زياد فلسطين.. والبديهيات

لا يُقاس أثر العظماء بالتوصيف والترميز، ولا بتأطير نتاجهم الثقافي تحت عناوين الأيديولوجيات، بل من القراءة المستمرة لأثرهم في صيرورة الشعوب وحركات التحرر والتقدم، ومن باب تلمس دورهم في بناء مداميك الوعي حجراً بعد حجر، وهكذا تصبح أفكار العظماء بذاتها هي البوصلة وهي العنوان المفتوح على أفق الحرية.

عندما هممت بكتابة هذه المقالة، فكرت كثيراً في العنوان. أردته قويّاً، عظيماً، يختصرُ كلَّ ما أردت قوله عن زياد، وكل ما رغبت في إخفائه إلى حين. عنوانٌ يحيطُ بما لا يمكن لمسه أو توصيفه، فلم أجد إلّا: زياد… ولعلَّ أكثر ما منعني من وضع عنوان آخر هو إنني كرهت الترميز طوال عمري، لم أشعر يوماً أنه من العدالة اختزال العظماء في صفة، أو اختصارهم في مقولة، أو قياسهم بموقف، فكلُ ما فيهم أو يصدرُ عنهم هو تعبير عن مسارٍ طويلٍ، وعن اشتباكٍ متعدّد الجبهات. لذلك لن أتحدث عن زياد من بوابة الصفة أو التوصيف.

ولن أكتب عنه أيضاً من باب الحنين، فالحنين يوازي الاغتراب ويوازي الفقد بمفهوم الخسارة المطلقة، وهذا لا ينطبق على علاقتنا بزياد- لا سابقاً ولا لاحقاً. كما أنني اعتبر الحنين انتهازياً قاسياً، قادراً على التجمل والخديعة. ألم نقل دوماً: نحنّ إلى الزمن الجميل؟ وعندما نعود إليه بذاكرتنا نضع سيد درويش ومريم مريمتي في خانة واحدة؟

زياد فلسطين

اليوم أكتبُ عن زياد فلسطين التي أحبها وأحبته، عن رفيق مسيرتنا نحن الفلسطينيين. زياد الذي كان حاضراً مع بدايات العمل الثوري ضد الاحتلال يؤثث وجداننا ويشكلُ ذائقتنا للفنّ والإبداعِ والتمرد.. زياد الذي شاركنا تأسيس لجان العمل التطوعي، الإطار الجماهيري الاجتماعي العلني الأول في العمل الوطني. كان حاضراً بصوته وموسيقاه وفكره في الاجتماعات التأسيسية للجان، وفي نشاطاتها في ساحات مخيمات فلسطين ومدنها وقراها. أذكر كيف كنَّا، عندما نعود من العمل صغاراً، نبحثُ بحماسٍ عن مفردات جماليات الحياة وفلسفتها، فنشغّل كاسيتات زياد في مقرات اللجان ونغني معه، نضحك ونغصُّ ونتألمُ معه. كنَّا محظوظين في ذلك الوقت من باكورة الوعي الفكري لأننا عرفنا زياد قبل أن نقرأ المادية الديالكتيكية، وسمعناه في “نزل السرور” و “فيلم أميركي طويل” قبل أن نغوص كثيراً في الأدب الثوري وقراءة تجارب الشعوب. منحنا بكل محبة مفاتيح فهم العدالة والاشتراكية بمفردات كان كلٌ منَّا يستخدمها في يومياته العادية.

