الانخراط الدولي ليس طارئاً على سوريا.. وذاكرة العام 2014 ما تزال غضّة: يوم هدّد أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة آنذاك، بأن «المعركة ستنتقل إلى داركم»، محذّرًا من «حلف الشر» الذي تقوده واشنطن، ويوم كانت أولى موجات القصف تطارد «جماعة خراسان» التي ضمّت كوادر قيادية بارزة من تنظيم “القاعدة” بتوجيه من أيمن الظواهري لدعم «النصرة». وقد قتلت غارات التحالف جميع أعضاء المجموعة التي كان يقودها الكويتي محسن الفضلي.
هذه الخلفية تفسّر حساسية اللحظة: ما كان «عداءً عقديًا» تحوّل اليوم إلى ترتيبٍ سياسي تُحاول السلطة الجديدة إحاطته بغطاء فقهي وقانوني كي لا ينفجر الداخل عند أول احتكاك.

في قلب هذا التحوّل جاءت الفتاوى لتقلب زاوية النظر: عبد الله المحيسني أعاد تأطير المسألة من «باب الإعانة والموالاة» إلى «فقه المآلات»، معتبرًا أن الدخول في التفاهم يقلّل الأضرار ويُبسط سلطان الدولة؛ ووزير العدل مظهر الويسي وضع لها الإطار القانوني: «ما يُباح للدولة في تقدير المصالح لا يُباح للأفراد».
عمليًا، الفتوى صارت لغة عبور: تُهدِّئ القاعدة الاجتماعية التي غذّاها خطابُ العِداء للغرب لسنوات، وتمنح القرار السياسي فرصة اختبارٍ في الميدان بدل أن يتحوّل فورًا إلى مادة تعبئة مضادة.
لكنّ الجديد الحاسم لا يتعلّق بالخطاب وحده، بل بالواقع على الأرض بعد القرار 2799. فالتزامات دمشق لا تتوقف عند محاربة «داعش» وفق مفهومٍ ضيّق، بل تشمل كياناتٍ مدرجة على لائحة القرار 1267، بينها الحزب الإسلامي التركستاني/الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية (ETIM/TIP)، كتيبة الإمام البخاري (KIB)، كتيبة التوحيد والجهاد (KTJ)، أنصار الإسلام، وجند الأقصى. وهذه إدراجات أممية نافذة ومحدثة سرديًا في موقع مجلس الأمن الدولي نفسه. وبقدر ما تبدو هذه الجملة «تقنية»، بقدر ما تُصبح مادّةً متفجرة حين نضع بجانبها واقع الانضمام إلى الجيش: عناصر وكتل من هذه البيئات صارت فعلًا تحت راية وزارة الدفاع الجديدة، وهذا بالذات ما يجعل تنفيذ القرار الدولي الرقم 2799 اختبارًا معقّدًا إلى حد التناقض.
هنا تبرز عقدة «الفرقة 82» التي تمثّل المظلّة الأكبر لضمّ المقاتلين الأجانب داخل الجيش السوري الجديد، وبموجبها أصبح جزء كبير من الشبكات التركستانية والقوقازية وامتدادات «التوحيد والجهاد» و«البخاري» يتحرّك ضمن هيكل منضبط إداريًا، مع احتفاظه بطبقات انتماء وعلاقات لا تُمحى بقرارٍ فوقيّ.
المعنى السياسي بسيط وخطِر في آن: الكيانات التي تُسميها الأمم المتحدة «إرهابية» صار لها حضورٌ مؤطّر داخل مؤسسة عسكرية رسمية تريد الآن أن تُثبت للخارج أنها شريكٌ منضبط في مكافحة الإرهاب. وبالتالي فإن أيّ اصطدام بين «القائمة» و«الفرقة» لن يكون ورقيًا؛ بل سيكون مباشرًا على الضبط والولاء ودوائر القرار.
لهذا تحديدًا تبدو الفتوى هنا أداة براغماتية لا ترفًا لغويًا. هي جسرٌ لغويّ شرعيّ بين عالمين: عالم القوائم الذي يطلب استهداف كيانات بعينها، بأسمائها وأرقامها المرجعية، وعالم الميدان الذي يضمّ مقاتلين وولاءات وعلاقات سلاح وخبرة داخل تشكيلات الجيش الجديد. وعندما تقول السلطة «تعاون سياسي» بينما تسميه واشنطن «عضوية» وتشير وثائق الأمم المتحدة إلى التزامات باسم القرار الدولي الرقم 1267، فالمفارقة لا تعيش في الكلمات، بل في أقسام التسليح، ودوائر الاستخبارات، ومسارات الاعتقال والتسليم والمحاكمة، وكلّها ساحاتٌ يُقاس فيها التعاون لا بالنوايا بل بالمخرجات.
