طليس الكلاسيكي وسماوات حُبِّه العشر.. أعجوبة العشق

"سماوات الحبِّ العشر"، لعبد الغني طليس، مجموعة شعرية صدرت مؤخراً عن دار الأمير للثقافة والعلوم، (بيروت، ط.١، ٢٠٢٢).

السماوات العشر والعالم العجائبي   

يصدِّر الشاعر عبد الغني طليس مجموعته ببيتين من الشعر يوضح بهما تجاوزه عدد السماوات المتداول، وهما: “سماواتنا سبعٌ عتاقٌ نزورها/ بعين خيال الذاهبين الى النبع/ ولكنَّ حبِّي بالعجائب شاءني/ أطوف بعشرٍ من سماواتنا السبع”. يسوِّغ الشاعر زيادته عدد السماوات بحبِّه لـ”العجائب”، ويُلاحظ أنَّ طوافه بعشرٍ من سبع هو مفارقة، أو أعجوبة. واذ نبحث عن سرِّ هذه العجائب، نلحظ أنَّ صورة الغلاف مستوحاة من عالم ألف ليلة وليلة، دنيا العجائب، وهي دالَّة على عالم الحب، ولمَّا كان العنوان دالٌّ على هذا العالم، بسماواته الزائدة، هل نقول: أن العالم المعنيِّ، هنا، هو عالم الحب، عالم العجائب وصانعها، ما يثير سؤالاً هو: ما هي عجائب هذا العالم؟ وما هي الأعجوبة التي يصنعها؟ نترك الاجابة الى نصوص المجموعة الشعرية التي سوف نستنطقها بعد قليل.

ثنائية عالم الغابة

غير أنَّ الشاعر يقول، في مقدمته لمجموعته الشعرية: “قصيدتي هي مسير في غابة تفاجئك، مع كل خطوة، بعاشقين متعانقين، أو بعواء ذئاب، أو بشجرة طاعنة يرسم جذعها أشكالاً خرافية، أو بطير مجروح، أو صراع ديكة، أو انسان شريد، أو عرس غجري، أو قبائل مقتتلة، في ما بينها..” (ص. ٦). أشياء هذا العالم/ الغابة مدهشة، والعجيب فيها عناق العاشقين في فضاء عواء الذئاب وجراح الطيور واقتتال القبائل وصراع الديكة..، وهذه اشارات رمزية دالَّة على عالم صراع واقتتال..، تشكل طرفاً أوَّل، من ثنائية تضادّ طرفها الثاني عناق العاشقين في عالم الحب.

الشعرالكلاسيكي والعمودي

يريد الشاعر أن يذهب الى هذا العالم، بوصفه ينابيع الشعر، ليمثله شعراً “كلاسيكيا”، وان كان له حلم، فهو أن يضعه شعره والأيام “في مقدمة شعراء الكلاسيكية الثائرين انصافاً للكلاسيكية..” (ص. ٨). يصنِّف الشاعر شعره، في هذا المذهب الشعري المعروفة مبادئه في الشعر الأوروبي، وكان قد فعل ذلك على غلاف مجموعته، فكتب “شعر كلاسيكي”. لا يخفى أنَّ هذا تصنيف يعني بـ”الكلاسيكية”، ليس المدرسة المعروفة في الشعر الأوروبي، اذ أنَّ أيَّ شعر عربي لا يتصف بخصائص شعر هذه المدرسة المعروفة، وانما يقصد الشعر الموزون المقفى، المتبع نظام العروض الخليلي.

