الشرق الأوسط الجديد يبدأ من سوريا.. والدم السوري هو الحبر

في قلب الجغرافيا السورية، تُرسم خريطة الشرق الأوسط الجديد لا بالحبر، بل بالدم. دمٌ لا يفرّق بين سني وشيعي، علوي ودرزي، مسيحي ومسلم.

ما يجري على الأرض السورية ليس مجرّد صراع داخلي، بل تنفيذ صارخ لمشروع إقليمي-دولي يُعيد تشكيل المنطقة على مقاس المصالح الكبرى، ويستكمل مراحل تفكيك الهوية الوطنية السورية عبر أدوات محلية، أقل ما توصف به أنها متوحشة.

تحت عنوان «تحرير»، وبذريعة «محاربة الاستبداد»، نشهد اليوم تسلّل فصائل مسلّحة إلى محافظة السويداء، المدينة التي لطالما نأت بنفسها عن السلاح والفوضى. هذه الفصائل، التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بأجندات خارجية، بدأت تنفيذ مرحلة جديدة وخطيرة من مشروع التفتيت: إنهاك النسيج الاجتماعي للموحدين الدروز، عبر تهديد مباشر لحياتهم، وكرامتهم، ورموزهم الدينية.

لم يكتفِ القادمون إلى السويداء بترويع المدنيين، بل تجاوزوا كل الخطوط الحمراء، إذ سُجّلت حالات اعتداء على الشيوخ، ونساء الطائفة، وحتى الأطفال، وسط تحريض واضح من الدولة، وغموض مريب في الموقف الإقليمي والدولي. الرموز الدينية لم تسلم، وكذلك مقامات الموحدين، التي طالها التخريب والإهانة، في محاولة واضحة لكسر الإرادة الدينية والروحية لأهالي المدينة. وكأن الرسالة واضحة: لا خطوط مقدسة في خريطة الدم الجديدة.

ما يُراد اليوم هو شرق أوسط مُفكك، طائفي، هش، تهيمن عليه قوى الأمر الواقع و”ميليشيات الظل”، في غياب دولة مركزية، وهوية وطنية، وعدالة جامعة. ومع كل دمعة تُذرف في السويداء، وكل صوت يُكمّم في درعا، وكل بيت يُقصف في إدلب، تُكتب فصول الخريطة الجديدة. لا بأقلام السوريين، بل بدمهم، وبأوامر الغرف السوداء

لكن ما يثير الريبة أكثر هو هذا الصمت المتواطئ تجاه الانتهاكات المتصاعدة، وبخاصة من بعض الجهات التي تدّعي تمثيل “الثورة السورية” أو “الدفاع عن المسلمين السنة”؛ فالواقع يقول غير ذلك. الواقع يؤكد أن من يعارضون مشاريع أحمد الشرع في الداخل السني يُصنّفون اليوم كـ”خونة”، ويتعرضون للتهديد والتصفية المعنوية وربما الجسدية، لأنهم يرفضون تحويل ثورة السوريين إلى مشروع ميليشياوي طائفي يخدم أطرافًا مشبوهة، ويعمل على إذكاء الفتنة لا إطفائها.

المسلمون السنة المناوئون لهذا النهج، أي النهج الذي يتلطى خلف “المظلومية السنية” بينما يُنفذ أجندات لا تمت للشارع السني بصلة، أصبحوا اليوم أهدافًا، تُهدّد منازلهم، وتُشيطَن أفكارهم، ويُقصَون من المشهد، فقط لأنهم يتمسكون بسوريا الموحدة، لا بسوريا المقسّمة على أسس مذهبية ومناطقية.

السويداء، كما حلب، كما دير الزور، وكما دمشق وطرطوس، لم تكن يومًا عدوًا لأحد. لكنها اليوم تتعرض لمحاولة إذلال ممنهجة، لأنها بقيت عصيّة على التطرف، ورفضت الانخراط في لعبة “المحاور”. ما نشهده من دخول جماعات مسلّحة إلى أراضيها هو امتداد واضح لسياسة تهدف إلى تفجير المناطق واحدة تلو الأخرى، حتى لا يبقى صوت وطني خارج سرب الفوضى.

المشهد الحالي هو تهديد مباشر للنسيج السوري بأكمله، وبخاصة حين يُفتح الباب لتصفية الحسابات مع كل مكوّن وطني يرفض الانخراط في مشروع التقسيم. وإذا كان اليوم الدور على السويداء، فإن الغد قد يحمل نفس السيناريو لبقية المناطق، بما فيها السنية، التي ستُستهدف إن هي خرجت عن الطاعة لمشاريع كهذه، تروّج للقيادات التي تصنّف المعارضة والموالاة معًا كأعداء إذا لم يباركوا مسار الانهيار.

في النهاية، ما يُراد اليوم هو شرق أوسط مُفكك، طائفي، هش، تهيمن عليه قوى الأمر الواقع و”ميليشيات الظل”، في غياب دولة مركزية، وهوية وطنية، وعدالة جامعة. ومع كل دمعة تُذرف في السويداء، وكل صوت يُكمّم في درعا، وكل بيت يُقصف في إدلب، تُكتب فصول الخريطة الجديدة. لا بأقلام السوريين، بل بدمهم، وبأوامر الغرف السوداء.

ويبقى الأمل في وعي الناس؛ سنّةً، دروزاً، شيعةً، علويين ومسيحيين. هؤلاء باتوا يعرفون أن معركتهم ليست ضد بعضهم، بل ضد من يريد لهم أن يظلوا أعداء للأبد على حدود الدم المرسومة في الظلام.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  البرهان وحمدوك.. لاعبان على حبل من التوازنات الدقيقة
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  مجدداً.. الأمن المطلق وهم مطلق!