أحمد الشرع وسُنّة لبنان.. شراكةٌ متوازنة أم مُعادلة الهيمنة مُجددًا؟

مع سقوط نظام بشّار الأسد وصعود أحمد الشّرع إلى السلطة في دمشق عام 2024، دخلت سوريا مرحلة سياسية جديدة أنهت أربعة عقود من حكم آل الأسد. قدّم النظام الجديد نفسه باعتباره منفتحًا على العالمين العربي والغربي، وباحثًا عن إعادة بناء الثقة الإقليمية ودور سوريا التاريخي في المنطقة. لا يمكن فهم هذا التحول إلا عبر قراءة تاريخية لتجربة العلاقة السورية-اللبنانية، خصوصًا مع المكوّن السني، حيث يبرز الفارق الحادّ بين "سُنّة المدن" و"سُنّة الأطراف".

الذاكرة السياسية اللبنانية تحفظ أن النظام البعثي السابق حمل معه منذ بداياته عقلية صراع الريف والمدن، وهو صراع عميق الجذور في البنية الاجتماعية والسياسية السورية. هذه الذهنية انعكست بشكل مباشر على طريقة تعامل دمشق مع المكوّن السُنّي اللبناني، حيث جرى تفضيل الأطراف على حساب النخب المدينية. يؤكد الباحث الفرنسي ميشال سورا في كتابه الدولة المتوحشة أنّ حزب البعث، منذ استيلائه على السلطة عام 1963، أعاد رسم الخريطة الاجتماعية السورية، فأقصى النخب المدينية التاريخية (وغالبيتها من السُنّة) لصالح نخب ريفية وأقليات طائفية.

لم يكن الأمر مجرّد خيار أيديولوجي قائم على “الاشتراكية الريفية”، بل كان أداة لضمان السيطرة السياسية والأمنية، إذ أنّ المدن الكبرى (دمشق وحلب وحمص) كانت تاريخيًا بؤرًا للمعارضة. هذا ما يوضحه أيضًا نيكولاس فان دام في كتابه الصراع على السلطة في سوريا، حيث يوضح أن البنية العسكرية والأمنية بعد عام 1970 صِيغت لتكون تحت سيطرة ضباط من أصول ريفية وأقلوية، فيما تمّ إبعاد القيادات السنية المدينية عن مراكز النفوذ الحقيقية.

أما باتريك سيل في كتابه الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، فإنه يشير إلى أن هذه السياسة لم تكن نتيجة صراعات اجتماعية، بل كانت أيضًا جزءًا من استراتيجية سلطة واعية تستخدم تحالف الريف والأقليات كـ”جدار أمني” يحمي النظام من احتمالات الانقلاب أو العصيان في المدن.

العلاقة بين سوريا وسُنّة لبنان كانت دائمًا مرآة للصراع الأعمق بين الريف والمدن في العقلية البعثية. من تفضيل الأطراف السُنّية على حساب النخب المدينية إلى إدارة التوازنات المذهبية بما يخدم استقرار السلطة، كانت هذه السياسة جزءًا من هوية النظام السابق. ومع التغيّر في دمشق، ثمة فرصة لإعادة صياغة هذه المعادلة، لكن النجاح لن يتحقق إلا إذا أدرك النظام الجديد أن التعامل مع سُنّة لبنان يجب أن يقوم على الشراكة المتوازنة لا على منطق الهيمنة مجددًا

انعكاس عقلية البعث لبنانيًا

حين دخلت القوات السورية إلى لبنان عام 1976، على مسافة سنة من اندلاع الحرب الأهلية، حملت معها ذهنية الريف والمدينة. ويوضح الباحث اللبناني بسّام صلّوخ أن دمشق تعاملت مع السُنّة اللبنانيين بذات المنظار الذي تعاملت به مع السُنّة السوريين. فالنخب المدينية في بيروت وطرابلس وصيدا، المتمسّكة بهويتها العربية-الإسلامية المستقلة، كانت تُرى كقوة سياسية يصعب إخضاعها بالكامل، أما الأطراف السُنّية في البقاع والشمال، التي ترتبط بسوريا عبر الحدود الجغرافية والعلاقات العشائرية والمصالح الاقتصادية، فكانت تُعتبَر أكثر مرونة وقابلية للارتباط بالمشروع السوري في لبنان.

في مرحلة 1990–2005، ومع تكريس النفوذ السوري في لبنان بعد اتفاق الطائف، كان هذا النمط واضحًا. فقد مُنحَت شخصيات من الأطراف حضورًا سياسيًا ونيابيًا وبلديًا ملحوظًا، بينما بقيت العلاقة مع زعامات المدن السُنّية (وعلى رأس هؤلاء رفيق الحريري) متوترة، تتأرجح بين التحالف التكتيكي والصدام المكتوم.