كما أنَّه يصنِّف شعره، في موضع اَخر، بالشعر العمودي، معتمداً معياراً هو طريقة كتابة هذا الشعر العمودية. وعمود الشعر، كما هو معروف، شيء اَخر، كما بلوره المرزوقي بعد أن ذكر أسسه غير ناقد عربي، ومن مبادئه: جزالة اللفظ وشرف المعنى واصابة التشبيه، وقرب المستعار منه من المستعار له، والتئام النظم..، ومن منظور هذه الأسس الشعرية لم يعدّ بعض النقاد العرب القدامى شعر الكميت بن زيد الأسدي وأبي تمام شعراً عمودياً، وانما عدّوا شعر الكميت خطباً، وعدُّوا شعر أبي تمام كلاماً خرج على عمود الشعر العربي. ان التصنيف الصحيح لهذا الشعر هو “الموزون المقفى”، أو “شعر الشطرين”، والمكتفي بشطر واحد، من الموزون المقفى هو “المشطور”، اضافة الى الرباعيات والمربع والمخمس.

الحداثة الشعرية العربية وثورة الشعر الموزون المقفى

قبل أن يبدأ القارئ بقراءة شعر هذه المجموعة، المنبجس من ينابيع ذلك العالم العجيب، يحذره الشاعر: “قف/ خطر شعرٍ كلاسيكي”. يشعر القارئ بالخطر، فيطيع الشاعر، ليتبيَّن حقيقة هذا الخطر، فيجد مقدمة تتحدث عن عدة قضايا، منها: الحداثة الشعرية العربية التي فجرها شعراء كبار، فكبَّروها “منذ مجلة شعر اللبنانية (١٩٥٧) ومجلات أدبية أخرى” (ص. ١). الواقع أن الحداثة الشعرية العربية، فُجِّرت قبل عام ١٩٥٧ بكثير، فجبران خليل جبران يعدُّ أبَ الحداثة الأدبية العربية، وليس الشعرية فحسب، وتلته جماعات، منها: جماعة “الديوان” و”أبولو” والرومانسيون، ويمثلهم الياس أبو شبكة، والرمزيون، ويمثلهم أديب مظهر وبشر فارس، ورواد التفعيلة، ويمثلهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ولويس عوض وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي..، وقبل مجلة “شعر”، نشطت مجلات كثيرة، منها، في لبنان: المكشوف والأديب، والاَداب والثقافة الجديدة والطريق.

ثم، وكما يضيف الشاعر، “وبمرور ثلاثة أرباع قرن كاملة”، دخلت هذه الحداثة في الاستسهال وحب النجومية والتقليد..، ما صنَّمها؛ الأمر الذي يقتضي بذل جهد نقدي واسع وعلمي “لنتحسس مواقعنا الدقيقة في عالم ابداع الشعر، فلا تبقى الصورة خلطبيطة” ( ص.١٤ ). ثم يتحدث عن بحور الشعر العربي، بوصفها “معمودية نار” لمن يكتب الشعر عند العرب، ما يقتضي القيام بثورة مضادة، مع عدم التخلي عن حرية روح الشعر.

