دروس سورية من التاريخ القريب.. هل من يسمع؟

شكّل انهيار جدار برلين ومن بعده منظومة الاتحاد السوفياتي وكذلك هيمنته على دول أوروبا الشرقيّة حدثاً تاريخيّاً كبيراً. هذا الانهيار كان نتيجة سوء إدارة مزمِن للسلطات القائمة في هذه البلدان وعدم قدرتها على التأقلم مع المتغيّرات داخلها وعلى الصعيد العالمي. على عكس ما حدث في الصين، رغم تشابه العقيدة السياسيّة للسلطات هناك. 

الفوضى كانت سمة المرحلة التي تلَت الانهيار، ولكن ليس في كلّ الدول المعنيّة. ألمانيا الغربيّة قامت بخطوات إداريّة جريئة وباهظة التكلفة كي تُحقّق وحدة ألمانيا. الدول الأخرى كانت أقلّ حظّاً نسبيّاً، حيث جهد رموز السلطة المنهارة على بيع أصول بلادهم لمصلحة استثمارات خارجيّة هيمنت على أغلب القطاعات الحيويّة، وبالتوازي فقدت إدارات البلاد المتعاقبة القدرة على ضبط الفوضى الاقتصاديّة والمعيشيّة. ولم تستطع أغلبيّة هذه البلدان النهوض مجدّداً سوى من خلال الحدّ الأدنى من الضبط الإداري الذي مثّله أمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وفي نسيج المؤسسات الدوليّة. لكنّ دولة القانون، التي تميّزت بها دول أوروبا الغربيّة، لم تترسّخ حقّاً في جميع هذه الدول… الشرقيّة حتّى الآن، برغم ديموقراطيّة الانتخابات.

حالة روسيا كانت الأسوأ، حيث سادت فيها الفوضى الإداريّة لزمنٍ طويل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وبرز حيتان استثمارات واحتكارات هيمنوا على مقدّرات البلاد الهامّة، مقابل فوضى أمنيّة وإفقار لأغلب السكّان وغياب الحدّ الأدنى من الحماية الاجتماعيّة. ممّا جعل مسار العودة إلى استقرار إداريّ لضبط “الحيتان” وتأمين حياة آمنة ومعقولة للسكّان أقسى وأكثر صعوبة.

ثورات وانهيارات!

منذ بداية الألفيّة الجديدة، شهدت العديد من البلدان العربيّة انهيارات مماثلة، منذ العراق بعد غزوه، إلى ليبيا واليمن وسوريا والسودان بعد… “ثوراتها” التي انتهت إلى حروبٍ أهليّة وتفكيكٍ للدول. هذه الانهيارات جميعها يُمكن أن نعزوها إلى سوء إدارة السلطات القائمة وعدم فهمها للمتغيّرات الداخليّة والخارجيّة وقدرتها على التأقلم معها. لكن تمّ المزج بين هذه السلطات القائمة، التي رحلت بالنهاية، وبين مؤسسات الدولة التي تم تفكيكها بحججٍ مختلفة… كي تغيب سريعاً إمكانيّات الإصلاح وضبط الفوضى ودولة القانون ولو بالحدّ الأدنى. وما يُميّز أوضاع أغلب هذه الدول بعد عقدٍ أو عقدين من الانهيار والتغيير… أنّها بقيت هشّة ومقسّمة وخاضعة لفوضى استثمارات الحيتان الداخليين والخارجيين دون النهوض بمستوى معيشة المواطنين ولا بدولة قانون فعليّة تؤمّن الحريّات العامّة والخاصّة… قبل الديموقراطية.

لا شيء اسمه اقتصاد واستثمارات ينفصِم عن آليّّات تجعل الدولة دولة قانون. ولا دولة قانون بالنسبة للحريّات الفرديّة والعامّة من دون دولة قانون على الصعيد الاقتصادي. إذ ليس الاقتصاد في بلادٍ هشّة خارجة من أزمة وصراع ودمار سوى.. اقتصاد سياسي

في كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، شهدت سوريا انهياراً مماثلاً لـ”منظومة الأسد”. انهيارٌ فتح آفاقاً جديدة للسوريين بعد معاناة صعبة وطويلة. لم تتحسّن الأوضاع المعيشيّة للمواطنين سريعاً، بل ساءت نسبيّاً للفئات الأشدّ فقراً، والتي تشكّل الأغلبيّة. ولم يستتبّ أمن الوطن والمواطنين حيث ما زال عرضةً للانهيار بشكلٍ واسع أمام أيّ استفزازٍ داخليّ أو خارجيّ، كما حدث في الساحل والجنوب. ولم يتمّ فعليّاً توحيد البلاد إداريّاً. برغم ذلك، يدفع الأمل السوريين نحو الانخراط بنشاطٍ ملحوظ في محاولة النهوض بسوريا وإرساء مستقبلها.

