والثقافية الى جانب القوة العسكرية. على اللاعبين الإقليميين الخروج من الإعتماد على الخطابات الأيديولوجية أو القوة العسكرية وإعادة هيكلة استراتيجياتهم لتعزيز شرعيتهم السياسية عبر مشاريع وبرامج تنموية تُحقق التواصل الفعّال مع الشعوب.
على سبيل المثال، فيما يخص حركات الإسلام السياسي، إنتصرت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 لأنها تبنت مشروع العدالة الإجتماعية وتوزيع الثروات برغم الصبغة الإسلامية للنظام. كذلك تُشكل تركيا نموذجاً في السعي (منذ 2002) للجمع بين القوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي (الإستثمارات في أفريقيا) والدبلوماسي (الوساطة في الأزمات). على المستوى الإقليمي، تسعى إسرائيل للتحول الى قوة إقليمية من خلال الإستثمار في التكنولوجيا (الزراعة الذكية، الأمن السيبراني) والتحالفات الاقتصادية (اتفاقيات الغاز مع مصر وقبرص واليونان). كذلك تقود السعودية مرحلة “ما بعد النفط” من خلال الإستثمار في قطاعات عديدة بينها السياحة والذكاء الاصطناعي، ويسري ذلك على دولة الإمارات، وذلك تحت سقف عدم الرهان على أبدية قطاع النفط والغاز.
نحو أمن إقليمي مستدام
هذه التحولات تُلزم القوى الإقليمية بإعادة تقييم أدوارها وفق معايير المرحلة الجديدة التي تسمح بتحقيق إستقرار إقليمي، حيثُ أصبحت الشرعية الشعبية والمرونة السياسية عاملاً حاسماً في تحديد موازين القوى، مع الحاجة للتركيز على المصالح المشتركة للشعوب بدل الصراعات الأيديولوجية. تُعبِّر “خطة درع إبراهام” عن مشروع تعاوني إقليمي تُروج له إسرائيل لتعزيز مصالحها وتحويل نفسها من لاعب وظيفي إلى قائد إقليمي، ما يُهدد باختزال القضية الفلسطينية في معادلة أمنية جديدة خاضعة للمصالح المشتركة لكن كما تراها إسرائيل. وبرغم تفوق الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية فإن الخطة تظل غير قابلة للتبني لتناقضها مع مصالح شعوب المنطقة. في المقابل، يُظهر غياب الرؤية الموحَّدة لدى القوى العربية والإسلامية، وجود حاجة ملحّة لصياغة مشروع إقليمي بديل يعكُس تطلعات الشعوب ويضع هذه القوى أمام فرصة تاريخية للتحول إلى قوى فاعلة في صياغة المعادلة الجديدة للإستقرار (نموذج الإتحاد الأوروبي الذي نجح في تحويل عداوات تاريخية بين فرنسا وألمانيا إلى تعاون إقتصادي).