الشعر الحقيقي

واذ يقرر طليس ذلك، يقول انه نظم بالمحكية ونظم قصيدة التفعيلة والقصيدة النثرية، لكنه حريص على “الشكل الشعري الكلاسيكي” وحلمه، كما قلنا اَنفا، أن يضعه شعره في مقدمة شعراء الكلاسيكية الثائرين، وفيهم، اليوم، أسماء مضيئة. ويقرر أنَّ الشعر الحقيقي يمكن أن يولد “على الشكل الكلاسيكي، وعلى التفعيلة، وعلى السطر النثري، وحتى في سؤال وجواب غريبين كأن يُسأل ذلك الأعرابي: “هل تعرف مواقع النجوم؟ فيجيب: “وهل ينسى أحدٌ سقف داره؟”. هذا القول صحيح في وصف كلام ينتظم عنصر شعري في تشكيل بنيته، وهو الصورة، ومن نماذجه قول عبد الرحمن بن حسان بن ثابت لأبيه: “لسعني طائر كأنه ملتفٌّ في بردي حبرة”، أي في ثوبين ملوَّنين، فقال حسان: “نطق ابني بالشعر، ورب الكعبة”. لكنه لا يصدق على وصف الشعر الحقيقي، فالشعر لغة أخرى، نوعية، مختلفة، تولد كاملة، منذ أن بدأ الانسان التغني بالشعر في مواسم العمل، وفي أداء الطقوس الدينية، والعنصر الأساس فيها، اضافة الى عناصر أخرى، منها المجاز/ الانزياح، بمختلف أنواعه، النظام الايقاعي الذي تمليه التجربة الشعرية، وقد يتشكل من الوزن والقافية العروضيين ونظام تنغيمي، وقد يتشكل من نظام اَخر تلده التجربة الشعرية لمرحلة تاريخية يمثلها شعراء كبار يخطُّون الدرب ويشقُّونها، وعندما تُعبَّد يسلكها اَخرون، وتبقى هكذا الى أن يأتي شعراء اَخرون يخطُّون دروباً جديدة، ويشقُّونها، وهكذا.. وما تنبغي معرفته، في هذا الشأن، هو أنَّ النظام العروضي نظام كمِّي زمني ينظم الحركات والسكنات في البيت الشعري، ولا يرى الى النظام التنغيمي الذي كان ينظمه نظام الانشاد، وهو نظام شفوي لم يُقنِّنه العرب، والقدامى منهم كانوا يعرفونه. والشاعر الذي لم يكن يجيده، كان يصحب معه من يجيده الى مجالس الشعر، كما كان يفعل أبو تمام. ويمكن أن نرى في تجويد القراَن الكريم ما يدل على ذلك، ما يعني أن قصيدتين تُنظمان على الوزن نفسه تختلفان تنغيمياً اختلافاً كثيراً، فلو قرأنا البيتين الاَتيين، وهما من الطويل: ١. “تحرك موج البحر، ان أنت تقصد/ وتأمره، في طرف عينٍ، فيجمد”؛ ٢. “زمان الهوى، ان غاب، لا تسترده/ والا ستنسى تالياً كيف تعشق”، للاحظنا الفرق المتمثل بأصوات المد، الصوائت، المتوافرة في البيت الثاني كأنها نداء متتالٍ للمخاطب، في حين يفيد تتالي الصوامت في البيت الأول ايصال الخبر، وهذا المثال ان هو الا اشارة الى أن القصيدتين المنظومتين على الوزن نفسه تختلفان تنغيمياً، ما يعني، إن استخدمنا مصطلحات العالم اللغوي السويسري، فرديناند سوسير، أنَّ الوزن هو “اللغة” والقصيدة المنظومة عليه هي “الكلام”، وكل “كلام”، بهذا المعنى، سوى أي “كلام” اَخر.

الموضوعات الشعرية

وطليس، في هذه المجموعة، كما يقول، كان حرَّاً في اختيار المواضيع، وان كان بعضهم يظن أنَّ منها ما هو غير شعري، ذلك أنَّ المهم، كما يقول، هو كيفية تحويل الموضوع، وان كان حادثة، أو جزئية، الى “مادة شعرية بشروط البراعة في التعبير”، وهذا ما يتحول بالفردي الخاص الى انساني عام “قائم على الحب في أرضه وسماواته التي.. نحددها نحن” (ص. ١٦)، وهو، كما مرَّ بنا حدَّد السماوات بعشر، فإلى أرض هذا الحب الانساني وسماواته المتمثلة شعراً موزونا مقفى، يحلم ناظمه بأن يكون في مقدمة شعرائه.

