

في سراييفو، حاصرت القوات الصربية المدينة لأكثر من ثلاث سنوات، قطعت عنها الماء والغذاء والدواء. كان الهدف إذلالها. لكن المدينة لم تستسلم، بل صمدت حتى انتهت الحرب بسقوط المجرمين في محكمة لاهاي.
النازيون حاصروا لينينغراد 900 يوم، وقتلوا أكثر من مليون إنسان بالتجويع والبرد، لكن المدينة لم ترفع الراية البيضاء. بقيت صامدة، وخلّدها التاريخ كمقبرة لغطرسة من ظنّ أن البطون الفارغة تهزم الشعوب.
في يوغوسلافيا، كانت المجازر والحصار سياسة رسمية للنظام. ومع ذلك، لم تنهِ الأزمة، بل فجّرتها. سلوبودان ميلوشيفيتش، لم يسقط بالسلاح فقط، بل بالتجويع، وبالدم، بالرفض الشعبي لما صنعه الحصار من كوارث.
حتى روما، في ذروة قوتها، فرضت الحصار على المدن الثائرة، لكنها لم تنتصر. الحصار كان بداية انهيارها من الداخل، حيث تحوّل إلى سلاح عكسي دمّر هيبة الإمبراطورية.
سوريا.. الحصار أداة كسر
الملف السوري الحديث يقدم مثالاً حياً على خطورة الحصار، ليس فقط كجريمة إنسانية، بل كأداة انتحارية بيد النظام الجديد.
من الغوطة الشرقية إلى داريا، وحلب، ومضايا، جُوّعت مناطق كاملة، حُرمت من الدواء والغذاء، بل ومن الهواء. ظنّ النظام أن التجويع سيركّع الناس، فإذا بالناس تصمد لسنوات برغم المجازر والترويع والتجويع.
اليوم، نشهد حصار السويداء؛ محافظةٌ تُركت عمدًا في دائرة التهميش، تُمنع عنها الخدمات، ويُضيّق على أهلها في لقمة عيشهم وتنقلهم وحتى أمنهم الذاتي. لكن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في التجويع، بل في ما يدفعه هذا الحصار من خيارات.
حين تُجبر منطقة على الاختيار بين الموت البطيء أو الارتماء في حضن قوى خارجية، فأنت لا تُخضعها، بل تدفعها دفعاً إلى أحضان الغريب وأيّ غريب؟ وهذا ما يحدث حالياً: الضيق يُولّد الانفصال، والحصار يدفع ببطء نحو خيارات لا وطنية، ما يُهدّد وحدة البلاد ويُعمّق تدخلات الخارج.
الأنظمة التي تحاصر شعوبها لا تقرأ التاريخ، أو تقرأه ولا تفهمه. كل تجربة حصار انتهت بخسارة من فرضَه، لا بخضوع من فُرضَ عليه.
الحصار لا يبني شرعية، بل يُسقطها. لا يُوحّد دولة، بل يُفككها. لا يُطيل عمر نظام، بل يُعجّل بنهايته.
من لينينغراد إلى سراييفو، ومن الغوطة إلى السويداء. كلُّ من حاصر شعبه، قرأ نهايته في التاريخ ولم يفهمها.