

يومها ولأيام معدودة بعد الحفل تمسكت برأي الأغلبية التي اعتقدت أن الرئيس الأمريكي، برغم عديد صفاته السلبية، ليس غبياً. لا شك أدرك ما أدركته أنا نفسي من أن هذه مناسبة لها منذ القدم تقاليدها الملكية تلتزم عند استقبال رؤساء وملوك أجانب. وما حدث لا يخرج عن أن الرئيس انبهر بفخامة ما يرى ونسي قواعد ومراسم الحفل وهو ما يمكن أن يحدث لي ولأيٍ كان. أخطأت التشبيه، فنحن، أقصد الرئيس وأنا، نختلف في نقطة هامة، بين نقاط كثيرة، وهي أنني لا أعيش أحلام عظمة وربما لم أولد بطباع ونزعات نرجسية قوية وكلها لا تخفى أمام العين المجردة.
***
مرّت أيام لم تخلُ من جدل بين المعلقين حول الحادثة إلى أن جاء يوم صدرت فيه مجلة “تايم” الأمريكية داخل غلاف يحمل صورة الرئيس ترامب وعلى رأسه تاج ذهبي. لم يتوقف الجدل ولا انحسر، وكلنا نعرف منذ وقت طويل أن لغلاف الـ”تايم” مكانة رفيعة في تكويننا نحن الإعلاميين وبخاصة من يعمل منا في صنع الرأي وتحليل الرأي الآخر.
منا من راقب بكل الدقة الممكنة سلوك الرئيس ترامب منذ أطل علينا وهو يستعد لولايته الأولي. بحثنا في خلفياته الشخصية ومنها علاقاته مع رفاقه من المطورين والمقاولين. رأينا وتعجبنا كيف فضّل، وهو رئيس، وانتقى من بين كافة حكام العالم، ملوك وأمراء العرب ليحظوا بأول زيارة له خارج الولايات المتحدة. تعجّبنا حين رأينا عائلته في صحبته. تعجّبنا أيضاً حين راح يشارك في الرقص بالسيف. تعجبنا، هنا أتحدث عن نفسي وإعلاميين آخرين من رفاقي، حين عاد في ولاية ثانية ليكرر ما فعل قبل سنوات ويزيد عليه الاعتراف صراحة بحصوله على مبالغ، أو وعود بمبالغ، تحسب بالتريليونات. أمر لا سابق له في تاريخ العلاقات الدولية، إلا في حالات استيلاء المستعمر الأجنبي على أموال عينية ونقدية من حكام المستعمرات ابتزازاً أو تهديداً أو وعداً بحماية ضد مستعمر آخر أو مخرب.
***
هل للرئيس ترامب رؤية أو رؤى صريحة ومعلنة؟ نعم ولا. نعم لأنه لم يخف مذهبه في الحكم والعلاقات مع الآخرين؛ المذهب المؤسس على أسلوب محدد لا غيره ألا وهو استخدام جميع مصادر القوة المادية والبيروقراطية والسياسية للحصول على ما يبدو متاحاً لدى الطرف الثاني. رأيناه ونراه يمسك بيد قوية على أي يد ممدودة للتحية.
رأينا هذه الممارسة تتكرر وبشكل يقترب من نية كسر الإرادة خلال مؤتمر شرم الشيخ حتى أنني أشفقت على السيدة جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا، وبخاصة حين أضاف لقبضة اليد الغليظة مغازلة بدت لي، وأنا العارف بذهنية الإيطاليين، ثقيلة وكالحة إن صح التعبير. رأينا مؤتمراً فريداً من نوعه. رؤساء دول وحكومات يهرعون نحو الرئيس الأمريكي، كل منهم أعد خطاباً قصيراً في مديحه لتفويت الفرصة عليه ليشن حملة وعظ أو سخرية أو تهديد أو ابتزاز. حضرت في حياتي عشرات المؤتمرات أؤكد أنني لم أقع على هذا الأسلوب ولا هذا الجو المسموم ولا هذا الإرباك الذي تسبب فيه هذا الرئيس.