التجربة الحياتية الشعرية والوزن والقافية

إن يكن الشاعر حريصاً على نظم الشعر الموزون المقفى، ويدعو الى ثورة مضادة يقودها شعراؤه، فانَّ سؤالين له تتضمنهما قصيدة: “أنا لا أطيق لك الزعل” غير الموزونة عروضياً، والمتشكلة من مقاطع يتألف كل مقطع منها من عدة أشطر، وينتهي بقافية موحدة، يلفتان القارئ، وهما:”ما للقوافي لم تعد تغفو على وزن/ وللأوزان أفقدها الحنين صوابها”!؟ (ص. ١٣). هل أن التجربة الحياتية الشعرية أملت هذين السؤالين، وتالياً الخروج على نظام الشطرين، الموزون المقفى، ما يعني أن التجربة الحياتية الشعرية هي التي توقظ القوافي، وتفقد الأوزان صوابها، وتملي نظامها الايقاعي؟ ولا أُبعد صوتاً همس لي ببيت للأخطل الصغير يذكِّر بمثل هذه التجربة، وهو: “ما للقوافي، اذا ما جاذبتها نفرت/ رعت شبابي، وخانتني على كبري”.

هذه المجموعة الشعرية 

تتضمن هذه المجموعة الشعرية اثنتين وثلاثين قصيدة موزونة مقفاة، وثلاث قصائد تخرج على هذا النظام العروضي الى نظام شعر التفعيلة المتخذ شكل المقاطع المقفاة، وثماني وثلاثين مقطوعة موزعة ثلاثيات ورباعيات وخماسيات وسداسيات، وتسميتها بهذه الأسماء كانت نسبة الى عدد أبيات كل منها، وليس الى تشكُّلها في نظام شعري مختلف مثل نظام الرباعيات المعروف.

نظم الشاعر القصائد الموزونة المقفاة على بحور الطويل والكامل والبسيط والوافر والخفيف، وهذه بحور نُظم عليها الشعر العربي القديم، ما قبل أن يُكثر مولَّدو العصر العباسي النظم على بحور المضارع والمجتث والهزج والرمل..، ومنها بحور هم ابتدعوها، كما تُلاحظ قلة ورود الجوازات، من زحافات وعلل، في هذه القصائد، وقلة القوافي المقيدة، ووفرة القوافي المطلقة، وتوظيف أصوات القافية جميعها، من وصل وخروج وردف..، في جعل ضابط ايقاع القصيدة فاعلاً ايقاعياً، فهل هذا يعني، كما قال هو، العودة الى “الينابيع” واحياء مذهب القدماء، والشروع بالثورة المضادة، وخصوصاً أن هذه القصائد ثرية بالمجاز، المتمثل في صور شعرية مبتكرة، ومن نماذج هذه الصور نذكر: “انَّ الجفاف على شفاهك سارحٌ/ كالعشب يُرسل، في الهواء أنينا” (ص. ١٢٠). يستحضر هذا البيت صورة المرأة/ الطبيعة، وكلٌّ منهما يحتاج الى “ماء”، ليحيا، ويخصب، وان لم يُسق، يجف ويئن، وتتشكل لوحة الجفاف، ومكوناها الشفاه والعشب يوحدهما العطش، لتنطق بالأنين، بالحاجة الى الحب الذي يعيد الى العالم، بأناسه وطبيعته، الحياة المعطاء، وهذه هي أعجوبة الحب. ويتمثل الانزياح الشعري، في حالات، في حدث يمثل حالة انسانية، لدى احساسه بالعجز ازاء قهر الزمن، كما في قوله: “ما زلت أسأل جدتي عن طولها/ وأموت من قهري اذا لم تسمع” (ص. ٢٣). وتتمثل لامبالاة المرأة في صورة يشكلها الحدث الخارجي الدال على حالة داخلية، تتمثل في صور محسوسة مبتكرة: عين خزف واحدة ترمقه بها، الوجه يزهو كالصلاة..، كما في قوله: “أخاطب الجسد الرماح ترمقني/ بلامبالاة عينٍ..، أصبحت خزفا/ أشيد بالوجه يزهو كالصلاة، فلا/ تُعير ذهناً، ولا وقتاً، ولا كلفا ” (ص. ٣٠)، ولعل هذه اللوحة الشعرية، تمثل حالة من حالات المرأة، وهي حالة المرأة المستحيلة. ومن الصور الدالة على معاناة المرأة من الرجل “الثعلب/ الحمل”.. “والمنتعل زناره في رأسه”، ما يذكر بقول الشاعرة العربية القديمة “أم الحكيم”: “أكرم هذا الجسم من أن يتورَّكه فحل همه أن يُجامعا” خطابها له: “حملت منك رماداً في فمي، وذوى/ صوتي بسحرك، وامتد الى../.. احتجت جنبي حبيباً، كائناً، بشراً/ فكنت – يا أنت – جنبي ثعلباً.. حملا/.. حتى يجيء الذي في رأسه شرف/ وليس زناره في رأسه انتعلا” (ص. ٥٠- ٥٣). ان هذه الا نماذج دالة فحسب.