المعضلة الأخلاقية-القانونية تتضاعف عند الأفراد. فالأسماء التي اعتادت ساحات الشمال التعامل معها كمرجعيات شرعية أو عسكرية حاضرة في قوائم الغرب: المحيسني نفسه- صاحب الفتوى- على لوائح العقوبات الأميركية منذ 2016، وسامي العريدي، ومسلم الشيشاني، وأيرات فاخيتوف، ونصرت إماموفيتش وعشرات الأسماء الأخرى في قائمة مجلس الأمن وملحقات وزارة الخزانة الأميركية وقرارات الاتحاد الأوروبي.
جزء من هذه الشبكات تحوّل فيزيائيًا إلى داخل مؤسسات الدولة، وجزءٌ آخر بقي على هامشها، لكنّ الجميع موجودون في نفس الحقل السياسي الذي يطالبه القرار 2799 بتصفير «المخاطر» فيه.. وأيُّ خطأ في التعامل يمكن أن يتحوّل إلى صدمة هوية داخل الجيش نفسه، لا سيما إذا قرأته قواعد “الفرقة 82” كاستهدافٍ لجماعاتٍ “مهاجرة” «قاتلت داعش» بالأمس وصارت اليوم «في مرمى العقوبات».
هنا تتضح وظيفة «التعاون السياسي» كما تصفها دمشق: غطاء قانوني- دبلوماسي لزمنِ اختبار، لا إعلان حربٍ عمياء. على الأرض، تُظهر الحملات الأمنية ضد خلايا «داعش» أن الدولة تريد قياسًا سريعًا لجدّيتها أمام الخارج، لكنها تعي أيضًا أن معركة القوائم ليست مطاردة أشباح؛ إنها إدارة انتقالٍ تنظيمي داخل مؤسسة عسكرية تضمّ كتلة أجانب كبيرة. لذلك يصبح السؤال العملي هو: من يملك حق النقض العملياتي داخل سوريا حين تتقاطع أوامر «التعاون» مع حساسية المقاتلين الأجانب؟ وكيف تُصان سلسلة القيادة إذا تصادمت مقتضيات القرار 1267 مع شبكة الولاءات التي تبني عليها الفرقة تماسكها؟
باختصار، النجاح في هذا الملف يُقاس بعدد الفتاوى التي تُمنع وليس تلك التي تصدر. إذا استطاعت السلطة تحويل “التعاون السياسي” إلى بروتوكولات واضحة وقابلة للقياس (مثل وجود ضبط استخباري بناءً على تعليمات رسمية، ورقابة قضائية شاملة، ومعايير جديدة تعيد تعريف الولاء لصالح الدولة بدلاً من الجماعة)، فإنها ستحتوي التناقضات بدلاً من تفجرها، وتستخدم القرار 2799 كوسيلة للاعتراف الدولي. أما إذا لم تنجح، فقد نشهد انشقاقات متعددة: انفصال خلايا داخل الفرقة، أو ظهور مجموعات جديدة شمالاً تحت شعارات مثل “الدفاع عن الدين” أو “حماية المهاجرين”، أو حتى تحركات صامتة تضعف الجيش وتؤدي إلى فقدان الانسجام في اتخاذ القرار.
الدرس من العام 2014 حاضرٌ بثيابه الجديدة: حين تتصادم اللغة مع الواقع ينتصر الميدان في النهاية. والآن، الميدان ليس بين «تحالف» و«جبهة» فحسب، بل في قلب مؤسسةٍ عسكرية تريد أن تجمع المُدرَج أمميًا والمنضبط وطنيًا في سطرٍ واحد. الفتوى هنا ليست غاية، بل أداة عبور مؤقتة؛ إمّا أن تُفضي إلى دولة تُعرِّف نفسها ضد الإرهاب بمعناه القانوني والعملي معًا، وإمّا أن تُخفي رثاثةَ توازنٍ لن يصمد عند أول اختبارٍ حقيقيّ للقوائم والألوية والولاءات.
