قبل أن يصبح “بناء الدّولة”.. مجرّد شعار استعماريّ!

أشرت مراراً إلى أنّ مشروع "بناء الدّولة"، أي دولة المواطَنة العصريّة وذات السّيادة، بات أمراً ضروريّاً في هذا الزّمان، خصوصاً بعد تمدّد وتمكّن - وربّما تجذّر - بعض المفاهيم اللّيبراليّة المعاصرة الكبرى، وعلى رأسها "الشّعور الفرديّ" كما فصّلنا الشّرح وبرّرنا التّسمية في ما سبق. ولكن، وخصوصاً في لبنان وفي مشرقنا العربيّ حاليّاً، نحن أمام خطر استخدام القوى الاستعماريّة الكبرى - المتجدِّدة - لهذا المفهوم، أي "بناء الدّولة" (مع التّبسيط)، كما جرت العادة منذ بداية العصور الأوروبيّة الحديثة تقريباً.. استخدامه، إذن، لمجرّد تحقيق المصالح والأهداف الاستغلاليّة والاحتلاليّة والاستعماريّة.

لنقم بسفر سريع خاطف سويّاً نحو محطّات أساسيّة في تاريخنا مع القوى الاستعماريّة الغربيّة هذه بشكل خاصّ، ولنتذكّر ما رفعته من شعارات نبيلة في ظاهرها وغير نبيلة أبداً في باطنها، أو ما رفعته من كلام على قاعدة “كلام حقّ يُراد به باطل”.. أو ربّما “كلام حقّ يُراد به استعمار”:

  • حماية الأقلّيّات المسيحيّة في الشّرق“: هذا شعار كان فيه حقّ معيّن بالطّبع، ولكن أين انتهى بنا جميعاً وبهذه الأقلّيّات؟ وقد بلغت ذروة النّفاق في هذا المجال، كما نعلم كلبنانيّين تحديداً، عندما حاولت بريطانيا – مثلاً وفي لحظة تاريخيّة ما – تبنّي “مهمّة” حماية الأقلّيّة الدّرزيّة.. في مقابل حماية فرنسا للأقلّيّة المارونيّة (كأنّ المذهب الرّسميّ للعرش البريطانيّ حينها كان مذهب أهلنا الموحّدين الدّروز!).
  • المساعدة على التّحضّر أو على الدّخول في الحضارة“: نحن، هنا أيضاً، أمام شعار كان فيه بعض النّيّة الطيّبة ربّما عند بعض الحاكمين والكهنة والمفكّرين وما إلى ذلك، في الغرب.. ولكنّه غالباً ما تجلّى على شكل محاولة محو ثقافة و/أو هويّة الآخر، أو على شكل اخضاع واذلال ومذابح لا عدّ لها ولا حصر. علق هذا الشّعار واقعاً وإلى حدّ بعيد: بين مضمون عنصريّ لا ريب فيه من جهة، وبين جانب عمليّ استغلاليّ واخضاعيّ واحتلاليّ (وربّما أبعد من ذلك) من جهة ثانية.
  • المساعدة على “التّخلّص من الاستعمارَين الفرنسيّ والبريطانيّ” بشكل خاصّ، أي في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثّانية تحديداً: ليتبيّن أيضاً، مع الزّمن، أنّنا كنّا في الواقع أمام دعوة للخروج من استعمار.. إلى استعمار آخر، هو ابن عمّه وأخوه بل توأمه المُبين (أو أسوأ من ذلك وإلى حدّ بعيد أيضاً).
  • مساعدة بعض المجتمعات والدّول على “التّخلّص من الخطر الشّيوعيّ” المُلحد أو المادّيّ أو “الكافر”: وهنا أيضاً، تبيّن عموماً أنّنا أمام محاولة استبدال مادّيّة “صديقة” للمقهورين وللمضطّهدين وللمستغلّين.. بمادّيّة أخرى، لكن معادية لهم ولمصالحهم في الأعمّ الأغلب. في الغالب واقعاً: لم يكن الهدف دفع حكم “الملحدين والماديّيّن” (بتمويل من البترودولارات أحياناً كثيرةً).. بل دفع المعادين للاستعمار والمقاومين لأدواته.
  • وصولاً، مع الاختصار والتّبسيط، إلى مناداة المحافظين الجدد وحلفائهم وأصدقائهم بـ”تطبيق الدّيموقراطيّة” ونشرها: تبريراً، كما رأينا لاحقاً، لتدمير جيوش ودول بعض البلاد المزعجة للاستعمار وللصّهيونيّة العالميّة. ثمّ، وصولاً أيضاً إلى: مناداة إدارة أوباما بتحقيق “الرّبيع العربيّ”، أي بالمساعدة على التّخلّص من الحكّام “الدّيكتاتوريّين” العرب.. قبل أن يتبيّن لاحقاً أنّ “ربيع” هؤلاء إنّما هو عبارة عن انتقاء لبعض الأنظمة دون الأخرى، أو عن استبدال ديكتاتور بمن هو أسوأ منه، أو عن استبدال “طاغية” علمانيّ بطاغية متطرّف يُكفّر ويُذبّح عن شمال وعن يمين (والأفضل للقوى الاستعماريّة، حسبما تبيّن أيضاً، أن يُترجَم طغيان هذا الثّائر أو الحاكم المتطرّف، حيث أمكن، على شكل حروب مذهبيّة داخليّة أو على شكل ابادات جماعيّة.. لمكوّنات كانت هذه القوى تدّعي حمايتها في السّابق! راقب معي جيّداً، عزيزي القارئ، وبموضوعيّة، هذا النّفاق الكبير الذي كنّا أمامه.. وما زلنا كما سنرى).