إقرأ على موقع 180  لبنان: التدقيق الجنائي ينطلق.. وفرنسا تُدقّق بإحتياطي الذهب

الموضوعات الشعرية

الموضوعات الشعرية التي يرى اليها الشاعر، في هذه المجموعة الشعرية، كثيرة، يمكن أن نتحدث عنها، بإيجاز يقتضيه حجم مقالة قصيرة، كما يأتي:

قدرة الشعر السحرية: نقرأ قصائد هذه المجموعة، فيبدو لنا أنَّ طليس يرى أنَّ الشاعر يملك قدرة سحرية، وأنَّ الشعر ذو فاعلية خارقة، ومن النماذج الدالة على ذلك خطابه للشاعر:”تحرِّك موج البحر ان أنت تقصد/ وتأمره في طرف عينٍ..، فيجمد/.. وحرفك في أعلى الممالك يُعبد/.. وفوقك شمس تستطيع التقاطها/ ببيت قصيد عفو معناه يُعبد/.. الهك أعطاك الخوارق فاتحاً/ كنوزاً لتمشي بينها وتزغرد..” (ص.١٧ و ١٨). ويخاطب المرأة:”والشعر يزرعها حباً، ويحصدها/ قمحاً، ويجعل من دعساتها تحفاً” (ص. ٣٣).

العالم العجيب الذي مُسخ: لكن مقطوعة “كتَّاب لبنان” تنطق برؤية مختلفة تماماً عن هذه الرؤية، ولنقرأ ونر:”كتَّاب لبنان أشياع وأتباع/ كلٌّ على منظر الدولار يلتاع/ يطوِّلون قصيراً، من جبانتهم/ يقصِّرون طويلاً؛ حيث يُسطاع/ ويغرقون بذلِّ النفس عن عمدٍ، وليس للذِّل، في أعرافهم قاع/ كتَّاب لبنان ماتوا منذ هدَّدهم/ دولارهم أن اذا لم يركعوا جاعوا” (ص. ٢٠٧). السؤال: أيُّ الرؤيتين نصدِّق؟ الاجابة: الرؤيتان صادقتان، والتحوُّل/ المسخ حدث في عالم عجيب عنوانه: “اذا لم يركعوا جاعوا”، فيغدو المواطن مهزوماً، ينزل فوق جناحي مارد القمع. ويرسم الشاعر صورة شعرية مبتكرة تصوِّر حالة المسخ، فيقول:”وجسمي كأنَّ الرمل صاحبه..، فلا/ سرابٌ بدا..، الا بكفيه ينهل..” (ص. ٧١)، ويقول في موضع اَخر: “عن الفقر أحكي كيف أصبح شاهداً/ يحوِّل مالي.. قمامة مال/.. عن الجوع../ عن القهر../ عن الدمع..”، عن بلادي التي ماتت، وتعود الى موت جديد “وحاصرها قوم الفساد، وحلمهم/ كما الثمر الداني.. قريب منال/.. ولكن لصوص الفلس خانوا مصيرها/ ودبُّوا على أعصابها.. كنمال” (١٥٣ – ١٥٥). ويستعيد، في تناص، حالة أبي فراس الحمداني، الأسير المعذب، وينشد:”أقول وقد ناحت بلادي على يدي/ تعالي الى صدري الجريح تعالي” (ص. ١٥٩)، مستعيداً قصيدة الشاعر الفارس الأسير الشهيرة، ومطلعها: “أقول، وقد ناحت بقربي حمامة/ أيا جارتا لو تعلمين بحالي/..، تعالي أقاسمك الهموم تعالي..”. وتبلغ مأساة هذا العالم العجيب ذروتها، في انفجار مرفأ بيروت في الرابع من اَب/أغسطس سنة ٢٠٢٠، فيضع لقصيدته عنه عنوان:”حديث الذئاب”، ويقول في ما يقوله: “أطاخ انفجار فيه بالعقل، قائلاً: “خرائب عزرائيل بعض خرابي” (ص. ١٨٨). واذ تأتي بلاده الى صدره، يحتضنها، ويهمس لها: “بلادي تكاذبنا لنحفظ ودها/ لأن لنا فيها.. قبور غوال” (ص. ١٥٧).