مع اندلاع الانتفاضة الأولى، صار زياد أحد أهم مرشدينا لفهم الواقع، مرآةً نرى من خلالها وعينا الطبقي وموقعنا من العالم. يمنحنا بصيرة نقدية تحول حاسة الفهم إلى أداة كفاحية، والإبداع إلى شُحنة أخلاقية

وعندما انتقلت الحالة الفلسطينية من تأسيس أطر العمل الجماهيري، إلى الاشتباك الشعبي مع قوات الاحتلال، ظلَّ زياد حاضراً، بل شعرنا أنه أصبح أكثر حماسة وحيويةً في تلك المرحلة. بالمناسبة، ارتفاع حماسة زياد هنا ليس مجرد إسقاط مجازي، بل حقيقة. لأن إدراك زياد وفهمه يرتقيان بارتقاء الانتماء للمواجهة. في هذه الحالة، تتخلص النفس من أحمالها البرجوازية، تصبح أكثر نقاءً لاستقبال المعنى، وتصبح أدوات الفهم أكثر حدّة وحساسية وشمولاً. الفهم الحقيقي العميق يتشكّل في الميدان، حيث تحتكُ الذاتُ ضمن بنيتها الجمعية بالعالم، وتشتبكُ مع تناقضاته.

وهكذا، مع اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987، صار زياد أحد أهم مرشدينا لفهم الواقع، مرآة نرى من خلالها وعينا الطبقي وموقعنا من العالم. يمنحنا بصيرة نقدية، تحول حاسة الفهم إلى أداة كفاحية، والإبداع إلى شُحنة أخلاقية. زياد، في هذا السياق، كان في خندق الرؤية، يفتح آفاق السؤال ويؤطر الانتماء. كان في ساحات المدارس والجامعات يحفرُ درب الفكر الإنساني الجميل. وفي وداع الشهداء كان أهزوجة الصمود وعهد المواصلة. وفي ليالي السهر على تخوم القرى والمخيمات في انتظار الغزاة، كان صوتُه يسبق الفجر، ويحرسُ الحلم من النوم، ويزرعُ في العتمة وصايا المقاومة. وما زال زياد حتى اللحظة، في خنادق العمل الفدائي المتقدم في غزة والضفة، وفي ملامح أطفال جنين وطولكرم والخليل وبيت حانون والشجاعية وخانيونس، في الخزائن السرية للصبايا والشباب، في غرفهم المهدّدة بالهدم والتهجير.

ثقافتنا داخل المعتقل

أنا شخصياً لي مع زياد الكثير الكثير من الحكايا والذكريات، لكن سأذكر هنا حكايتين، انتقلَ على إثرها زياد من هالته الرمزية إلى مكانة قريبة مني وتلتصق بي. أصبح أحد رفاقي المقربين.

الحكاية الأولى، كانت في اعتقالي الأول. دخل الصهاينة غرفتي وصادروا محتوياتها، كان من بينها صور لقادة وشهداء ورموز نضالية أممية، ومن بينها صورة بالأبيض والأسود لزياد. كنت أحب هذه الصورة، وأرى فيها لبنان الذي احتضن المقاومة الفلسطينية بعد خروجها من عمّان.

في إحدى جولات التحقيق، أحضر محقق المخابرات الصهيوني الصور، سألني عنها واحدةً واحدة، كان جوابي حينها الصمت. وعندما وصل إلى صورة زياد، زاد على صمتي ابتسامة. تبسمت لأني تذكرت مقولة زياد: “فوق ما بدو يسرقنا.. بدو نحترمو”. يبدو أن ابتسامتي أهانت كبرياء المحقق فرمى الصور في وجهي ووجّه لي عدة ضربات، وصرخ بالعبرية وخرج. وهكذا انتصرت أنا وزياد في جولة تحقيق أخرى.

إقرأ على موقع 180  الترسيم ما له.. ولا عليه

الحكاية الثانية، كانت في فترة اعتقال آخر. اجتمع الرفاق في جلسة حول الثقافة والفن ودور كل منهما في تشكيل وعي ووجدان الشعب وإطلاق مقاومته. بطبيعة الحال زياد حاضر في الجلسة. أحد الرفاق كان يتحدث عنه وقال: “زياد يردّنا إلى البديهيات”. عندها تدخلت. انتفضت وكأن أحداً مسَّ أحد الرفاق بما لا يليق. سألت بنبرة حاولت ألا تكون حادة: “ما هي البديهيات في نظرك”؟ أجابني الرفيق: “أن يعيد تعريفنا بما نعرف وبما هو طبيعي”.