العفو الامريكي المشروط

تمثّلت إحدى العقبات الأساسيّة في العقوبات القاسية التي فُرِضَت على البلاد، وبخاصّة الأمريكيّة منها، وأدّت في الواقع إلى معاناة المواطنين الطويلة بدل أن “تسقط النظام”. وكان إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخّراً أنّه سيزيلها خطوة تحوّلٍ كبيرة، خاصّةً وأنّها تخطّت آليّات كلّ الأنظمة الإدارية والديموقراطيّة الأمريكيّة. وتعزّزت هذه الخطوة سريعاً في إعفاءٍ المتعاملين مع مؤسسات الدولة السورية، المالية والإداريّة، من اية قيود وذلك لمدّة ستة أشهر ريثما يتمّ العمل في الولايات المتحدة على إلغاء القوانين المرتبطة بالعقوبات. إعفاءٌ لا يبدو مشروطاً ظاهريّاً، لكنّه كذلك واقعيّاً. ولكن الأهمّ أنّ أمل السوريين قد تعزّز بخطوة جديدة.

إلاّ أنّ هذه الخطوة الملحوظة تضع السلطات القائمة أمام تحديات جديدة، وبخاصّةً فيما يتعلّق باستخلاص العبر من مسارات شرق أوروبا وبلدان عربيّة أخرى. في طليعة هذه التحديات ألاّ تتحول الفوضى الإداريّة والاقتصاديّة مُبرراً للعودة إلى الوراء، أي أن المطلوب إرساء دولة القانون من الناحيتين الإداريّة والقانونيّة مع شفافيّة في العمل وإمكانيّة للمحاسبة عبر الحريّات العامّة.

لكن، قبل رفع العقوبات الأمريكيّة، تمّ الإعلان عن عقود ومذكرات تفاهم لاستثمارات ساهمت كثيراً في رفع منسوب آمال السوريين. لكنّ المهمّ هو نشر نصّ هذه العقود والمذكرّات بشفافيّة والحرص على تماشيها مع القوانين السورية، أو إذا لزم الأمر على الأقلّ إصدار قوانين واضحة تؤطّرها… كي تخضع للنقاش العام، ريثما يكون هناك مجلس تشريعي حقيقي. كذلك ما زالت المؤسسات “العامّة” والخاصّة التي قامت أثناء الشرذمة السوريّة متباينة جدّاً في شفافيّتها وأصول عملها رغم توحيد أجزاء كبيرة من البلاد ضمن “دولة سوريا الجديدة”. لكن ما أنتجته الشرذمة أو ما كان يُمكِن أن تبرّره العقوبات لا بدّ له اليوم أن يخضع لمنظومة قانونيّة وإداريّة واحدة.

إقرأ على موقع 180  "أبو ملحم" عندما يعود إلى وعظنا!

هذا اقتصاد سياسي!

تأطير الاستثمارات الأوليّة وتوحيد الأسس القانونيّة سيساعدان على تعاظم الاستثمارات، السوريّة والخارجيّة، وبالتالي تعافي البلاد وترسيخ الثقة بالمؤسسات العامّة وتفادي الفوضى الاقتصاديّة التي طبعت مراحل ما بعد الانهيار في شرق أوروبا. وهما أيضاً سيعاظمان من انخراط المؤسسات الدوليّة الكبيرة، كالبنك وصندوق النقد الدوليين وغيرهما، للمساعدة في التحديث الضروري للأنظمة الإداريّة القائمة وأتمتتها، وكذلك العمل على تقديم الخبرات والمنح الهادفة لإصلاح البنى التحتيّة. وهذه الأمور مهمّة لأنّ هذه المؤسسات تحرص على احترام الأسس الإدارية والقانونيّة أكثر من الشركات الخاصّة، مهما كان تقييم توجّهاتها على المدى البعيد. والتأطير والتوحيد هما بالمناسبة أيضاً ما يمكن أن يشجّع الإدارة الذاتيّة في شمال شرق سوريا على الانخراط أيضاً في مسار “دولة سوريا الجديدة”.

إلاّ أنّ خطاب السلطات الحاليّة المفرِط في توجهاته الليبرالية لا يساعد في النظر إلى الجانب الآخر من مرآة الاستثمارات. هناك شعبٌ سوريٌّ يرزح أغلبه تحت خطّ الفقر وهناك دمار ونزوح ولجوء، ولا بدّ من وضع تصوّر حول كيفيّة إنهاء المعاناة في هذه الأمور كلها. فماذا عن سياسات الحماية الاجتماعيّة، المعيشيّة والصحيّة وماذا عن آليّات التشغيل والمساعدة الاجتماعيّة لتمكين عودة النازحين واللاجئين والعيش الكريم بانتظار فائدة اجتماعيّة تتأتى من الاستثمارات الموعودة؟ وماذا عن ضرورة التنظيم العمراني لإعادة البناء، وبخاصّة للمدن والقرى المهدّمة، كي لا تصبح قضيّة إعادة الإعمار قضيّة مضاربات عقاريّة، كما في مخطّطات السلطة السابقة؟

لا شيء اسمه اقتصاد واستثمارات ينفصِم عن آليّّات تجعل الدولة دولة قانون. ولا دولة قانون بالنسبة للحريّات الفرديّة والعامّة من دون دولة قانون على الصعيد الاقتصادي. إذ ليس الاقتصاد في بلادٍ هشّة خارجة من أزمة وصراع ودمار سوى.. اقتصاد سياسي.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  النازية الألمانية.. الأبُ الفعليُ لإسرائيل!