***
يصر الرئيس ترامب على أن تكون مؤتمراته الدبلوماسية واجتماعاته بكبار المسئولين في حكومته مفتوحة أمام الصحفيين، ولعلها هذه إحدى أهم وسائل الردع والترهيب التي ابتدعها لشل القدرات الذهنية لرفاقه من الحكام عموماً والزائرين خصوصاً وإجبارهم على الإشادة به خوفاً من إطلاق لسانه في ذمهم والإساءة إليهم. يجوز أن يكون هذا الأسلوب حافزاً لإخضاع إرادة العميل الساعي لفضل أو معروف أو صفقة. أظن أنه يتعمد في كل قمة أو زيارة، كما يحدث مع فولوديمير زيلنسكي رئيس أوكرانيا ومع آخرين، إخضاعهم ملمحاً بالقوة الهائلة لأمريكا، وهي في وجوده لا تحتاج حتى إلى تلميح، فضلاً عن أنه يتعمد أن يلوّح بقوته وإرادته أمام صحفيين معتمدين وكاميرات التلفزيون، وبخاصة بعد أن استكمل إعادة تأثيث المكتب البيضاوي ليتناسب مع تطلعاته “الملوكية”.
***
تحدث خلافات بين إسرائيل وأمريكا بين الحين والآخر ولكن لفترات قصيرة. أتصور أن ما يجعلها قصيرة ليس الحرص على مصالح قومية بقدر ما هو تدخل القوى الخفية بالضغط على قيادات الدولتين. إن صحّ تصوري يصبح منطقياً القول إن هذه القوى الخفية باقية ما بقي أو تغير النظام السياسي الدولي الراهن، وغير باقية بالضرورة إذا تغير النظام الاقتصادي العالمي الراهن، وهو النظام الذي يسمح لأفراد وعائلات وجماعات باكتناز ثروات مالية هائلة تهيمن بواسطتها على إرادات دول عظمى وصغرى على حد سواء
واضح تماماً أنه لم يستخدم أياً من هذه الأساليب في جلسات مفتوحة مع بنيامين نتنياهو. الأمر الذي يزيد من اقتناعنا بأن في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية ألغاز وأسرار لم يكشف عنها الستار بعد. ما زلت مقتنعاً أن كلاهما خاضع بشكل أو بآخر لمركز قوة ليس غريباً عن تخمينات العدد الأكبر من الخبراء. على كل حال يبدو أن الأزمة الراهنة في الشرق الأوسط بدأت تفضح شيئاً فشيئاً سراً بعد آخر من أسرار هذه العلاقة. يبقى في ظني أن الخضوع لمصدر واحد كلاهما يستمد منه السلطة والقوة لا يحول دون أن يكون لأحدهما أو لكليهما مصالح شخصية تتفاوت أهميتها ودورها في التسبب في اختلافات بسيطة في الرؤى والأساليب، وبخاصة أن أحدهما مقاول كبير متعدد العلاقات والثاني فاسد خطير منشغل بعبادة السلطة.
***
لا شك أن هذه العلاقة التي يصر الطرفان على خصوصيتها صارت في عرف الإعلاميين وبعض المتخصصين في العلاقات الدولية علاقة فريدة لا مثيل لها في النظام الدولي الراهن. نلاحظ مع آخرين أن إسرائيل باتت تلعب في ساحات السياسة الدولية دوراً خطيراً. ثم يأتي الرئيس ترامب بعلاقته الفريدة معها ليزيدها خطورة على كافة الأصعدة. نتنياهو بلسانه يعلن مرة بعد أخرى أن الولايات المتحدة مدينة لإسرائيل. ولعله فيما يقول ويُردّد على حق. ترامب من جانبه اعترف أكثر من مرة بالقوة الإسرائيلية الفائقة. عادة لا يحدد مصادر وأسس هذه القوة الفائقة.