الأمثلة كثيرة ومتعدّدة كما تعلم عزيزي القارئ. ولكنّ الفكرة المركزيّة هي التّالية: عند كلّ قفزة، أو طفرة، أو عودة، أو محاولة تقدّم له.. يأتيك الاستعمار هذا بشعار مفتاحيّ جديد للمرحلة الجديدة وللغزو الجديد. شعارٌ يُخدّر به بعض النّخب. يُوسوس به مستخدماً أدواته الاعلاميّة والأنظمة والتّيّارات الخاضعة له. يُغنّي به ليل نهار على مسامع الشّعوب والشّباب وحتّى الطلّاب. يطلب من فئة “متعلّمة” معيّنة – والعياذ بالله – تبنّيه وتسويقه.

في الظّاهر، غالباً ما يبدو هذا الشّعار في محلّه وفي توقيته المناسب. أمّا في الحقيقة، وكما يتبيّن مع الوقت، فإنّ الهدف هُو مجرّد تحقيق أهداف ومصالح المستعمر.

والأرجح أنّ هذا ما ينطبق اليوم: على شعار “بناء الدّولة” الذي بتنا نسمع به أكثر من سماعنا لأناشيدنا الوطنيّة، وأحياناً من على منابر ووسائل اعلاميّة لا يعرف رعاتها – في الأغلب – لا مواطنة ولا ديموقراطيّة ولا مؤسّسات حقيقيّة ولا ليبراليّة ولا اشتراكيّة ولا أيّ مفهوم جدّيّ معاصر ربّما.

وبالطّبع، تُرافق شعارنا الحبيب، أي “بناء الدّولة”: شعارات رديفة إن شئت؛ يواظب بعض التّكنوقراط من أهل الدّيماغوجيّة على تردادها والايحاء بأنّهم متمكّنون ممّا يقولونه نظريّاً ومفاهيميّاً. من مثل ذلك طبعاً: السّيادة (سيادة مع الاستعمار عزيزي؟)؛ والأمن والاستقرار (بحسب مصالح المستعمر طبعاً)؛ واحتكار أو حصر السّلاح (أي، عمليّاً، منع أي مناوئ للاستعمار من المقاومة)؛ والاحتكام إلى القوانين والمؤسّسات الدّوليّة لنيل الحقوق (هل شاهدت هذا الفيلم من قبل؟)؛ والتّركيز على أهداف النّموّ الاقتصاديّ بشكل رئيسيّ (أي التّركيز، في الحقيقة، على استهلاك بضاعة المستعمر، بضاعته الفكريّة وبضاعته التّجاريّة).. إلى آخر القائمة.

إقرأ على موقع 180  رئيسة لجنة الدفاع الفرنسية: قوة التدخل إلى لبنان أمام مؤتمر 4 آب

إنّ في يد المستعمر والاستعمار ما يُمكن اعتبار أنّه مصنع شبه-فكريّ (لا فكريّ)/ واعلاميّ.. هدفه تحويل المفاهيم التي قد تكون محقّة ومناسبة في المبدأ، إلى مجرّد شعارات وأدوات لخدمة أهدافه ومصالحه.

ولذلك، عزيزي القارئ، فقد تشعر اليوم بأنّ هذا المفهوم الحديث النّبيل، أي مفهوم “بناء دولة المواطنة”.. يتعرّض حاليّاً – من على منابر لبنانيّة وعربيّة – للتّحريف وللتّحوير وللتّفريغ، بل، صدّقني، للسّرقة وللنّصب وللاحتيال!

أمّا سؤال ما العمل، فأعتقد أنّ الإجابة عليه:

(١) تبدأ من التّشديد على أهمّيّة ادراك وجود هذا التّوجّه، وهذا الفيلم السّينمائيّ السّمج؛

(٢) ثمّ، تكتمل من خلال العمل على كشف هذه الخديعة وهذا التّغرير على الدّوام، لا سيّما من خلال المطالبة – العمليّة – ببناء دولة.. لكن ذات سيادة حقيقيّة وذات استقلال حقيقيّ؛ ومن خلال المطالبة بحصريّة السّلاح بيد الدّولة.. لكن مع وجود استراتيجيّة أمن وطنيّ جدّيّة وجيش وطنيّ قادر على المواجهة؛ ومن خلال المطالبة بالاحتكام إلى القوانين الدّوليّة وما إلى ذلك.. لكن مع ابقاء وسائل القوّة البديلة قائمة في حال فشل هذا الاحتكام، لا سيّما مع عدوّ مثل “إسرائيل”.. إلى آخر القائمة.

فهل سننقذ سويّاً.. مفهوم “بناء الدّولة”، من أيدي المستعمرين والمغترّين بهم وأدواتهم وأعوانهم أجمَعين؟ أم سنظلّ نستمع إلى شخصيّات ومنصّات المستعمر وحلفائه؟

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  مصطفى اللبّاد.. عن "حدائق" لم تنته