

عندما تقتل إسرائيل شادي صبحي شرارة وأطفاله هادي وسيلين وسيلان وتترك الإبنة الرابعة أسيرة الخطر في العناية الفائقة.. والأم أسيرة الوجع في فراش المستشفى، ماذا يُمكن أن يكون موقفك إذا كنت أباً أو أماً أو إنساناً من لحم ودم؟
وحين تُمسك أمّ حقيبة طفلها المدرسية كأنها آخر أثرٍ من بيتٍ تحوّل إلى غبار، ينقلب العالم في لحظة. تتقلّص كلّ العناوين الكبيرة إلى سؤال واحد يقطع الأنفاس: من يُقرّر مَن يعيش؟ وبأي ثمن يُشترى الخبز والماء والدواء.. والسقف؟
هناك، في المسافة بين شهقة وأخرى، تُستدعى ذاكرتنا الأخلاقية إلى الامتحان، ويُستفزّ الضمير العام ليتّخذ قرارًا بسيطًا في ظاهره، عميقًا في أثره: أين نضع قرشنا؟ أفي يدٍ تمسح دمعة طفل خرج من تحت الركام، أم في ماكينة تغذّي منظومة اختارت القتل سياسة والإرهاب نهجاً؟
ليس هذا السؤال طرحاً أخلاقيّاً عاطفيّاً؛ بل إنه قرار عمليّ يتكرر آلاف المرات في كلّ سوق وفي كلّ ماكينة دفع.
وهنا تحديداً تبدأ المقاطعة عملًا سياسيًا متعدد الطبقات. هي إذاً ليست اعتراضًا نرجسيًا، ولا مجردَ لافتةٍ في حنايا الفضاء الرقمي؛ بل هي استدعاء يوميّ لمسؤوليّتنا كـ«بشر». استدعاءٌ يُحوّل الفعل الاستهلاكيّ إلى فعل محاسبة. عندما نمتنع عن شراء منتجٍ أو خدمات تربطها سلاسل إنتاجٍ بآلة احتلال، نحن لا نمارس ردّ فعل انتقاميّ فقط، بل إننا نُعيد توجيه مواردنا، وننشئ بدائل، ونُرغم قوّةَ المال على قراءة أصوات تستطيع السياسة الرسمية تجاهُلها من دون أن يرفّ لها جفن.
هكذا لا تعود المقاطعة نفَس غضب عابرًا ولا زينة شعارات على شبكات مزدحمة. هي لغة الناس حين يرفض عالم المصالح أن يسمع أنين الأمهات وصرخات الأطفال. فتتحوّل العادات الصغيرة إلى سياجٍ أخلاقيّ يحمي ما تبقّى من العدالة، ويمنح الاقتصاد المحلّي فرصةً ليست ترفًا، بل هي حقّ وحاجة.
الغضب أكثر من انفعال
تنقض المقاطعة شرعيّة آلة سياسية تتغذّى على الصمت والاصطفاف الدوليّ. تلك الآلة التي تُحوِّلُ القتل إلى خيار منظّم، والتهجير إلى حقل استراتيجيّ، تصبح أمام اقتصاد يقيسها بأرباحٍ وخسائر. وما اللغة الوحيدة التي تفهمها أرباح الشركات إن لم تكن الخسارة الماليّة؟ هذا هو جوهرُ الأمر: أن نحوّل غضبنا المجرّد إلى تأثير ملموس في قياسات السوق التي تُحرّك قرارات مجالسِ الإدارة. انخفاض في المبيعات هنا يعني خسائر ضخمة في الأرباح، ثمّ تراجعًا في سعر السهم، ثمّ إعادة تقييم لمخططات التوسّع.
لكن، وعلى اتّساع البُعد الاقتصادي، ثمّة بُعد أمنيّ-رقميّ بالغ الخطورة. فتطبيقات التوصيل والدفع والاشتراكات تُنتِج خرائط سلوكيّة دقيقة: ماذا نشتري؟ متى نكون في البيت؟ مع من نتشارك الطلب؟ أيّ بطاقات نستخدم؟ وأيّ مسارات نفضّل؟
تُحلََّل هذه البيانات بوسائط الذكاء الاصطناعي لتشكيل “بروفايلات” قابلة للبيع والاستغلال. وحين ترتبط المنصّات بشركات داعمة للاحتلال أو متداخلة معه، تتجاوز المسألة الأخلاق إلى السيادة والأمن. فعندما تصبح البنى التحتية الرقمية جزءًا من منظومة أوسعَ يمكن أن تُسهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تعزيز قدرة آلة احتلال على إدارة مواردها أو تمويلها، يتعدّى الامتناع عن الشراء مجرد موقف أخلاقيّ، إلى حماية سيادة ومعلومة.. وحياة. وهنا تحديداً تصبح المقاطعة إجراءً وقائيًّا لإدارة مخاطر وطنيّة، بقدرِ ما هي موقفٌ إنسانيّ.