فقلت: هذه مفاهيم مطلقة وغير علمية، على سبيل المثال. رسخت الأكاديميا في وعينا بوصفها أداة للسلطة، أن كولومبوس مُكتشف أميركا. قد تكون هذه بديهية وفق التوصيف المطلق. لكن لو قاربناها بمنطق زياد، سنجد أن هذا التوصيف الذي يحمله حتى معذبو الأرض هو نتاج ثقافة المستعمر الأبيض، بينما من منظور السكان الأصليين، لم يكن الأمر “اكتشافاً”، بل غزواً تبعته الإبادة، والاستعباد، ونهب الثروات، وقيام إمبراطورية الشر “أميركا”.

 كان زياد منتمياً حتى النخاع، لكن هذا النوع من العلاقة بين الإنسان والقضية، كان أكبر من أن تراه الثقافة النيوليبرالية الممولة، وأعمق من مفردات الحداثة المسطحة

هكذا كان زياد حاضراً في صياغة ثقافتنا داخل المعتقل، ينكشُ تحت الجلد بحثاً عن مفاتيح المعرفة، كلما وصلنا طبقة من الوعي، بحثنا فيما بعدها. كان مستفزاً يتحدى كل مفردة وكل تصور، كلما توصلنا إلى شيء سألنا أنفسنا هل هذا هو الصواب، فنعيد لننقد ونسأل ونحاور. الوعي النقدي كان أهم سمات زياد، لأنه يعلمنا كيف نطرح الأسئلة وكيف نفتح أبواب الشك على اليقين.

مرآة للجميع

زياد، هذا الذي نعاه الثوريون والمقاومون والفقراء والمقهورون، ونعاه في الوقت نفسه خصوم الشعوب ودُعاة التفكيك واللامبالاة واللا انتماء، كلٌّ رأى فيه مرآته. البعض تلمس فيه وجداناً ملتزماً لا يساوم، والبعض أسقط عليه تصورات التحرر المنفلت، فظنوه متمرّداً بلا بوصلة، بلا انتماء، مجرّد صوت ضدّ كل شيء. غير أن من نشأ وعيه مع زياد، يُدرك أنه لم يكن يوماً عابراً أو منفلتاً، بل الأكثر انحيازاً لقضايا الناس، وأعمقهم وعياً بموقع الثقافة والفن بشكل خاص، في معادلة الصراع.

كان زياد منتمياً حتى النخاع، لكن هذا النوع من العلاقة بين الإنسان والقضية، كان أكبر من أن تراه الثقافة النيوليبرالية الممولة، وأعمق من مفردات الحداثة المسطحة. ومع ذلك، أنا لا أرى حاجة لتوصيفه أو تقييده ببديهياتنا الساذجة، وسيظل سؤالاً مفتوحاً في وجداننا كما الجرح على أرض المعركة، يطرق أبواب وعينا كلما خفَت الحسّ النقدي فينا.

الثابت الوحيد هنا هو أننا نحبه، وربما يحبه خصومه أيضاً، لأنهم يشعرون، كما نشعر، أنه يعكس المساحات البكر فينا، تلك التي ظلَّت عذراء، واستعصت على الغزو والخراب، تلك التي ما زال فيها الطفل يلهو، والثائر يصرخ، والمقهور يحلم. حتى نفهم زياد كما ينبغي، علينا أن نعود أطفالًا، أو نصبح مثل زوربا، نرقص بلا موسيقى ونشنُّ ثورة على الثورة نفسها، ونستقبل الحياة بحواس مفتوحة على الوجع والدهشة معاً.

زياد يحبه الثائرون، لأن كل ثائر في جوهره طفل أبدي.

Print Friendly, PDF & Email
آدم كنعان

كاتب فلسطيني

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل في محكمة العدل.. جنوب إفريقيا توقظ الضمير الدولي