“الأنا” فجرُ نفسه: لكن مهما تعتم حالته ينهض، ويقول: “أنا فجر نفسي حين تُعتم حالتي/ وأغلى نجوم السعد بالحبِّ أشعل” (ص. ٧). ويقوده هذا الى أن يرى في الشيب والصلع “صدمة الذكور.. الى الأبد” (ص. ٨٦). يقول عن المشيب: “لم أعدّ المشيب يوماً وقارا/ أو نجوماً لأنس ليل السهارى”، ما يذكر برؤية دعبل الخزاعي الى هذه الحالة الانسانية نفسها: “لا تعجبي، يا سلم، من رجلٍ/ ضحك المشيب في رأسه، فبكى). طليس لا يبكي من ضحك الراية البيضاء التي يرفعها العمر في رأسه، وانما يداويه بالعقاقير، ويظن الصباغ حلا وجيهاً، لكن ما يحدث في ما بعد أدهى: “فاذا الشيب، بعد ذلك،عيدٌ/ حينما الشعر يُكمل الانهيارا”، ويأتي الصلع.

من هو هذا “الأنا” وكيف يشعل بالحب أغلى نجوم السعد؟

نلاحظ، ونحن نتبيَّن العناصر التي تشكل هوية “الأنا”، كما تتمثل في قصائد هذه المجموعة، التناقض في هذه العناصر، فمن نحو أول يقرر، في قصيدة “بيان الطفولة” (ص. ٢١- ٢٧)، أنَّ الطفولة مرجعه، وأن الطفل، وان بلغ الأربعين، أو الستين من العمر، حدَّد موقعه، وأنه يزيد من رفضه لما رفضه من قبل، وما زال يطلب للمحتاج رزقةً..، ومن نحو ثان يقول، في قصيدة “يدي الطويلة” (ص٨٣- ٨٥): “وبي ما بالسيول، اذا استبدت/ وخوَّفت.. البساتين الجميلة/.. أنا شرٌّ..، وتؤنسني شروري/ وأكثر ما أحبُّ يدي الطويلة”. ويبدو أنه يعي هذا التناقض، فيقول، في قصيدة “سنديان وتفاح” (ص. ١٣٧- ١٣٩): “قاسٍ أنا كالسنديان، وكلما/ هزُّوا غصوني..، يسقط التفاح/ ضدَّان فيَّ فراشة شعرية/ ولصوص ليل هاجهم مصباح”، وهو اذ يعي هذا، يسأل: “كيف التأمت، وبي مزاج مخرِّب/ وحديقة، في بابها، مفتاح”؟، ويدرك أن “لا منطق عندي يفسر واقعي/ فالسرُّ ليس لمن يريد يباح”. ومن مظاهر “هذين الضدين” اعتقاده، من نحو أول، بأنَّ “الرزق ليس قسمة” (ص.٩٣ – ٩٦)، وتقريره أن السماء على قدر العزائم تمنح، وانشاده:”بل الرزق ابحار بعين يمامة/ على حبة القمح البهية تقدح”، وسبق أن قرأنا أنه هو “فجر نفسه”، وشعوره، من نحو ثان بأنه مسيَّر، كما في قوله:” وأنا أدَّعي أنني قد عثرت على الصحِّ في الحب/ وهو العمى” (ص. ١٨٦)، وكما في انشاده: “وكانت خياري..، دونها الكلُّ، وانتهى/ شعوري بأني خلف كعبي.. مسيَّر”! (ص. ١٥٠).