***
الخبراء من جانبهم يقترحون أربعة مصادر لهذه القوة الفائقة:
الأول؛ الهيمنة شبه الكاملة على كنوز البيانات والمعلومات في معظم دول العالم والتقدم الكبير في استخداماتها لها في الحرب كما في السلم. يد إسرائيل دائماً، موجودة فهي مالكة بالجزء أو بالكل لعديد شركات البيانات، وهي موجودة لأن أكثرية اليهود العاملين في هذه القطاعات في مختلف دول العالم، وبخاصة في أمريكا والدول الغربية، هم إما رعايا إسرائيل كجنسية ثانية معلنة أو في السر.
الثاني؛ حيازتها للسلاح النووي واطمئنانها إلى أن أمريكا باستخدام نفوذها وقوتها الاقتصادية والعسكرية لن تسمح لدولة أخرى في الإقليم بتصنيع هذا السلاح، وليكن معلوماً للدول الكبرى والصغرى على حد سواء أن تعهدات أمريكا لإسرائيل في هذا الصدد تظل قائمة مهما كانت الظروف.
الثالث؛ مكانة إسرائيل في النظام الاستخباراتي الدولي، إذ أنها موجودة في معظم الدول والهيئات والمؤسسات الدولية. لن يصدر قرار أو إجراء يهم المصالح الأمنية العالمية إلا وإسرائيل تعلم به واستعدت له أو استخدمته لخدمة أهدافها مع دولة أو أخرى.
الرابع؛ هيئات، بعضها معروف والبعض الآخر غير معروف للصحف والدول، مهمتها تمويل حملات انتخابية لشيوخ ونواب ورؤساء دول. المال المخصص لهذه العمليات يأتي عن طريق الإعفاءات وصفقات الفساد وامتلاك مصارف وحصيلة التهرب الضريبي التي يقوم بها أشخاص بأسماء كبيرة لا تقاربها صحيفة أو حكومة. أكثرنا يسمع وأقلنا يعرف وجهة الولاء الحقيقي لشيوخ ونواب بارزين في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول ديموقراطية أخرى، وكلنا صرنا نعلم عن نصيب المال الصهيوني في حملات الانتخابات وبخاصة الأمريكية، هذه وغيرها صنعت جيوشاً من العملاء والتابعين لم تتوفر لدولة أخرى من قبل.
***
أتفق مع الرأي القائل بأن مظاهرات المليون أمريكي، تحت شعار “ترامب ليس ملكا”، التي خرجت في عديد المدن الأمريكية نهاية الأسبوع الماضي سوف تخصم من الرصيد الشعبي للرئيس ترامب. أمر آخر أن يؤثر هذا الخصم في الرصيد في العلاقة بين ترامب ونتنياهو من ناحية وفي مكانة كل منهما داخل دولتيهما من ناحية ثانية وفي هيبة أمريكا أمام بقية دول العالم من ناحية ثالثة، وهي الهيبة التي ولأسباب أخرى بدأت مراحل انحسارها منذ فترة غير قصيرة.
***
تحدث خلافات بين إسرائيل وأمريكا بين الحين والآخر ولكن لفترات قصيرة. أتصور أن ما يجعلها قصيرة ليس الحرص على مصالح قومية بقدر ما هو تدخل القوى الخفية بالضغط على قيادات الدولتين. إن صحّ تصوري يصبح منطقياً القول إن هذه القوى الخفية باقية ما بقي أو تغير النظام السياسي الدولي الراهن، وغير باقية بالضرورة إذا تغير النظام الاقتصادي العالمي الراهن، وهو النظام الذي يسمح لأفراد وعائلات وجماعات باكتناز ثروات مالية هائلة تهيمن بواسطتها على إرادات دول عظمى وصغرى على حد سواء.