وعلى الرغم من شعارات “الوحدة القومية” ورفض الطائفية، فإن حزب البعث، كما يشير ريمون هينبوش، مارس سياسة طائفية مقنّعة، إذ وظّف الانتماءات المذهبية كأداة للضبط والتحكم. وفي الحالة اللبنانية، تداخل هذا البعد مع الفارق الاجتماعي-الجغرافي بين المدن والأطراف. فـ”سُنّة المدن” كانوا أقل انخراطًا في الخطاب المذهبي العلني وأكثر تمسكًا بخطاب وطني عروبي، لكنهم كانوا في الوقت نفسه أكثر حساسية تجاه ما اعتبروه مشروعًا سوريًا يُهمّشهم. أما “سُنّة الأطراف”، بحكم الطبيعة العشائرية والريفية، فقد كانوا أكثر تعبيرًا عن الانتماء المذهبي وأكثر قربًا من المزاج الشعبي السني التقليدي، ما جعلهم في بعض المراحل أكثر انفتاحًا على دمشق، سواء لأسباب مصلحية أو نتيجة للتقارب الاجتماعي-الجغرافي.

النظام الجديد.. وسنة لبنان؟

مع وصول أحمد الشرع إلى السلطة، تحاول دمشق إعادة بناء علاقتها مع السُنّة اللبنانيين وفق قواعد جديدة. إلا أن التباين بين المدن والأطراف ما زال قائمًا. فهناك حذر موروث من تجارب الماضي في المدن الرئيسية، أما في الأطراف، فهناك استعداد أكبر للتفاعل الإيجابي، مدفوعًا بالمصالح المباشرة (من التجارة عبر الحدود إلى استعادة شبكة النفوذ المحلّي التي كانت قائمة قبل 2005).

يمثل النظام السوري الجديد نقطة تحوّل واضحة في مقاربته للسُنّة اللبنانيين، حيث يتجه نحو استراتيجية سياسية تعتمد على تجاوز الخطاب الطائفي الذي كان يهيمن على العلاقات في العهد السابق. فقد أدرك النظام الجديد، في ضوء التغيّرات الحاصلة إقليميًا ودوليًا، أن إدارة علاقة متوازنة مع السُنّة اللبنانيين ضرورية.

هذا التوجه الجديد لا ينطلق من منطلق إيديولوجي، بل من واقع براغماتي يعترف بدور الطائفة السُنّية كعنصر فاعل في السياسة اللبنانية. ولهذا، يسعى النظام إلى بناء قنوات تواصل سياسية، بالرغم من أنه لم يظهر حتى الآن حضور سياسي سُنّي واضح في دمشق، باستثناء زيارة المفتين إليها.

إقرأ على موقع 180  محمود درويش ومارسيل خليفة.. جدارية الشعر والموسيقى

تواجه الطائفة السنية في لبنان تحديات كبرى تتمثل في ضرورة الحفاظ على دورها السياسي، ولا سيما في المرحلة الجديدة التي تراجع فيها حضور حزب الله. كما تدرك القيادات السُنّية أهمية إيجاد قنوات تفاهم مع دمشق الجديدة، لا سيما إذا رُفعَت عنها وصمة الانتماء الطائفي السابق. هذه العلاقة المتوازنة تشكل فرصة لإعادة بناء ثقة سُنّية بالحاضنة العربية والبعد الإقليمي، بما يسهم في الحد من هيمنة التشكيلات غير النظامية ويوفر بديلاً سياسيًا أكثر فعالية.

وفي هذا الصدد، تدخل دول الخليج كراعٍ إقليمي ومحرّك أساسي في إدارة العلاقة بين النظام السوري والسُنّة اللبنانيين، انطلاقًا من مصلحتها في ضبط النفوذ الإيراني عبر حزب الله. تتركز استراتيجية الخليج على دعم الاعتدال السُنّي، لكن التحدي الأكبر يبقى في كيفية تحقيق توازن فعلي في لبنان يدعم خيار حصرية السلاح من دون الانزلاق إلى مواجهة مسلحة مع حزب الله أو تأجيج الصراعات المذهبية (السنية – الشيعية).

في الختام، العلاقة بين سوريا وسُنّة لبنان كانت دائمًا مرآة للصراع الأعمق بين الريف والمدن في العقلية البعثية. من تفضيل الأطراف السُنّية على حساب النخب المدينية إلى إدارة التوازنات المذهبية بما يخدم استقرار السلطة، كانت هذه السياسة جزءًا من هوية النظام السابق. ومع التغيّر في دمشق، ثمة فرصة لإعادة صياغة هذه المعادلة، لكن النجاح لن يتحقق إلا إذا أدرك النظام الجديد أن التعامل مع سُنّة لبنان (مدنًا وأطرافًا) يجب أن يقوم على الشراكة المتوازنة، لا على منطق الهيمنة مجددًا والتوظيف المرحلي.

ويبقى السؤال: هل يتجاوز النظام الجديد إرث البعث ويعيد بناء علاقة ثقة حقيقية، أم أن الجغرافيا السياسية والتاريخ الاجتماعي سيعيدان إنتاج نفس المعادلة القديمة بثوب جديد؟

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الـ"وسام"