الحبّ: فهل هذا الاقرار بأنه مسيَّر يعود الى شأن لا سلطان للمرء عليه، وهو “الشعور”/ الحب، فيختار الحبيبة/ الزوجة التي يمليها القلب عليه، لاتصافها بما يلد نبضاته، فيقول بلسان الشاعر: “جنوبية..، قطر الندى من خصالها/ وان نطقت حرفاً..، فمسكٌ وعنبر” (ص. ١٤٨)؟

للحب، في هذه المجموعة، الحيز الأكبر، والمرأة، في قصائده، كائن سماوي يضيف الى سماوات الناس السبع ثلاث هنَّ له وحده. يطلُّ من صوت المرأة، في هذه القصائد، سرب الحساسين، ولها كرجة الشمس في صبح البساتين، وهي تستبدُّ بالأمر كالسلاطين، وتجمع القسوة الى اللين: “وهذي الأنوثة تخفي شهقة امرأة/ في عز قسوتها..، اشتاقت الى اللين” (١٠٥و١٠٦). لذا، فهو في حبٍّ دائم لها: “وكلما متُّ في حبٍّ، أعود/ الى حبٍّ وموتٍ..، أنا العنقاء في التيه” (ص. ٢٠٢)، غير أن هذا الذي إن تبتسم امرأة له، يرى ملائكة نادت عليه: تعال (٢٠٥)، وهذا الذي يعطي المجد للنساء، والقائل:”أنا أتمنى أن أصير مبلِّغاً/ على شعره، في الحب، تُختتم الصلا” (ص. ١٣١) يعترف بأنَّ ذنبه فظيع ؛ اذ ألقى في عينيها رحله وانتظر.. السرابا ؛ ذلك أنَّ المرأة، كما تبدو، هنا، وكما مرَّ بنا اَنفاً، مستحيلة الامتلاك: يقول مقرراً هذه الرؤية: “ولدى النساء غواية ملعونة/ هي ترك أفكار الرجال ضبابا” (ص. ١٤٦)، ويخاطب النساء اللواتي يقدنه الى الغرق: “وتغرق في رملٍ، فتشتاق غيره/ كأنك أدمنت النجاة.. غريقا” (ص. ١٦١)، ومع هذا يهتف:”أنا فرح جداً..، بمجد نهايتي: دمي، في سبيل العاشقين أريقا” (ص. ١٦٤).

أعجوبة الحب

واذ يطوف طويلاً في عالم الحب، ويتمثَّل، ويمثِّل، تجارب متنوعة لغة شعرية، ينتهي عبد الغني طليس الى القول: “أيها الحب زنِّر الأرض يوماً/ وستشفى على يديك الشعوب” (ص. ١١٨). وهذه هي أعجوبة الحب يراها شاعر طوَّف في دروب العالم وشعابه طويلاً.

Print Friendly, PDF & Email
عبد المجيد زراقط

كاتب وباحث وأديب وروائي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  دراسة إسرائيلية: الأولوية لسلاح الجو أم للصواريخ الدقيقة؟