مجتمع غير متساهل
يطرح البعض سؤال الرحمة المرتعشة: ماذا عن العاملين في فروع هذه العلامات؟ هل تخلق المقاطعة بطالة وتزيد معاناة الأكثر هشاشة؟ الجواب ليس تبسيطيًا؛ إنّما التاريخ والاقتصاد يُظهران حركات تعويض تتولّد عند تحول الطلب. عندما يتبدّل الميل الاستهلاكي إلى بدائل محليّة، تنمو مؤسسات صغيرة ومتوسّطة، تُنشئ وظائف جديدة، وتُعيد تدوير الأرباح داخل المجتمع بدل أن تُحوّل ربحًا مرَحّلًا إلى خارجِ الدورة. هذا لا يعني أنَّ العملية خالية من آثار جانبيّة؛ لكنها عمليّة إعادة توازن اقتصادي واجتماعي، لا تسلخ الناس من مورد رزقهم بل تكافح لكي تستبدل سوقًا مرتبطة بسياسات عنيفة بسوق تمسك بزمامه مجتمعات محليّة أكثر مسؤوليةً وعدلاً.
قوّةُ المقاطعة الحقيقية ليست في لحظة السخط فقط، بل في القدرة على تحويل موجة عاطفيّة إلى عادة اجتماعيّة مستدامة وإلى معيار ثقافي. كلُّ موجة من موجات الامتناع ترفع منسوب الحساسية لدى الجمهور: هل يوجد بديل غير متورّط؟ هذه الأعراف الصغيرة هي رأسمال التغيير. تبني مجتمعًا لا يعود متساهلاً في تبرير الاستمرار في شراء ما يشرعنُ العنف. ومع تكرار الممارسة، تتكوّن شبكات إنتاج محليّة أقوى، وتضعف مقوّمات الاقتصادات التي استفادت من صمت العالم.
هل هي موجةٌ رمزيّة محكومةٌ بالموسميّة؟ التاريخ يجيب بالنفي. القاعدة واحدة: سحبُ الرضا الاجتماعيّ وتحويله ضغطًا منظّمًا يُغيّر سلوك الشركات والسياسات العامّة الخانعة تجاه الهيبة الأخلاقية.
قانونيًا، يسند ذلك حريّة الاختيار والتعبير في الأسواق: الحقّ في الشراء والامتناع، في نقد المنتجات وممارسات الشركات، وفي تنظيم ضغط سلميّ لا يتعدّى على الأفراد والكرامات. كما ترفد مواثيق “الاستثمار المسؤول” و”المشتريات الأخلاقية” هذه الممارسة بإطار إرشاديّ يؤكّد أنّ القرار الاستهلاكي جزءٌ من المحاسبة المجتمعيّة.
هذا، وتحدّ المقاطعة من قدرة السرديّة الرسميّة على احتكار الفضاء العام. حكومات جرّمت انتقاد إسرائيل تعجز عن كبح موجات الاحتجاج في جامعات كبرى، فتتكشّف هشاشةُ الهالة الأخلاقيّة التي طالما تمتّعت بها الدولة العبرية. ليس هذا وعدًا بعزلةٍ كاملةٍ وشيكة، لكنه انتقال جوهريّ في علاقتها بالعالم: غزةُ بدمها، والمقاطعةُ بوعيها، والجامعاتُ بمواقفها، وآلافُ القرارات الصغيرة في المطابخ والبلديّات.. كلّها تُضعف الهيبة الزائفة، وتفتح طريقًا لمعادلةٍ أكثر عدلًا.
لسنا أمام رفاهيةٍ أخلاقيّة ولا وصفةٍ سحريّة. نحن أمام منهجِ عيشٍ عامّ: أن نميّز بين الضروريّ والكماليّ، وأن نستخدم مصفوفةً عمليّةً تُرشّد المقاطعة بدل إطلاقها على عواهنها؛ أن نُديم التنظيم والتدقيق لا التحريض العشوائي؛ وأن نمنح بدائلنا الوطنيّة والإقليميّة فرصةً عادلة. بهذا فقط تستعيد السلع معناها البسيط: وسائل معيشة لا أدوات تواطؤ. وبهذا فقط يتجاوز فعلُ الشراء حدودَ “الراحة” إلى مقامِ الشهادة: ألّا نكون شركاء، ولو بقرشٍ واحد، في سفك دمِ إنسان أو إزهاق روحه. ليس المطلوبُ مزايدةً على مَن تعوقه الحاجةُ أو المهنة أو الضرورةُ عن الانسحاب الكلّي الآن؛ المطلوبُ حفظُ الاتّجاه العامّ، ومراكمةُ الممكن، ووصلُ موجات المقاطعة بخيطٍ لا ينقطع. فإذا هدأ الغبار يومًا فوق المدن المهدّمة، بقي الدرسُ الذي يتجاوز زمنَ الحرب: إنّ عربةَ التسوّق الصامتة قادرةٌ على إعادة صياغة علاقةٍ غير متكافئة، وعلى إسقاط شرعيّة قاتلٍ في السوق كما سقطت في الضمير. وذلك، في المحصّلة، تعريفٌ بسيطٌ لعدالةٍ لا تُقاس ببلاغة الخطب الاستنكارية الفارغة، بل بوعي الناس حين يمدّون أياديهم إلى الرفوف.